البقية الباقية من أحفاد ابن جبير

fdhfsg9341.jpg

لا نبالغ إذا قلنا إن الثلة المباركة التي صدّق عليها القضاء الفاجر في مصر حكم الإعدام؛ هم من البقية الباقية من أحفاد الفقيه سعيد بن جبير، الذي أعدمه ظلماً وعدوانا الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق لبني أمية وعدد كبير من الفقهاء، بجريمة نقضهم البيعة لعبد الملك بن مروان رحمهم الله.

إن ما دعاني لهذا التشبيه الموقف البطولي لهذه الثلة المباركة وبكل عنفوان وإباء وتحدي لهذا القضاء الفاجر غير آبهين بهذا الحكم سواء كان براءة أو اعدام، لأن الجميع سيقفون في محكمة رب السماء والأرض ويقال للقضاة المجرمين: بأي ذنب حكمتم على هؤلاء الفتية المؤمنة بالإعدام؟

لقد نقض سعيد بن جبير البيعة لما كان يراه من ظلم الحجاج وقسوته وجبروته، وعندما هزم هو ومن معه توارى سعيد بن جبير عن الأنظار وظل يضرب في أرض الله الواسعة مستخفياً عن الحجاج وعيونه، حتى لجأ إلى قرية صغيرة من أراضي مكة، ومضت عشر سنوات وهو مختف كانت كافية لأن تطفئ نيران الحجاج المتقدة في قلبه، وأن تزيل ما في نفسه من حقد على سعيد، لكن ظن سعيد كان في غير محله، فقد علم الحجاج بمكان سعيد بن جبير فأرسل إليه سرية من جنوده ألقت القبض عليه واقتادته مكبلاً بالقيود من مكة إلى العراق، وأدخل على الحجاج، ودارت بينهما محاورة أرادها الحجاج محاكمة صورية، وأرادها التابعي الجليل إقامة للحجة على الحجاج أمام الله والناس.

حوار تاريخي بين القاتل والمقتول

سأله الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال الحجاج: بل شقي بن كسير، فقال سعيد: أمي سمتني وهي أعلم باسمي منك.

قال الحجاج: شقيت وشقيت أمك. فقال سعيد: لا يعلم الغيب إلا الله تعالى.

قال الحجاج: والله لأبدلنك بدنياك ناراً تلظى. قال سعيد: لو أعلم أن بيدك ذلك لاتخذتك إلهاً.

سأله الحجاج عن الخلفاء من بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيجزون بأعمالهم فمسرور ومثبور، ولست عليهم بوكيل.

وحين سأله عن علي بن أبي طالب، قال: من أولهم إسلاماً وأقدمهم هجرة وأعظمهم فضلاً، زوجه الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-أحب بناته إليه.

قال: أفي الجنة هو أم في النار؟، قال سعيد: لو أدخلت الجنة وفيها أهلها، وأدخلت النار وفيها أهلها لعلمت يا حجاج، فما سؤالك عن علم الغيب يا حجاج وقد حجب عنك؟

ولما سأله الحجاج عن رأيه فيه قال: أعفني. قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك. قال سعيد: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله تعالى، قد ظهر منك جور وجرأة على معاصي الله تعالى، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة، وهي التي تقحمك الهلاك. قال الحجاج: فأي رجل أنا؟ قال سعيد: يوم القيامة تخبر.

قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك.

قال ابن جبير: إذن تفسد عليَّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، فقال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟ فقال سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.

قال: أتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فمن الله، أما أنت فلا براءة لك ولا عذر، فقال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما ذهبوا به ضحك ابن جبير، قال الحجاج: ردوه، فلما ردوه قال: مم ضحكت؟، فقال سعيد: تعجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عنك، فأمر الحجاج بنطع فبسط، وقال: اذبحوه، فكان استشهاد سعيد بن جبير في سنة أربع وتسعين وكان يومئذ ابن تسع وأربعين سنة. ومات ولسانه رطب بذكر الله.

ولم يعش الحجاج بعد مقتل سعيد إلا ست عشرة ليلة مرض خلالها، وظل يردد: مالي ولسعيد بن جبير، كلما أردت النوم أخذ برجلي، ثم يأخذ بمجمع ثوبي، ويقول لي: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ الحجاج مذعوراً وهو يقول: مالي ولسعيد بن جبير؟

fdhfsg9342.jpg

تشابه في الظلم والجبروت

وتتكرر الجريمة بعد ألف وأربعمائة سنة وتتغير الشخوص، يمثل دور الحجاج القاتل عبد الفتاح السيسي، وقضائه الفاجر الضال والمضلل، فقد قال مسؤول قضائي مصري إن محكمة النقض المصرية أيدت أحكاما بالإعدام بحق 12 شخصا بينهم قيادات لجماعة "الإخوان المسلمون" في مصر ضمن قضية اعتصام رابعة العدوية التي يعود تاريخها إلى عام 2013.

وقال المسؤول إن "محكمة النقض أيدت اليوم الاثنين 14/6/2021 إعدام 12 متهما، من بينهم الداعية صفوت حجازي، والدكتور محمد البلتاجي والأستاذ عصام العريان ومفتي الجماعة عبد الرحمن البر"، مشيرا إلى انقضاء الدعوة بالنسبة للعريان لوفاته. كما "قررت تخفيف العقوبة لـ31 متهما من الإعدام إلى السجن مؤبد" بحسب المسؤول.

وفي 2018 قضت محكمة جنايات مصرية بإعدام 75 من أنصار الرئيس الراحل محمد مرسي بعد إدانتهم بالقتل ومقاومة قوات الأمن أثناء فض اعتصامهم في القاهرة، ما أسفر عن مقتل المئات منهم في 13 آب/أغسطس 2013.

كما شملت أحكام المحكمة السجن 15 عاما لـ 374 متهما، والسجن 10 سنوات لمتهم واحد هو أسامة مرسي، ابن الرئيس السابق، والسجن 5 سنوات لـ215 متهما.

ويقف المحكوم عليهما بالموت نفس الموقف الذي وقفه ابن جبير في وجه الحجاج، غير آبهين بما تقضيه محكمة العهر والفجور بحقهم، فالشهادة في سبيل الله أعز أمانيهم، وقف الشيخان الجليلان "الداعية صفوت الشريف والدكتور محمد البلتاجي" بكل أنفة وعز وكبرياء وشموخ وهما يرفعان شعار رابعة العدوية، التي ارتكب فيها الجيش المصري أبشع مجزرة في تاريخ مصر الحديث، حيث قتل المئات من نخب مصر ومفكريهم وعلمائهم وأطبائهم وأساتذة جامعاتهم، ولسان حالهم يقول: "غدا في محكمة الله نلتقي وهناك يقام العدل!

وسرب القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، وعضو المكتب التنفيذي لحزب الحرية والعدالة، محمد البلتاجي المحكوم عليه بالإعدام، مقالا تناول فيه ظروف محاكمته ورفاقه أمام القضاء المصري، والتهم الموجهة لهم.

وتناول في المقال أيضا ما يروج له النظام المصري من أن ثورة 25 يناير تمثل احتلالا خارجيا، سهل للإخوان أن يسيطروا على السلطة في مصر، كما أنه تناول ما يحاكم من أجله هو والمتهمون معه أمام القضاء، أنهم سهلوا الاحتلال الخارجي وقاموا بقيادته.

وفي ما يأتي بعض ما جاء في المقال:

يقول البلتاجي في مقاله: نزلت ظهر الثلاثاء 25 كانون الثاني/ يناير 2011 -ومعي زوجتي وأولادي جميعا-إلى دار القضاء العالي، ثم إلى ميدان التحرير بقلب القاهرة، وانطلقنا في قلب المسيرات الحاشدة عقب صلاة الجمعة (28 كانون الثاني/ يناير) من أمام مسجد رابعة العدوية في مدينة نصر، متجهين إلى ميدان التحرير، فحاصرتنا الشرطة، وأطلقت علينا الرصاص والقنابل، بين رمسيس والتحرير، فسقط منا شهداء.

حينها كانت ابنتي أسماء (14 سنة يومئذ) وأخوها حسام (9 سنوات يومئذ) يدركان -كغيرهم من آلاف الشباب والفتيات المشاركين في المسيرة-أنهما يسطّران صفحة من أروع صفحات تاريخ مصر الحديث، وأنهما قد يدفعان أرواحهما ثمنا للسطر الذي يكتبانه في تلك الصفحة المجيدة.

الأحداث بعد ذلك تحمل الكثير من الآمال والآلام والنجاحات والإخفاقات، وتابعت حتى لقيت أسماءُ ربَّها برصاص قناصة العسكر في مجزرة رابعة يوم 14 آب/ أغسطس 2013، واضطر حسام لمغادرة البلاد مع أمه وإخوته جميعا، بعد أن قُتلت أخته وحُبس أبوه، وصار-وهو تلميذ في الصف الثالث الإعدادي- مطلوبا للقبض عليه، مثل أبيه وأخيه (أنس).

لكن أحدا لم يكن يتصور أن يأتي يوم يقدم فيه المشاركون في ثورة 25 يناير إلى حبل المشنقة، بتهمة مساعدة القوات المسلحة الأجنبية التي احتلت أراضي الدولة، وأسقطت النظام، وأجبرته بالقوة على تسليم السلطة لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين!! (الجماعة السياسية التي أسست حزب الحرية والعدالة، الحاصل على الأغلبية البرلمانية، التي قدمت مرشحها للانتخابات الرئاسية، فانتخبه الشعب).

هذا ليس تهويلا لجذب التعاطف الإنساني مع قضيتنا ومظلوميتنا، وليس نزيفا من أثر السجن الانفرادي والتعذيب والحرمان من كل الحقوق لأكثر من أربع سنوات، ولكنها واحدة من أبشع جرائم الانقلاب العسكري الدموي الذي يجرى في مصر في 3 تموز/ يوليو 2013، فهي لا تقل بشاعة عن الانقلاب ذاته (انقلاب وزير الدفاع على أول رئيس منتخب في أعقاب ثورة عظيمة) وما صحبه وتبعه من مجازر وجرائم وكوارث لا يزال الشعب يذوق مراراتها كل حين، ألا وهي جريمة تزوير التاريخ.

وكان ذلك في محاولة لتغييب وعي المصريين بشأن واحدة من أنصع صفحات التاريخ الحديث، وهي ثورة 25 يناير، التي تابعها العالم لحظة بلحظة، ورآها نموذجا حضاريا إنسانيا فريدا في الثورات، ونجح فيه الشعب المصري العظيم بإرغام مبارك على التنحي.

اليوم، يعتبر الانقلاب ونظامه الحاكم في مصر ثورة 25 يناير "احتلالا أجنبيا" بشكل رسمي، لا أعني ما كان مبارك وعمر سليمان ينعتون به الثورة أنها مؤامرة أجنبية، بل أعني احتلالا أجنبيا مسلحا لأراضي الدولة المصرية.

ويقول النظام ومؤسساته الرسمية اليوم، إنه جرى في 28 كانون الثاني/ يناير 2011 احتلال أجنبي بالفعل استهدف إسقاط الدولة المصرية وتسليمها للإخوان.

تزوير للتاريخ ما بعده تزوير، علَّ هذا التزوير يستنهض شعب مصر للانتفاض مجدداً؛ لاسترجاع كرامته وحريته من نظام باغ متجبر، سلب منه كرامته وحريته ولقمة عيشه، وفرّط في ثروات أرضه وتراثه، وآن لشعب مصر الأصيل، الذي يشهد له التاريخ مواقفه الشجاعة أن ينتفض انتفاضة مضرية في وجه طغاته، ويعيد مصر إلى وجهها الحقيقي الذي عرف عنها وأكسبها لقب "أم الدنيا".

المصدر

*فرنسا 24-14/06/2021

*الخليج-11/6/ 2016

*عربي21-17/1/2018  

وسوم: العدد 934