التصدي لمحاولات استهداف هويتنا الإسلامية مسؤولية الأمة كلها وليست مسؤولية أفراد بعينهم

مما يميّز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، هويتها التي حدد معالمها الوحي، وليس البشر. ومن تلك المعالم، صفة الخيرية مقارنة مع غيرها من أمم المعمور، حيث يقول الله تعالى مخاطبا أفرادها : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )) . ومع أن هذه الخيرية هي إرادته سبحانه وتعالى ، وهي منحة منه لأمة معلومة ، فقد جعل شرط نيلها التزاما معلوما ومحددا بقوله جل وعلا : (( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) ، وهذا يعني أن هذه الهبة الإلهية، أو هذا التكريم، والتشريف، لا يدرك أو ينال بالتمني ، كما يظن كثير من الناس الذين يطربون عند سماع آية الخيرية ، وهم يعتقدون يسر بلوغها دون أداء ثمنها الذي دون أدائه خرط القتاد كما يقال .

 ولقد قدم الله تعالى لبلوغ مرتبة الخيرية بين أمم المعمور، شرط الأمر بالمعروف ، متبوعا بشرط النهي عن المنكر ، وهما عند التأمل أمران متلازمان ، تربط بينهما علاقة تأثير وتأثر ، أو ما يسمى بعلاقة جدلية ،إذ الأمر بالمعروف، هو دفع للمنكر بالضرورة ، لهذا تقدم ذكره في قوله تعالى ، كما أن المنكر هو أيضا دفع للمعروف بالضرورة، وهما يتعاقبان تعاقب الليل والنهار. وقد يقول قائل: ألم يكن  كافيا تكليفه سبحانه وتعالى خير أمة أخرجها للناس بالأمر المعروف، دون النهي عن المنكر، ما دام كل أمر بالمعروف هو دفع للمنكر ؟ والجواب ، هو أنه سبحانه اراد التأكيد على تلازم الأمر والنهي، إذ لو اكتفي بتكليف الأمة بالأمر دون النهي ،لانصرف عن هذا الأخير كثير من الناس ، ظنا منهم أن هذا التكليف الإلهي مقتصر على الأمر وحده ، وأنه لا يشمل النهي ، وبهذا يجد أهل المنكر ذريعة لممارسته  بحرية في غياب النهي عنه .

ولقد بيّن صاحب الرسالة، عليه أفضل الصلوات والسلام كيفية تنفيذ التكليف الإلهي لبلوغ مرتبة الخيرية، كما أخبر بذلك من خضعوا لتربيته من صحابته الكرام رضوان الله عليهم حيث قالوا : " لقد كان عليه السلام يخلّينا قبل أن يحلّينا" ، وفي هذا دليل على أن النفس البشرية، قد تحيد عن الفطرة السوية التي فطرت عليها ، فيحل الاعوجاج عنها محل الاستقامة عليها ، وهذا يقتضي إزالة الاعوجاج من أجل استرجاع الاستقامة ،بهكذا تتحقق التحلية بعد التخلية .

ومعلوم أن الصراع بين الانحراف عن الفطرة السوية ، وبين الاستقامة عليها، كان صراعا منذ بدء الخليقة ، وهو ما يعرف بالصراع بين الخير والشر ، وسيستمر إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، خصوصا مع وجود مخلوق شرير قد ابتليت به البشرية ، وهو إبليس اللعين  الذي يرصدها كل حين  من أجل أن يجعلها تنحرف عن الفطرة في كل شأن من شؤونها  ، وفي كل حال من أحوالها . ولقد كانت مهمة  كل أنبياء ورسل الله صلواته وسلامهم عليهم أجمعين ،هي تخلية من بعثوا فيهم من كل انحراف عن الفطرة السوية  ، وتحليتهم بالاستقامة عليها . ولقد كانت بعثتهم أجمعين كلما كانت كفة الانحراف عن الفطرة السوية  ترجح على كفة الاستقامة عليها .

وبعد الرسالة العالمية الخاتمة ، والموجهة  غلى الناس كافة ، تعيّن على الأمة الإسلامية أن تسد مسد رسولها صلى الله عليه وسلم في مهمة تخلية المنحرفين منهم عن الفطرة السوية ، وتحليتهم بالاستقامة عليها. ولقد ورث علماء هذه الأمة عنه القيام بهذه المهمة ، وهم المؤهلون لمواجهة أئمة الانحراف عن الفطرة السوية في كل زمان ،وفي كل مكان ، ولهذا تعين على الأمة الإسلامية أن تقتدي بهم، وهم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي ورّثهم رسالة التبليغ عنه المتضمنة لعمليتي التخلية والتحلية . وعلى قدر صيانة هؤلاء العلماء للمهمة الموكولة إليهم ، كما أنه على قدر اقتداء الأمة بهم، يكون حجم الاستقامة على الفطرة السوية.

ومعلوم أنه حين يعم الانحراف في الأمة عن الفطرة السوية ، يكون ذلك إما بتقاعس علمائها ،وانشغالهم عن مهمتهم الأساس بغيرها أويكون  باستضعافهم من طرف أهل السلطان المؤيدين للانحراف ، أو بإعراض الأمة عنهم ، والانسياق الأعمى  وراء دعاة الانحراف، الذي يبهرجونه لهم بهرجة مغرية .

وغالبا ما تلوم الأمة الإسلامية في فترات طغيان الانحراف عن الفطرة السوية  علماءها دون أن تلوم نفسها ، علما بأنها قد تكون محقة في لومهم ، وقد تكون مخطئة ، تكون  محقة إذا كان علماؤها مترسّمون كما سماهم أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى، حين يجعل لهم أصحاب السلطان رسوما، تقيدهم ، وتصرفهم عن أداء مهمتهم على الوجه الأكمل ، وتكون  مخطئة إذا ما استضعف أصحاب السلطان علماءها ، وهي حينئذ مطالبة بنصرتهم من خلال التزام ما ينصحونها به من سبل تنكب الانحراف عن الفطرة السوية ، وسبل نشدان الاستقامة عليها .والانتصاح بنصح علمائها يكون بترجمة أقوالهم إلى أحوال الاستقامة لمواجهة أحوال الانحراف ، خصوصا وأن دعاة الانحراف يراهنون على كثرة المنحرفين للمطالبة بقوانين تؤطر الانحراف ، وتحميه ، وتضفي عليه المشروعية ، وتلزم به من لا يقبلونه تحت ذريعة كون المنخرطين فيه هم الأغلبية . ولقد قص علينا القرآن الكريم قصص أصحاب هذه الذريعة الواهية ، ذريعة الأغلبية والأكثرة المخدوعة  في عصور مختلفة ، وقص علينا كيف كان الأنبياء والرسل يواجهونهم ، ويدحضون ذريعتهم ، ويصلحون ما أفسدوه من فطرة أقوامهم المغرر بهم  .

وإننا اليوم لنعيش في مجتمعنا محاولات يائسة من دعاة الانحراف عن الفطرة السوية ، وقد ضخمها الإعلام المأجور تضخيما غير مسبوق  للإيهام بأن الراغبين في هذا الانحراف، قد صاروا أغلبية ، وذلك يقتضي في نظرهم أن يراجع كل ما يمت بصلة إلى الاستقامة ،لأنه  أصبح مطلب أغلبية  يتوهمونها ، ويطمعون أن تصدق الأمة توهمهم ، فتسلس لهم قيادها .

والمطلوب من الأمة اليوم إن كانت ترغب في صيانة خيرتها التي من أجلها أخرجت للناس، أن تواجه أقوال دعاة الانحراف بأحوال الاستقامة على الفطرة السوية ، وتصون ناشئتها  على وجه الخصوص التي هي أول ما يستهدفه الانحراف من خلال استغلال قوة أقوى الغرائز فيهم، إذ عن طريق إغرائهم بالدعوة إلى إباحة الجنس ، وهو الوتر الحساس  من مثلية، ورضائية، يستدرجون إلى كل أنواع الانحراف عن الفطرة السوية من عري، وسفور، وإجهاض ،وتهتك، وإفطار في رمضان ... حتى ينتهي بهم الأمر إلى الااستخفاف بكتاب ربهم ، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فتكون النتيجة ،هي الردة عن دينهم الذي ارتضاه لهم خالقهم  كي يكونوا به خير أمة أخرجت للناس .

وخلاصة القول أن التصدي لمحاولات استهداف هويتنا الإسلامية، هي مسوؤلية أمة  كلها، وليست مسؤولية أفراد بعينهم .

وسوم: العدد 1037