الاندلاق العربي نحو التطبيع مع الكيان… ما رأي الشعوب؟

يتداول عدد من المفكرين والكتاب والمثقفين والسياسيين الفلسطينيين هذه الأيام وثيقة للتوقيع عليها تحت عنوان «رسالة الألف توقيع الموجهة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان»، التي تثمن موقفه من عدم الانجرار نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني. وتذكّر الرسالة بمواقف المملكة التاريخية المناصرة للقضية الفلسطينية «والداعمة بلا تحفظ لقضية العرب والمسلمين الأولى خلال العقود الماضية». وأضاف الموقعون الألف في الرسالة: «إننا نستهجن وندين الضغط الأمريكي والإسرائيلي على المملكة، الذي يريد مواصلة التطبيع المجاني على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة».

تتزامن هذه المبادرة مع مقال مطول للكاتب المشهور في جريدة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان، يوم 4 حزيران/يونيو بعنوان: «من تل أبيب إلى الرياض» يقول في الجزء الأخير من المقال: «هذه الأيام تتحادث إسرائيل والسعودية بهدوء حول شروط السلام. وهناك ثلاث زوايا للمسألة: تريد السعودية مساعدة إسرائيل لضمان تأييد الكونغرس الأمريكي لاتفاقية أمنية طويلة المدى، وتريد برنامجا سلميا للطاقة النووية، وأخيرا الحصول على أحدث الأسلحة في الترسانة الأمريكية، مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. فإذا ما ساعدت إسرائيل السعودية في تحقيق هذه الشروط الثلاثة فستطبع السعودية العلاقات مع إسرائيل، من دون أن تطلب أي تنازلات من إسرائيل بخصوص الفلسطينيين». ثم يضيف فريدمان متعجبا: «لا أصدق».

الغريب في الأمر أنه في الوقت الذي تقطع شركات كبرى وجامعات علاقاتها الاستثمارية والسياسية مع الكيان الصهيوني، وتعلن مدن عن التراجع عن سياساتها السابقة حول العلاقة مع إسرائيل مثل، برشلونة في إسبانيا ومدينة بيت لحم البرازيلية، تأتينا الأخبار عن مزيد من تعميق العلاقات بين دول التطبيع العربي والكيان، لدرجة تثير الغثاء والحنق والازدراء. ونضيف إذا دخلت السعودية خيمة التطبيع، ستكون خطوة قاصمة الظهر للفلسطينيين، وستتغير تماما معادلة الصراع العربي الإسرائيلي مرة وإلى الأبد، حيث ستلحق بالسعودية دول عربية وإسلامية عديدة، تنتظر هذا التحول بشوق لتندلق هي الأخرى نحو التطبيع. هذا السيناريو المرعب يجعلنا ننبه إلى أن القضية الفلسطينية العادلة، التي تحصد الانتصارات في الخارج وتقف معها كل منظمات حقوق الإنسان والأحزاب التقدمية وغالبية الدول الأعضاء في الجمعية العامة، تتعرض لانتكاسات كبرى بين الأهل والإخوة والجيران. وللتدليل على هذا الاندلاق فالصادرات العسكرية الإسرائيلية إلى دول التطبيع ارتفعت من 853 مليون دولار عام 2021 إلى 2.96 مليار دولار عام 2022 أي بارتفاع من 9 في المئة إلى 26 في المئة.

الذي يثير مزيدا من الشك حول توسيع التطبيع العربي مع الكيان، تصويت مجلس النواب الأمريكي، مساء الثلاثاء الفائت، على مشروع قانون يدعو الرئيس بايدن لإنشاء منصب مبعوث خاص جديد في وزارة الخارجية الأمريكية مخصص لاتفاقات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل «اتفاقات أبراهام» بهدف دمج إسرائيل بشكل مستمر في منطقة الشرق الأوسط الكبير، وقد اعتمد القرار بغالبية 413 صوتا، واعتراض 13، وامتناع ثمانية عن التصويت. وقد رصدنا في الأيام والأسابيع الأخيرة مجموعة ممارسات من قبل الأنظمة العربية تشير إلى هذا الاندلاق والتودد للكيان، وتسخين العلاقات، رغم أن الشعوب العربية ما زالت على مواقفها الثابتة من رفض هذا الكيان، واعتباره الخطر الأساسي على أمن الأمة العربية ومستقبلها، كما جاء في نتائج استطلاع «المؤشر العربي» الصادر عن مركز الأبحاث في الدوحة.

* في مصرانتفض الشارع المصري برمته تأييدا وتبجيلا للشهيد محمد صلاح، الذي أردى ثلاثة جنود إسرائيليين قتلى لأسباب وطنية، واعتبره الشعب المصري ضمير مصر الحي وشهيد مصر وفلسطين، وذكّر الأمة بمن سبقه من شهداء، خاصة سليمان خاطر، وأطلق اسمه على العديد من المعالم، وغمرت صوره وبطولاته ملايين المواقع في وسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة أن الدولة، أو أطرافا منها، انحنت للعاصفة وأطلقت عليه صفة الشهيد. بينما لم تترك الحكومة وسيلة للاعتذار إلا وسلكتها بما في ذلك تبادل المكالمات بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء الكيان نتنياهو، وصدور اعتذار رسمي، وتبادل المعلومات على الحدود ثم قيام وفد صهيوني بزيارة القاهرة للتحقيق. لكن الشعب المصري أثبت بالفعل لا بالقول أنه لم ينس ولن يتخلى عن قضيته الأولى فلسطين، التي دفع عشرات الألوف من الشهداء في سبيلها.

* الإذاعة الإسرائيلية هي التي كشفت أن إسرائيل تسعى للتوسط بين الأطراف المتحاربة في السودان، فكلا الطرفين، القوات المسلحة السودانية بقيادة اللواء الركن عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة اللواء الركن محمد حمدان دقلو (حميدتي) على علاقات مميزة وتنافسية مع أجهزة الكيان الصهيوني. حميدتي على علاقات متقدمة مع الموساد، والبرهان على علاقات عميقة مع نتنياهو والحكومة، وكان يستعد لتوقيع اتفاقية التطبيع رسميا، لكن الأمور تأخرت بسبب الأزمات المتلاحقة. إسرائيل من جهتها قلقة على ما يجري في السودان، هكذا تقول وأنا لا أصدق هذا القلق، لأن مسيرة التطبيع التي كانت تسير حثيثا نحو الاكتمال، تعثرت بعد أن دخل الطرفان ميدان المعركة، وكل يعمل على حسمها لصالحه بعد أن «تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم». من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية أن يتفتت السودان. وقد لعبت دورا محوريا في انفصال جنوب السودان. وإسرائيل لا تنسى أبدا قمة الخرطوم عام 1967 التي اعتمدت اللاءات الثلاثة: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات. وقد عملت إسرائيل بهدوء لتدمير هذه اللاءات بداية من مصر ومرورا بأكثر من عاصمة عربية وصولا إلى الخرطوم نفسها. وفي ظل التنافس القائم الآن بين المجموعتين، قد نجد أن أحدهما أو كليهما يرتمي في أحضان الأجهزة الإسرائيلية. آخر ما تفكر فيه إسرائيل مصلحة الشعب السوداني. إن إضعاف الدول العربية وتفتيتها وإثارة النعرات فيها، سياسة ثابتة لدى كل حكومات إسرائيل المتعاقبة. أما الشعب السوداني المسكين فلا علاقة له بما يجري، لا بإقامة علاقات مع إسرائيل، ولا بالحرب القائمة الآن بين الطرفين.

* المسؤولون الإسرائيليون لا يتركون أمرا خفيا في مسألة التطبيع.. السفارة الإماراتية في إسرائيل، هنأت إسرائيل بذكرى «استقلالها»، وتزامن ذلك مع قصف إسرائيلي لقطاع غزة. كما احتفلت كل من دبي وأبو ظبي بعيد الفصح اليهودي.

لقد نبه بعض الإماراتيين الشرفاء من مخاطر التطبيع، وأنشأوا «الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع» حيث أكد الموقعون على البيان بأسمائهم العلنية على مقاومة التطبيع ونشر مخاطره على الشعب الإماراتي، والتأكيد على دعمهم غير المحدود للقضية الفلسطينية. قد يبدو عدد الموقعين قليلا خوفا من الانتقام، لكن بالتأكيد تعبر الرابطة عن المشاعر الحقيقية للشعب الإماراتي الذي لم يستشر في موضوع خطير كهذا وكأنه أرقام فقط لا يحسب لها حساب.

* تشارك إسرائيل في مناروات «أسد الصحراء» التي تجري في المغرب بمشاركة 18 دولة بداية من 11 ولغاية 30 من شهر حزيران/يونيو الحالي. حلم إسرائيل يتحقق في التطبيع العسكري مع المغرب، بعد التطبيع التجاري والسياسي. ويشارك اللواء النخبوي جولاني في المناورات، وسيساهم في المناورات الأرضية والحروب السرية. وفي الوقت نفسه حل ضيفا على البرلمان المغربي رئيس الكنيست الإسرائيلي الليكودي المتطرف، أمير أوحانا، الذي اعتبر زيارته لمقر البرلمان تاريخية. وقبل المناورات العسكرية وزيارة أوحانا، زارت المغرب العنصرية ميري ريغيف وزيرة المواصلات المشهورة بمعاداتها لكل ما هو عربي، كما وقعت مع المغرب ثلاث اتفاقيات. هذه الزيارات والاندلاق التطبيعي استفز مشاعر الشعب المغربي، حيث أقيمت المظاهرات، وأصدر العديد من البيانات التي تنتقد هذه الزيارات وتعتبرها طعنا في خاصرة القضية الفلسطينية. وكلما ارتفعت حدة الانتقادات الشعبية، خاصة في ظل المجازر التي ترتكبها إسرائيل والانتهاكات اليومية للمسجد الأقصى واقتحامات للمدن والمخيمات والاعتقالات الجماعية، تعاد الأسطوانة الرسمية المتكررة حول الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية، ودعم حل الدولتين. إسرائيل تقتل وتبطش وتستولي على الأرض والتطبيع معها يتعمق في كل المجالات ويعود الفلسطينيون ببيان باهت حول الموقف المبدئي.

وأخيرا لا نستثني السلطة الفلسطينية، التي أشارت استطلاعات الرأي أنها لا تحظى بالثقة من الغالبية الساحقة للشعب الفلسطيني، وغالبية الشعب يتمنى حلها لما جرّته من مآس على الشعب الفلسطيني المظلوم، فبدل تقوية الجبهة الداخلية وتقريب وجهات النظر، ورص الصفوف أمام ما هو مقبل من ضم لمنطقة (E-1 ) وتقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا، تقوم السلطة بتوسيع دائرة الاعتقالاات للمعارضة في كل أنحاء الضفة الغربية، وآخرهم طلاب من لجنة الطلبة في جامعة بير زيت. وتصريح محمود العالول نائب رئيس حركة فتح، ما هو إلا إقرار، ولو متأخر، لما وصلت إليه السلطة وحزب السلطة من تآكل في مصداقيتهما فرادى ومجتمعين.

وسوم: العدد 1037