كوارث الجمهوريات العسكرية العربية: سوريا مثالاً

تعيش الجمهوريات العربية اليوم أكثر مراحلها بؤساً وتفسخاً؛ ولا يقتصر ذلك على ميدان دون غيره، بل يشمل سائر الميادين. فهي تعاني من الفساد والإفساد؛ وتشكو تراجعاً، بل جموداً في القطاع الصناعي؛ كما تعاني من نكبات كبرى في القطاع الزراعي. أما المجالات الخدمية والصحية والتعليمية فهي من سيء إلى أسوأ؛ وما يترتب على كل ذلك من انهيارات كارثية في قيمة العملات المحلية مقابل الدولار واليورو، وكل ذلك أدّى، ويؤدّي، إلى استحالة التوفيق بين مستوى الأجور والحد الأدنى من المستلزمات المعيشية، وتآكل مدخرات الناس.

وفي أجواء هيجانات الهويات الفرعية، وتصاعدها على حساب الهوية الوطنية التي لم تنجز أصلاً، تتحلّل المجتمعات، وتتقزّم الدول، وتتحوّل السيادات إلى اضحوكة وخرافة. والأسوأ في أمر هذه الجمهوريات العسكرية، أنها لا تمتلك خططا واستراتيجيات متكاملة متوازنة مقنعة، تؤكد وجود نوايا حقيقية لمعالجة الوضع عبر إزالة العراقيل، وإجراء الإصلاحات المطلوبة التي من شأنها فتح المجال أمام المشاريع المشتركة والخاصة التي من شأنها دفع العملية الاقتصادية نحو الأمام؛ وتأمين الفرص للشباب الباحثين عن العمل. هؤلاء الذين توصلوا في يومنا إلى قناعة راسخة بأن السلطات الراهنة، خاصة في سوريا ولبنان وليبيا وتونس والسودان وغيرها من أشباه الدول، لن تساهم في حل مشكلاتهم، لذلك يُرغمون على الانضمام إلى قوافل المهاجرين، علّهم يجدون فرصتهم في بلاد الآخرين. وهذا يؤدي من ناحيته إلى تفاقم المشكلات في المجتمعات الغربية، خاصة في الدول الأوروبية، الأمر الذي يسهم من جهته في ارتفاع وتيرة العنصرية، وزيادة شعبية الأحزاب العنصرية التي تبني دعايتها على المشكلات التي تترتب على استقبال اللاجئين بصورة غير مدروسة. وفي مقدمة هذه المشكلات تزايد ملحوظ في جرائم القتل كما هو الحال عليه في السويد على سبيل المثال؛ وعودة خطر الجماعات الإرهابية، وانتعاش الإسلاموية المتشددة التي تستمد هي الأخرى الكثير من أوراقها الدعائية من مواقف الجماعات اليمينية المتشددة الغربية التي تكرس الإسلاموفوبيا، وتساند الحملات الحاقدة على الإسلام عموما، ونشير في هذا السياق إلى قضية أحراق نسخ من المصحف في السويد والدانمارك ودول أوروبية أخرى، ليستغل بعضهم الوضع ويطلق حملات معادية تستهدف المسيحيين كما حصل في باكستان ودول أفريقية عديدة.

وفي هذا المقال سنأخذ الحالة السورية نموذجاً لدور السلطات العسكرية في إغراق الجمهوريات العربية بسلسلة من المشكلات والأزمات البنيوية التي تهدد اليوم وجود المجتمعات والدول التي تحكمها هذه السلطات تحت شعار حمايتها، والدفاع عنها. فلم يعد سراً خافياً لأي متمعن متابع بأن وظيفة الجيش في غالبية الجمهوريات العربية، كان يتمثل منذ البداية في عمليات ضبط الأمور ضمن الكيانات التي تشكلت بناء على الاتفاقيات بين الدول الكبرى المؤثرة. وهي الدول التي فرضت الخرائط بخطوطها المستقيمة وزواياها المنفرجة والقائمة والحادة على المساحات الجغرافية التي أعلنتها دولاً من دون إعطاء أي اعتبار لتطلعات السكان ورغباتهم، ومن دون البحث في إمكانية تعايشهم المشترك على المدى المتوسط والبعيد.

فوظيفة الجيش كانت أقرب إلى وظيفة المتعهد الذي يتكّفل بتنفيذ المهمة بناء على شروط المستثمر، لقاء أرباح معينة أو امتيازات متفق عليها؛ وسوريا لم تكن استثناء في هذا المجال. فالجيش الذي كان، وما زال، يستحوذ على القسط الأكبر من الميزانية، (بلغت حصته في يوم ما وفق البيانات الرسمية نحو 75% من الميزانية)، كان يُسوق بأنه يستعد للحرب مع إسرائيل من أجل تحرير فلسطين والجولان. غير أن الجيش نفسه أكّد بالأدلة الواضحة الملموسة أنه لم يكن معداً في أي يوم من الأيام لمهام التحرير، وإنما كانت وظيفته الأساسية ضبط الأوضاع في الداخل السوري، والجوار الإقليمي وفق شروط المستثمر. وهذا ما قام به الجيش السوري بقيادة حافظ الأسد في لبنان، سواء ضد الحركة الوطنية اللبنانية، أم ضد منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسرعرفات، وحتى ضد القوى المسيحية.

كما فعل الجيش الأسدي الأمر نفسه في الداخل السوري في كل من حماة وحلب في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وهي المرحلة المعروفة بين السوريين بـ «أيام الأحداث». والمقصود بتلك الأحداث المصادمات التي كانت بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين التي انتهت بمجازر حماة التي ارتكبتها القوات المسلحة والأجهزة المخابراتية القمعية التي كانت تتحرك جميعها بناء على تعليمات وأوامر حافظ الأسد، الذي كان يتحرك هو الآخر ضمن الهامش المتفق عليه مع المستثمر أو المستثمرين.

وقبل مجازر حماة، كان قرار حافظ الأسد بإخراج الإخوان نهائياً من المعادلة السياسية السورية تحت عنوان القانون 49 لعام 1980؛ هذا في حين أن الأحزاب الأخرى، التي كان لها وزن في يوم ما، تحوّلت إلى أحزاب تابعة لحزب البعث ضمن «الجبهة الوطنية التقدمية» التي أسسها حافظ الأسد عام 1972، بهدف التدجين وإخراج أعضائها من دائرة التأثير، بعد أن ألزمها بالكف عن نشاطاتها بين الطلبة والجيش مقابل أن يكون لحزب البعث كل «الحق» في بناء التنظيمات وعلى جميع المستويات، وفي سائر الأوساط، بما في ذلك أوساط الطلبة وجنود وضباط الجيش، وتوزيع الامتيازات وفق الولاءات والاعتبارت والمحسوبيات الأمنية والزبائنية.

وجاء ابن حافظ الأسد، وارث الجمهورية، ليستخدم الجيش والأجهزة القمعية في مواجهة السوريين، لا سيما ضد الشباب من طلبة الجامعات وخريجيها، ممن اعتصموا وتظاهروا مطالين بالإصلاحات، بعد أن انسدت الآفاق أمامهم. كما طالبوا برفع حالة الطوارئ، وإلغاء المادة الثامنة في الدستور التي كانت تنص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع، وذلك بهدف تأبيد الحكم الأسدي باعبتاره يقود حزب البعث، ويتحكّم في كل قرارته وعلى جميع المستويات. فالمادة المعنية التي كان حافظ الأسد قد فرضها على السوريين عبر دستوره الذي فصله على مقاسه، والزم السوريين به عام 1973، كانت تعني بصريح العبارة تأبيد حكم آل الأسد عبر بوابة حزب البعث.

واليوم، وبعد مرور أكثر من ستين عاماً على حكم حزب البعث، منها المرحلة الممتدة منذ عام 1970 إلى يومنا هذا التي حكم فيها آل الأسد بقوة الجيش والأجهزة القمعية، وبتغطية من رجال الأعمال والدين من المستفيدين من السلطة؛ يعيش السوريون واقعاً قاتم الآفاق، إذا ما سارت أمورهم على منوالها الحالي، وظلوا ضمن الدائرة اللعينة التي فرضتها عليهم السلطة الأسدية بفسادها المافياوي، واستبدادها المتوحش.

فأكثر من نصف السوريين يعيشون اليوم، بعد مرور أكثر من 12 عاماً على ثورتهم التي كانت من أجل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، في المخيمات وأشباه المخيمات نازحين في الداخل الوطني، ولاجئين في الجوار الإقليمي. وبشار الأسد يطالب العرب بالأموال لإعادة بناء البنية التحتية والمدارس والمشافي، وتوفير مصادر العيش للاجئين، لتمكينهم من العودة بأريحية إلى بلدهم حسب مزاعمه الشامتة الفاقعة التي أفصح عنها مؤخرا؛ وهي المقابلة التي اتهم فيها جماعات الإرهاب والجهات الراعية لها بأنها هي التي دمرت وخربت. هذا في حين أن كل الوثائق المرئية والمسموعة والمقروءة، والشهادت الثلاثية، بل الرباعية، الأبعاد، تؤكد جميعها أن براميل البارود وقنابل الكيميائي والصواريخ العمياء التي أسقطها على السوريين، والقصف المدفعي العشوائي الذي أمر به، وطائرات حليفه بوتين، وميليشيات وقوات حليفه الآخر، وراعيه «الروحي»، نظام ولي الفقيه، هي التي دمرت المشافي والأسواق الشعبية والمدارس والمجمعات السكنية وحتى دور العبادة. كما يعرف الجميع أن أجهزة سلطته القمعية هي التي ارتكبت المجازر البشعة ضد السوريين نساءً وأطفالاً وشيوخاً، وسرّبت أنباءها وصورها لترويع الناس ودفعهم نحو الرحيل.

وعلى الضفة الأخرى، تركض الدول العربية خلف سراب سياسة الخطوة مقابل الخطوة، وهي الهرطقة التي روجها المبعوث الأممي الخاص بسوريا غير بيدرسن الذي يعرف أكثر من غيره أن السلطة الأسدية غير مستعدة أن تتقدم سنتيمترات محدودة على طريق حل واقعي مقبول ممكن؛ ما دامت تتلقى الدعم المفتوح من روسيا وإيران، ولا تتعرض لأي ضغط جاد بأي شكل من الأشكال من جانب المجتمع الدولي بصورة عامة، ومن جانب الدول العربية على وجه التخصيص.

أما المعارضة الرسمية بأسمائها المختلفة، فقد باتت مرتعاً للفساد وتوزيع المناصب الخلبية، وفقدت المصداقية بصورة شبه نهائية أمام السوريين من ضحايا كوارث آل الأسد.

وبتضافر كل هذه العوامل، ووجود جيوش القوى العظمى والقوى الإقليمية الكبرى، والميليشيات الوافدة المتعددة الجنسيات والأجندات والألوان والشعارات على الأرض السورية التي قُسمت إلى مناطق نفوذ، تتحكّم بكل واحدة منها سلطة أمر واقع تستقوي بهذه القوة الدولية أو تلك، وتأخذ منها الامكانيات والتعلميات والأوامر، تصبح المعادلة السورية في الظروف الراهنة مستحيلة الحل. مؤدى ذلك استمرارية إهمال الجرح السوري المفتوح  في حساب الأولويات الدولية والإقليمية. وما يترتيب على كل ذلك، يساهم في زيادة درجة التعفن والتقيّح في الجسد السوري على مستوى الاجتماع والعمران والكيان؛ ويهدده بأخطر الأمراض التي قد تتفاقم لتجعل من هواجس تقسيم الشعب والوطن واقعاً على الأرض ما لم تبذل جهود فاعلة من قبل السوريين أنفسهم، بكل مكوناتهم المجتمعية، بغية التوصل إلى توافقات على المشتركات، وتهيئة الأرضية لمصالحة وطنية شاملة لا بديل عنها إذا ما أردنا الحفاظ على وحدة سوريا أرضا وشعبنا؛ وكل ذلك لن يكون مجدياً من دون القطع التام مع استبداد السلطة وفسادها؛ وبمنأى عن انتهازية المتسلقين الذين تغلغلوا إلى مؤسسات المعارضة الرسمية، وهيمنوا عليها، الأمر الذي أفقدها الاحترام، والقدرة على امكانية التأثير لصالح السوريين، كل السوريين ومن دون أي استثناء.

وسوم: العدد 1046