رحلة الزومبي العربي وحافة الخراب

تحقق منطقة وسط آسيا والقوقاز نمواً ملحوظاً، وتشهد أداءً بشرياً متميزاً، وتتميز شعوبها بكثير الانفتاح والمشاعر الإيجابية، الأمر نفسه، في العديد من الدول الافريقية، خاصة في المستعمرات البريطانية السابقة، أما أمريكا اللاتينية فتشهد فترة مستقرة نسبياً، ولا تظهر مقدمات للانتكاس تجاه الديكتاتوريات العسكرية، وتتوثب أوروبا الشرقية لتجد مكاناً أفضل في خريطة التأثير في العالم، وللأسف في المنطقة العربية تواصل سقوطها الحر بصورة مرعبة، فالعرب في الفعاليات متعددة الجنسيات أصبحوا يظهرون بصورة كئيبة وقلقة.

ما يحدث في غزة يحمل تكلفة نفسية عالية على جيل كامل من الشباب العربي، ولا يتوقع من لندن أو باريس أو واشنطن، أن تتحول إلى جمعيات خيرية تعنى بالصحة العقلية لهذه الأجيال

لا يفترض أن يشارك الكاتب قراءه مشاهداته الشخصية، إلا في الحدود الدنيا، التي يمكن أن تسعف الفكرة التي يناقشها، والوجود بين قرابة المئة شخص موزعين بصورة شبه متساوية بين أقاليم مختلفة من شرق آسيا إلى أمريكا اللاتينية، يقدم فرصة للمقارنة في استجابة الشعوب المختلفة تجاه التحديات العالمية القائمة، وطريقتها في التعاطي مع العالم.
كيف يمكن للعرب أن يشعروا بالاستقرار وأن يندمجوا في العالم، وأعني عالمنا الصغير في الفعالية المتواصلة لبضعة أسابيع، والعالم الكبير أيضاً، ومجموعة من الأصدقاء السوريين، لا يعرفون أين سيستقر بهم المقام بعد بضعة أسابيع، الخيارات التي يضطرون لتدارس سلبياتها، قبل إيجابياتها تمتد من القاهرة إلى لندن إلى وارسو وغازي عنتاب وكندا؟ وكيف والعراقيون لا يستطيعون أن يفهموا كيف تبخرت مئات المليارات من الدولارات، وأصبحت بغداد مدينة تصدير الأثرياء، ممن كانوا مجرد شخصيات على هامش المجتمع، بينما لم تستقر إمدادات الكهرباء في بلادهم إلى اليوم؟ كيف يمكن أن نحضر في الزمكان الحداثي والمعولم، وزميل لبناني، كانت مشكلته الحصول على أدوية تحتاجها أسرته وأصبحت غير متوفرة في بلاده التي كانت توصف بسويسرا الشرق؟ أما اليمن فلم تكد تظهر بعض المؤشرات الإيجابية للخروج بظروف يمكن أن تقود إلى تهدئة، حتى أصبحت في مواجهة مخاطر جديدة، أجلت أية محاولة لإعادة ترتيب المشهد السياسي، والجميع، يتعلق بغزة والحرب وصورها المتواصلة، الفضيحة مكتملة الأركان، وبعد الأطفال فاقدي الأطراف، أنتجت آلة القتل الإسرائيلية أطفالاً ومراهقين معطوبي ومسمولي العيون. يسود الصخب والانفتاح على العالم ومحاولة التعرف عليه بقية المجموعات، والمشاركون العرب، يتحدثون عن الخطوة المقبلة، الحرب المحتملة، الكارثة المقبلة، الاقتصاد المرهق والمترنح، ويتبادل زميلان أطراف تجربتيهما مع مضادات الاكتئاب، لأن كلا منهما يرى أن الدواء الذي يحصل عليه غير فعال بالدرجة الكافية، والمشكلة أن المشكلة ليست في مضاد الاكتئاب، بقدر تزاحم مسبباته على الفرد في نسخته الخاصة من التجربة العربية، والتقارب بين هذه التجارب لتتقاطع في بؤرة الحرب على غزة، في صدمة أظهرت مدى ضآلة قيمة الإنسان في المنطقة العربية، ضآلته أمام أصنام الدولة والمجتمع، التي يجب عليه أن يقدم تضحياته بصورة منتظمة لإرضائها، وكأنه يقدم القرابين إلى آلهة من العصور القديمة. أكثر من أربعمئة مليون عربي، يرون أنه من المهين ألا يحتلوا موقعاً ندياً لبضعة ملايين من الإسرائيليين، ومشروع دولة إسرائيل الذي يعرف الغرب أنه ليس على القيمة الاستراتيجية نفسها، التي كانت عند التفكير في موضعته في المنطقة، والمشكلة لا تتوقف عند الإهانة المبطنة التي كانت قائمة لعقود من الزمن، بل تمتد إلى الإيذاء المتواصل الذي أنتجته رغبة في تحييد المنطقة الأقرب جغرافياً، بحيث لا تشكل أي خطر وجودي على أوروبا، القارة الأنانية، التي ما زالت تنظر إلى العالم من تلال (سان بواتيه) عندما التقت جيوش المسلمين مع الفرنجة بقيادة شارل مارتل، الذي كتب الإرهابي الأبيض الغربي اسمه على سلاحه في المجزرة التي ارتكبها في أحد مساجد نيوزيلندا.
الصحة النفسية والسلامة العقلية أصبحت مهددة في المنطقة العربية، ويمكن توظيف مقولة الفيلسوف الفرنسي إيمانويل تود، مرحلة الزومبي، لوصف عشرات الملايين من الضحايا المتضررين بالنسخة العربية من الجحيم المُهندَس سياسياً واجتماعياً، وهذه المرحلة قابلة لأن تصبح سبباً مباشراً للمرحلة الصفر، بمعنى الدخول في خراب جمعي ينحط بالمنطقة إلى هاوية سحيقة. بالمناسبة، كانت الإمبراطورية العثمانية صماماً للأمان للسيطرة على المنطقة، ولذلك، وقفت الدول الاستعمارية مع الأتراك في مواجهة مشروع محمد علي في الأزمة السورية للقرن الثامن عشر، والسبب الرئيسي هو المشاركة في الأرضية نفسها في معناها الثقافي، التدافع الذي ما زال محكوماً بالمخاوف القديمة. المخاوف العربية فاقعة، فالدولة تصنع أعداءها، أما المخاوف الأوروبية فتتصف بالكمون والمراوغة، تختفي وراء أدبيات متراكمة من الخطاب المتعلق بالمفاهيم المختطفة في الرؤية والتفسير الغربيين. ما يحدث في غزة يحمل تكلفة نفسية عالية على جيل كامل من الشباب العربي، ولا يتوقع من لندن أو باريس أو واشنطن، أن تتحول إلى جمعيات خيرية تعنى بالصحة العقلية لهذه الأجيال، ولكن هل تستطيع أن تتحمل التكلفة في المدى الطويل؟ ومن أجل ماذا؟ إسرائيل التي فقدت أهميتها الاستراتيجية ولم يتبق منها سوى الأسطورة المتعلقة بأزمة الغرب، ورغبته في التخلص من الزوائد الطفيلية ليعيش حياته السعيدة والراضية والمليئة بحقوق الإنسان والمرأة والحيوان والعدل وسيادة القانون، ويستمر في تصدير أزماته بصورة انتهازية لأقرب المناطق من حوله. هل تستطيع الأنظمة العربية أن تتحمل هذه التكلفة؟ في الموجة الأولى خرجت الشعوب المرهقة والمحبطة، وفي موجة جديدة، لا تبدو بعيدةً سيخرج الموتى الأحياء بالمعنى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، فهل تتحقق نبوءة مظفر النواب، أو لعلها الحل الذي أرتأى في ذلك الوقت، سيكون خراب!

وسوم: العدد 1068