سورية والحروب الممتدة

سورية الجريحة، التي ما زالت تخضع لنظام سياسي واحد، لم يتغير أو يتبدل،  هو نظام العائلة، الذي نستطيع أن نشخصه تشخيصاً صحيحاً، إذ زعمنا في جموح وإسراف، أنه قد أزرى "بسورية"، ووأد طموحها العاتي في التحرر، والرقي، وتداول السلطة،  فمثل هذه الأنظمة كما نعلم، لا تستطيع أن تحكم على كنه الأشياء، أو تقدرها، وتفكر فيها، إلا على النحو الذي يعظم أمرها، ويعلي من صيتها، ويستأنف وتيرتها في الحكم،  هذه العائلة-عائلة الأسد-  تستحوذ على الحكم، منذ سبيعنيات القرن المنصرم كما نعلم، ببهرجة زائفة، وزيف مبين، آخرها كان في شهر مايو عام 2021م، إذ حصد حينها الدكتور "بشار الأسد" أكثر من 95% من أصوات الناخبين، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن سادتنا في هذه المنطقة العربية، التي ما فتئت تستمسك بركاكة الماضي، ونحن هنا لا نلتمس عيبا، أو نبحث عن زلة، لا سمح الله، ولكننا نقول أنها ظاهرة لا يكاد يكون لها حد، وهي من مخلفات إرثنا السياسي، فنحن رغم هذا التطور البديع الذي يشهده العالم من حولنا، ما زلنا نرسف في أغلال وقيود "التوريث"، الذي لا تجد أحزابنا ونخبنا السياسية، مشقة ولا عسرا، في الهتاف له، والتماهي معه، فأحزابنا، ونخبنا، وحياتنا العقلية، تجتهد في أن تخلص لأصحاب السمو والرفعة، و تتملق بدورها كذلك كل من يزين بزته العسكرية بأوسمة، وأنواط، ونياشين، لا ندري كيف نالها، ومن هو الذي ثبتها على صدره المكتنز، وهو في الواقع لم يدحر عدواً قط، أو ينتصر في معركة ضارية كانت أو فاترة، لم ينتصر هؤلاء البهاليل السادة، والحماة الذادة، والملوك القادة، حتى في تلك الألعاب الالكترونية، التي استشرت في أوساط  هذا الجيل، والأجيال التي سبقته، فقد ألقوا أنفسهم عليها، وأظهروا لها هذا الود، وهذا الهيام،  لأنها تسليهم، وتنسيهم فهم الحقائق وتفسيرها، لهذا مالوا إليها كل الميل، ولا زال أثرها في الحق قوياً باقياً، حتى في نظمهم السياسية، وفي رؤاهم، وخططهم التي ينشدون تحقيقها، تلك الرؤى التي تبتغي تنشيط العقول، وحملها على التفكير، وتنشيط العقول لا يتأتى إلا برسم صورة رشيقة خلابة، هذه الصورة تخضع للترفيه، وتكلف الزينة، وجلب "المشخصاتية" وتكريمهم، والاحتفاء بهم، وكأنهم اجتهدوا في أن يخلصونا من أصار الذل، وأغلال الفقر، ورسف العبودية، لأنظمة فاسدة طائشة، هذه الفئات المترفة، التي تدمن التكلف والتصنع، وتجيد التنصل عن قيم مجتمعنا الشرقي، لم تنتهي بنا إلى حيث يقف الغرب -الذي تعشقة وتقتفي أثره- إلى حيث هو الآن من حرية وانعتاق، وعوداً على بدء، نزعم أيها السادة أن معظم حٌكامِنا الأماجد، الذين استمدوا حياتهم  الصالحة الخصبة من أبائهم وذويهم، قد أكملوا  هذه "العملية الانتخابية" التي تسبغ عليهم النعمة، وتنزههم عن صغائر تعافها الديمقراطية، فهم لم يبتهجوا بهذه النتيجة المشرفة، إلا لأنها ظاهرة يضيقون بها، ويتأففون منها،  ظاهرة  تستحدثها عائلاتهم لاسئناف راكد الحركة والحياة، ولاقناع دول الصلف والغرور، أن بلادهم تتكلف هذه الألوان التي فيها حرية، وفيها اجتهاد، لاختيار القوي الذي يطمح الشعب إلى تقليده وتنصيبه، "الأمين" الذي ينهض بوطنه ويبعده عن معرة التخلف والابتذال ها هو يستأثر بالحكم من جديد، والغرب الذي يعلم  أن الفوز حظاً مقصوراً على هذه الناجمة، يظهر الفرح والرضى، لأن دولنا العربية حافظت على قديمه وإرثه السياسي، الذي يغضبه أن تسعى دولنا لمحو آثاره،   يظهر الغرب الغبطة لأن المرشح الفائز، قد ناضل في سبيل تحقيق فوزه المستحق، وحتى لا أطيل وأسرف في الإطالة، أقول أن هذه النتيجة، لا تعني إلا أن السلطة قد جاءت قانعة راضية لصاحبها الذي لم يكن يتخلى عنها وإن أزهق أرواح نصف شعبه، بينما الشعب الذي لم يحسب لمثل هذا الاقتراع حساباً، أو يقدر له وجوداً، لأنه يعرف النتيجة مسبقا، يعي هذا الشعب أن حاكمه الذي يبغضه أحيانا، ويضيق به أحيانا أخرى، سيعود لا محالة، وأن هذه الانتخابات الممعنة في الكذب والتضليل،  لن يظفر منها إلا بهذا الكم الهائل من الاستياء، والكدر، لأجل ذلك نرى دائما هذا الوجوم الذي يلوح على محيا الشعوب العربية، بعد كل عملية مزيفة تجرى في محيطه، فالشعوب التي تزداد حياتها تعقيداً بعد إعلان مثل هذه النتائج، قد دأبت تختار غير هذا الحاكم، الذي  تفرضه عليهم النظم والأعراف، وحكامهم الذين قلّ أن تجد فيهم أثر للشعور والقلوب، يتناوبون عليهم مرات ومرات، وفي كل مرة يخيب حدس الشعوب، وتخيب ظنونها، لتستقبل خبر انتصارهم، بهذه اللوعة والحسرة، لتدفعها هذه الحسرة بعد حين، لأن تسلك سلوكا يلائم الكرامة،  بعد أن لاذت بالصمت عقودا  طوالا،  فهي أيقنت أن صمتها هذا لن يضيف إليها شيئا، فما هو الشيء الذي في مقدورها أن تفعله حيال هذا النوع من الحُكام؟  ذلك الصنف من أرباب الحكم والتشريع، الذي يجد في نفسه غضبا وحنقا، إذا التمس شعبه الخلاص من ويلات حكمه، هذه الطائفة ما أن تسمع بنبأ خروج الناس عليها، وتتحسس وقع خطواتهم، وهم مسرعين نحو قصورها المترعة بالجيوش والعتاد، حتى تتبدل عواطفها وأهواؤها، وتسقط قناع الديمقراطية الزائف عن وجهها، وتنتهج هذه الطرق التي تدفع نيران الثورات إلى الخمود، والرئيس بشار الأسد، كان واحداً من أفراد هذه الطائفة، فهو يقضي نصف ليله، وأكثر نهاره، يخامره احساس كأن شيئا ينقصه، هذه المشاعر الغامضة تتحدث إليه، وتدعوه أن يلجأ إلى الخشونة والعنف، في أبشع مظاهرها، وأن يظهر مخايل بربريته، ووحشيته، واضحة جلية، وأن يشقي شعبه بهذه العزلة التي تركها نصف من عاش من  شعبه، وفضل أن ينصرف عنها هائما في المحيطات والقارات، تركت هذه الجموع من شعبه وطنهم الذي تركض فيه المصائب وتتسابق إليه النكبات، "سورية" التي يحملونها معهم بين طيات قلوبهم، ليستقبلوا حياة لم يكن يعرفونها، حياة عظيمة الحظ من العناء، حياة كلها استعطاف وتضرع، وكل شيء فيها منكر و قبيح. 

والدكتور بشار الأسد، مؤلم جدا هذا الشعور الذي نجده بين حنايانا، حينما ندرك أنه طبيب، والطبيب هو الذي يعالج هذه اللفائف البالية التي تعوقنا عن عن الاحساس بالعافية، ويبث فيها الحياة باذن المولى عزّ وجلّ، لتعود للعمل كسابق عهدها وسيرتها، الرئيس بشار الأسد طبيبا إذن، والطبيب كما نعلم هو الذي يطلق الإنسانية من قيودها، ويرسلها على سجيتها، حتى تتصل بمعان البرء، والسلامة، والتعاف، اتصالاً  قوياً، ولكن في الحق أن هذا الرئيس الطبيب، قد انحرف عن هذه المعاني انحرافا حادا، ولسنا نقول هذا الكلام من باب التزيد والافتراء، على سيرة الرجل، أو نطلقه هكذا جزافا من غير دليل، ولكن هذه النتيجة، هي خلاصة تتبع ذلك النشاط الحركي الذي انطلق في "سورية" عام 2011م، والذي اندفعت فيه جموع الشعب السوري اندفاعا عنيفا، حتى ترد الحرية والعدل إلى أقطارها وأمصارها، ولكن الطبيب استطاع أن يأخد شعبه والناس جميعا، بعادة  موروثة في أسرته، تلك الأسرة التي تقتصد في العدل، وتسرف في الظلم، لقد أفاض "بشار الأسد" على شعبه، من معين هذه العادة، التي حافظ عليها حفاظا شديدا، "فبشار" مثل والده تماما، يكره أن ينحيه أحدا عن منصبه، أو تناله آفات هذا التنحي، لأجل ذلك عمد إلى القسوة التي لم تكن موقوفة عليه، فالقسوة شيء تحبه أسرته، التي لا حياة لها، إلا بفضل هذه الوصمة، التي تسرف فيها ولا تقتصد، إذاً ليس من المصادفة في شيء أن هذا "الطبيب" الموغل في الوحشية أن يجعل حمم طائرته تلهو وتعبث بشعبه، فقائدها ما زال جذعاً فتياً، فيه بقية من شباب، والشباب يقتضي الميل للهو والمرح، والرئيس بشار كما عهدناه شديد النشاط، متصل الحركة، مع شعبه الأعزل،  الذي لم يتردد أو يتمهل من بقى منهم على قيد الحياة في الهجرة وترك "سورية" لسراة الناس، وأصحاب التملق العريض، والفئات المتعبة المكدودة، التي ألجئتها الفاقة، وصروف الحياة، لأن تبقى في معقل هذا الجحيم، الذي يجرعه إياها كل يوم "الطبيب الإنسان"، أدرك "بشار" أنه يحتاج إلى كثير من الوقت حتى يصل إلى الغاية التي تروقه، فالأجندات الدولية، وأصحاب العواطف الثائرة، الذين يقاتلون جنده في عزم وثاب، يتطلب منه ألا تحيا "سورية" حياة هادئة وادعة، وتكتفي فقط ببراميله المتفجرة، التي يقذفها على شعبه بوجدان شاحب، وقلب متقد، عليه أن يخرج كل العفاريت من مستقرها التي كانت عليه في مهاد الأرض، حتى يطمئن إلى حكمه، ويثق في مستقبله، فلا يشفق ولا يخاف، لأجل ذلك أضحت "سورية"، نهبا لكل طامع، وانتهى بها الحال، أن العدو الصهيوني البغيض يمطرها بصواريخه الموجهة في كل يوم، وشهر، وسنة، فيتغاضى "طبيبها الإنسان" عن حق الدفاع عن النفس في رشاقة وترفع، فاسرائيل التي تزلزلها بطولات غزة الآن، ترى أن من حقها أن تؤذي "سورية" طالما أن حباً آثماً قد جمعها بايران، هي تزعم أنها تدافع عن نفسها، لأجل ذلك تضرب مذعورة أهدافاً لها في دمشق وغيرها، وواجب الدفاع عن النفس، سيظل مهيضا في "سورية" فما أكثر الأنظمة والدول التي تنتاش "سورية" الآن، فالكل ينتهز حالة الضعف والهزال التي تعصف بهذا البلد العظيم، ويسعى ولا عذر له في ذلك، أن يمتد ويستطيل، وبعد كل هذه السنوات من الإذعان والذل، بات واضحا أن "الطبيب الإنسان" لا يستطيع أن يخضع "سورية" لإرادته، فقد باتت مرتهنة للدب القطبي، ونظام الملالي، ووقاحة العم السام، وتدخل تركيا السافر، "سورية" تخضع لاملاءات متعددة الأقطاب، ولانتهازية الدول العظمى، "سورية"حقا في محنة منكرة، وهي عرضة لأن تمسي ضئيلة رغم ضخامتها، وغير صالحة للبقاء، في ظل هذه الحروب التي تعيشها في شتى بقاعها، فهذه الدول المتناحرة في سهول سورية وأراضيها، شديدة الطمع، شديدة الازدراء لشعبها، وهي تبذل كل ما تملك من جهد، حتى تظفر بمتغاها، ولا يعني روسيا أو الولايات المتحدة، أو إيران، أو حتى تركيا "الحانية" أن تلتصق"سورية" التصاقاً مريرا بالمعاناة، يعنيهم أن يلقوا أممهم مبتسمين، ويعلنوا لهم أنهم أذاقوا خصومهم صنوفا من الذل في الأراضي السورية، هذا ما يفعلوه غداة كل يوم، ولكن من ذا الذي يسرع إلى "سورية" ويأخذها بين ذراعيه ويسعى لتضميد جراحها؟ ويطلب إليها أن تنصرف عن هذا الخلاف، ولا ترضى بهذه الحياة، التي سخطت عليها وثارت،  ما زلنا نأمل في ظهور جهة تدرك أن "سورية" مظلومة مهضومة، وتسعى لانتشالها من هذه الحالة التي فيها الآن، وتجنبها نذر الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، فكلتا الدولتين تخضع لاضطراب ، عقلي، ناتج عن الآثرة والغرور والتكلف.

وسوم: العدد 1068