والعلاج أيضاً وصله الإسراف!

فهل هي معالجة أم متاجرة؟!

عابدة فضيل المؤيد العظم

ذهبت ورفيقاتي لزيارة صديقة لنا بمناسبة ولادتها، دخلت إليها فذهلت من الأناقة والفخامة، قابلتني أولاً غرفة طعام فسيحة من خشب بني اللون رائع التصميم، ودلفت منها إلى غرفة استقبال مرتبة حديثة الطراز كثيرة الآرائك، تزينها اللوحات الجميلة والأباجورات الكبيرة الغالية، وقد اكتست الحوائط بالخشب الراقي، وتدلت من السقف الثريات اللامعة وقد غمر ضوؤها القوي الساطع المكان كله فصار كالنهار، وازدانت الطاولات ببعض التحف وقطع الكريستال، ووقفت هنا وهناك بعض الشيجرات الكبيرة الصناعية لتضفي الرونق والبهاء.

ودخلنا إلى غرفة النوم، وكانت لا تقل عن الغرفتين الأخريين بالفخامة والأناقة، وحوت -فوقها- على "كرسي التدليك" المعروف بغلاء سعره، وتلفزيون حديث متطور.

جلست رفيقاتي يتحدثن ويضحكن، وأنا أدور بعيني في أرجاء المكان أتأمل فخامته وأكتشف المزيد من الإسراف والبذخ فيه، وتساءلت (في سري): "ما الذي دهى المسلمين؟ وما الذي بدل حالهم فأصبحوا يبددون أموالهم هباء هكذا؟ وهل سيعتبرون يوماً ويندمون؟". وشعرت بالألم يعتصر قلبي ويذهلني عن التفاعل مع صديقاتي.

أيها الناس ما وصفته لكم ليس بيتاً إنه غرفة في المستشفى! غرفة ستجلس فيها النزيلة يوماً أو يومين وتتركها.

وإننا ما تخلصنا بعد من عاداتنا السيئة وأخطائنا القديمة حتى دهمتنا أخطاء أكبر وعادات أسوأ، وما نكاد نقنع الناس بشيء ليذروه حتى تبرز في مجتمعاتنا مجموعة أخرى جديدة من الممارسات الغريبة فنحار هل نستمر في محاربة الممارسات القديمة أم نذرها ونقاتل تلك القيم الجديدة التي تدمر ثقافتنا وجيوبنا... وأخذت أفكر: "كيف سنقنع الناس بترك "السرف" وقد كان "الاقتصاد" و"فقه الإنفاق" معروفاً عندهم بالفطرة، وكانوا يعيشون في رضا وسعادة، ثم تبدلوا وغرتهم زخارف الحياة فصاروا يحتاجون إلى الحجج والبراهين لإثبات ما كانوا يعرفونه بالبديهة؟"، وتساءلت: "وهل سننجح في إعادتهم إلى الحق؟ وهل سينصلح حالنا يوماً يا ترى؟".

ولاحظوا معي هذا التنوع في الإسراف في هذه المشافي:

1- إسراف بالمساحة: جناح كامل بغرفتين كبيرتين واسعتين وحمامين لكل نزيل! هذا سيكون على حساب مريض آخر في حال امتلأت الغرف.

وإن المساحات في بلادنا أصبحت تعجز عن استيعاب الأعداد السكانية المتنامية، وأسعار الأراضي ارتفعت، وامتد البناء حتى اتصلت المدن بالقرى. وبسبب تراجع الدخل والتضخم صارت العائلة ذات الخمسة أفراد تسكن في غرفتين صغريتين بخدمات ناقصة، ونزيلة المستشفى تسكن وحدها في شقة فارهة وبخدمات عظيمة!

وأكثر المرضى يجلسون في أسرتهم تكبلهم الإبر وتحوطهم الأجهزة وقد يمنعون من القيام والحركة، والمريض يحتاج لمن يكون معه في غرفته نفسها ليعوده ويدعو له يسليه ويحدثه ويؤنس وحشته ويجيب طلباته.

2- إسراف بالأثاث: ولماذا الآرائك وغرفة الطعام؟ هل جاء المريض ليستقبل الناس ويقيم الولائم أم ليأخذ العلاج ويستلقي في الفراش؟ وأكثر المرضى يُمنعون من بعض الأصناف وتقدم لهم وجبات صحية تناسب حالتهم، فهل يصح أكل الطعام الشهي بحضرتهم وهم لا يستطيعون المشاركة؟

3- إسراف بالطاقة: ونراهم يتركون الغرف الثلاث كلها مضاءة بهذه الأنوار الساطعة، فكم سيكلف هذا من الكهرباء؟ قطعاً سيزيد الحمل على المحطات الرئيسية في البلد بلا فائدة.

4- إسراف بالخدمات أي في التعقيم وفي كل شيء يليه ويتبعه. وأنواع السرف هذه تأكل أموال الأمة وتزيد في التلوث بأنواعه كلها لما سيخرج من مثل هذا المشفى من المخلفات. فكيف يقدم على هذا العمل أطباء مثقفون واعون، رسالتهم خدمة الإنسانية، وإنقاذ الناس مما يؤذيهم؟

يا ناس:

هذا مشفى للاستطباب وليس فندقاً. وليس للمريض حاجة بهذا الترف.

ستقولون: "هذا الترف لنبعث في قلب المريض البهجة فيسرع في الشفاء". وهذه حجة واهية، والبهجة أكثر ما تكون بالنباتات والأشياء الحلوة الخضراء، بمنظر جميل يعلق على الحائط، بكلمة طيبة ولمسة حنونة، بمعاملة جيدة وبصحبة لطيفة.

ولكن الناس باتوا يهتمون بالفخامة والمظاهر أكثر من اهتمامهم بقدرة الطبيب وكفاءته، فتخيلوا ماذا فعل "حب المظاهر بالناس" إنهم يضحون بصحتهم من أجلها.

واليوم كثرت الأمراض، والاستطباب لا غنى عنه ولو أنهم أكثروا عدد الغرف في المشافي واستقبلوا المزيد من المرضى، وخففوا السعر على الناس. وجعلوا في كل غرفة مريضاً بدل أن يكون في الغرفتين مريض واحد، لازداد دخلهم من طريق أفضل وأكثر جدوى.

سيقول لي المدافعون (ممن لهم مصلحة أو رؤوس أموال في هذه المشافي): "نحن في عصر المال ونريد كسب الزبائن! وكل شيء صار عملاً تجارياً، فينبغي أن نقدم للناس خدمات فندقية عالية ليقبلوا على العلاج عندنا"، نعم وللأسف حتى "الطب" تلك المهنة الإنسانية صار هو الآخر "عملية تجارية" وكل يتفنن في وسائل لأخذ أموال الناس بالحق، وأضحت حاجات الناس الأساسية وسيلة لجمع الأموال، حتى الآلام والأوجاع والأحزان والأمراض.

وإنه لأمر مؤسف أن تُستغل أوجاع الناس وتعتبر مجالاً للتجارة والكسب. وأني لأعلم أن الأطباء والمساهمين وأصحاب رؤوس الأموال لن يتعاطفوا معي، ولن يردوا علي لأني بعملي هذا سأفسد عليهم باب رزقهم. ولكني أتمنى أن يتعاون معي "من يلجؤون لهذه المسشفيات" ويُعرضوا عن هذا العلاج الفندقي الباهظ التكاليف والملوث للبيئة، فتتوقف هذه الظاهرة.