ما زلنا نبحث عن المفقود

عقاب يحيى

وتكثر المشاريع، والأحاديث عن نيّة هنا، وتشكيل جديد هناك . الكل يلهج باسم الحرص على الثورة . الكل يتكلم عن واجب الخروج من الوضع الصعب . الكل يحتمي المخاطر المحدقة كي يعطي نفسه الحق في حركة يعتبرها ضرورية .. الكل في دوامة المؤتمرات والحضور .. والكلام المفتوح ..

ـ " بناة المستقبل" يعقدون مؤتمراً حاشداً لهم في القاهرة، تزيّنه الأنوار الساطعة لبعض الوجوه التي جرى إ

برازها إعلاميا، كأطراف مخالفة للتوجهات الإسلامية التي يحملها السيد المليادير وليد الزعبي صاحب المشروع ومموله.. وحين تسأل : هل الطموح أن يلد حريري آخر من بين المليارديريين السوريين الكثر الذين نزل بعضهم بمدفعيته الثقيلة على عالم السياسة والثورة والمؤتمرات والتشكيلات السياسية.. ينبري عدد من هؤلاء للحديث عن شيء أكبر مما قام به الحريري.. لدولة سورية القادمة المدنية، التعددية، الليبرالية، التداولية . بعضهم تعلم السياسة البارحة فاستدعى كتيبة من المثقفين والوجوه المعروفة لتتصدر المشهد عنده، والبعض كانت لديه اهتمامات سياسية يعمل على تطويرها الآن ..وفق طموح مفتوح على احتمالات مختلفة، بينما يؤثر آخرون أن يبقوا في الظلال، والحرص ألا تُعرف أو تطرح أسماؤهم.. وهؤلاء كثر أيضاً ..

ـ الظروف التي جعلت من الحريري تلك الظاهرة النادرة لا نظنها موجودة في الواقع السوري الراهن، لا من حيث طبيعة الشخص وتكوينه السابق، وخاصياته الفردية، ولا من حيث السياق الذي دفع به إلى ذلك الموقع والدور..

ـ مع ذلك لا ضرر أن يدخل الرأسمال السوري دنيا السياسة، فبلادنا بحاجة إلى جهود أبنائها جميعاً، وأولى بمن يملك المال أن يكون في مقدمة من يتحمل مسؤولية الإسهام بالدعم متعدد الوجوه للثورة.. وما تحتاجه في ميادين كثيرة، أو في مرحلة الإعمار وبناء الدولة، وتعويض الدمار الذي يحدث,,, الخوف، او الحذر ليس هنا، وإنما من محاولة استثمار المال السياسي لصالح أجندات خاصة على طريقة التعهدات والمقاولات، وشراء الأوضاع والمؤيدين، أو توظيف الحاجة الملحة للبشر للإغاثة والطعام والمأوى والسلاح.. في مشاريع خاصة لصالح وحساب هذا الممول أو ذاك ..

*****

على صعيد آخر، وامام الانسداد المتسع في الواقع السياسي السوري، وأوضاع المجلس الوطني وهو يعوم في إعادة الهيكلة وأخطائه فيها، وحسابات الأطراف النافذة فيه لما حسبوه وفصلوه، واضطرارهم إلى إعادة النظر بالأرقام بعد أن عوّموها إلى نحو 665 وسط موج قوي يربكهم..ويجعلهم في حيص بيص في الابتسار والاختصار والقصقصة.. ووجود حركة عربية ودولية، وهمنس، و"نصائح" ووجهات نظر سياسية متعددة.. يجري الحديث من أيام .. بل منذ بضعة شهور عن محاولات توليد صيغ تناوبت بين : حكومة انتقالية حبلت بأكثر من صيغة، و"مجلس حكماء" يرقد في الانتظار وبرادات التصبير.. فصيغة ما أقرب إلى مجلس انتقالي.. فأوسع قليلاً، فمؤتمر وطني جامع.. فكلام كثير، وحركة عجاج أكثر في هذه العاصمة أو تلك.. والكل يدوخ في دائرة مغلقة.. يبدأ من نقطة الصفر ويعود إليها صفر اليدين لسببين متراكبين : أن معظم هذه الحركات لم تنطلق من الميدان. لم يولدها شباب الثورة الذين يدفعون الضريبة ويرسمون سمتها، وعديدها لم تجر استشارهم، ناهيك عن مشاركتهم فيها ، والثاني يتعلق بالوضع الدولي المتصف بالانتظار والفرجة.. المفتقر إلى قرار صريح من قبل الدولة العظمى.. وبالتالي محاولات ملء الفراغ، والإكثار من الضجيج.. علّ وعسى أن تصيب واحدة من تلك المشاريع الهدف..

ـ المجلس الوطني يرفض، حتى لو أغروه بمشاركة جميع مكوناته في المبادرة الجديدة.. لأنه ما زال يخاف سحب البساط من تحته، وما زال يعتقد أنه الأقوى، والممثل الوحيد، أو شبه الوحيد للثورة، وان الآخرين .. مهما فعلوا وجمّعوا.. وهيصوا وصرحوا لن يستطيعوا فعل شيء دونه، والآخرون طفح كيلهم من نهج المجلس، وبعضهم يبحث / بالفتيلة/ عن أي بديل يريحهم من هذا الوضع، وما تبقى من " هيئة التنسيق" ينام في عسل البيان المجوّف الذي خرج به مؤتمر الإنقاذ الذي لم ينقذ حتى بعض أعضائه من الاعتقال، أو معرفة مصيرهم ..

ـ صعبة ومضطربة اللوحة السياسية السورية للمعارضة.. لأنها نفتقر إلى بناء علاقتها الطبيعية مع رافعتها الحقيقية : الثورة وشبابها من جهة، ولأن الغرب، وفي مقدمه الولايات المتحدة عاشق للتسلية ولو على حساب دماء السوريين الغزيرة، ولا يهمه لا عدد الشهداء، ولا حجم الدمار، ولا ما يحيق ببلدنا من مخاطر..

ـ الأكيد أن قلوب كثير السياسيين على بلدهم، لذلك يحاولون ما يعتقدونه واجبهم للعمل على تجنيبها نهر الدماء والمخاطر، وتحقيق الهدف الرئيس بإسقاط الطغمة وتخليص بلادنا من شرورها وفتح الطريق لعهد الحريات الديمقراطية.. لكن ليست الأمور بالنوايا الطيبة.. بل بالقدرة على صناعة الممكن القادر على الحياة ..