أزمة العلمانيين في مصر

بدر محمد بدر

[email protected]

تتعالى بعض الأصوات والكتابات في الفترة الأخيرة، تطالب بأن يكون دستور مصر القادم "علمانيا"، بمعنى واضح ومحدد وهو "فصل الدين عن الدولة"، أي أن ينحصر دين "الإسلام العظيم" ـ في رأي هؤلاء ـ في المساجد والزوايا وحلقات الذكر، ولا شأن له بتسيير حركة الحياة، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتعليم والثقافة والأدب والفن .. إلخ.

وهذا المفهوم بالطبع ليس جديدا، لكنه بدأ ينتشر مع دخول الاستعمار الغربي إلى بلادنا في أوائل القرن التاسع عشر، ونجاحه في صناعة نخبة تحمل رسالته وفكره، ولا جدال في أن هذا المفهوم يتناقض كليا مع مفاهيم الإسلام الثابتة، وتاريخه الطويل من العمل على الأرض، منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الآن، ومنذ أن حلت العلمانية في بلادنا لم تنجح في إقامة نهضة عصرية.

لكن مشكلة العلمانيين في مصر الآن، وأنا أقصد الطائفة التي تكره "الدين" أو تهمشه، أو تراه لا يصلح لتنظيم الحياة المعاصرة، وإن تسترت خلف عناوين براقة وشعارات رنانة، من العصرية والحداثة والتطور والعلمية .. إلخ، وهي أقلية تسيطر على العديد من منابر الإعلام ومنافذ الثقافة والأدب، أنها لا تدرك أن الشعب المصري تغير، وأن ثورة الحرية والكرامة في 25 يناير 2011 فتحت الباب واسعا أمام الأمة كي تمارس حريتها، وتحدد هو وليس النخبة، ماذا تريد.

من الذي مكن هذه النخبة العلمانية من اعتلاء وتصدر المنابر الإعلامية والثقافية والأدبية طوال ستين عاما أو يزيد وحتى الآن؟ هل اختارهم الشعب من خلال مؤسساته كي يمكن اعتبارهم بالفعل "نخبة"؟! إن مفهوم النخبة يأتي من الانتخاب الطبيعي للمجتمع، بمعنى أن يشعر المجتمع أن هذا المفكر أو السياسي أو .. إلخ، يعبر عنه بصدق وتجرد، وينصحه بأمانة وضمير، ويقدم له أفضل ما عنده من فكر وعطاء واجتهاد ورؤية تنبع من هويته ودينه وثقافته وخصوصيته الحضارية.

لقد تعايش العلمانيون بكل أطيافهم (يساريين وقوميين وليبراليين ..) مع الأنظمة السياسية السابقة كلها، بل والتحموا بها في مواقع المسئولية، وعبروا عنها دائما، ودافعوا عمليا عن استمرارها، واستفادوا منها بكل صور الاستفادة، لأن كثيرين من هؤلاء ارتضوا أن يكونوا ضمن الحظيرة الثقافية التي فتحها النظام السابق، وما زال أغلبهم يمارس نفس الدور، وهو تجاهل رأي الشعب ورفض اختياراته الحرة، وعدم السماح له بأن يستمتع بهذه الحرية التي دفع من أجلها الدماء الزكية.

الفشل في فهم "هوية المصريين" على مدى عقود، والإسلام وحضارته مكون أساسي فيها، وعدم القدرة على التطور وتحسين النموذج الفكري، إضافة إلى الانعزال الميداني والاحتماء بالاستبداد السلطوي، هي أكبر أخطاء هؤلاء العلمانيين، وهذا ما يفسر شعورهم بالهزيمة عقب أول انتخابات حرة لاختيار أعضاء البرلمان، وصعود التيار الإسلامي بتياراته المختلفة إلى صدارة المشهد، رغم الحملة الإعلامية الضارية، التي شنها التيار العلماني لتضليل وخداع الشعب.

ولو انحنى العلمانيون لإرادة الشعب المصري الحر، واحترموا هويته وخياراته، واقتربوا من همومه وقضاياه، وتخلوا عن سياسة الإقصاء والإبعاد للإسلاميين، وطوروا رؤيتهم لخدمة بلدهم، فربما استطاعوا أن يخرجوا من أزمتهم الحالية التي تكاد تعصف بوجودهم، أما إصرارهم على استخدام نفس الأساليب والقناعات، ومخاصمة إرادة الشعب، ورفض القبول بالديمقراطية والتعددية، عندها لن يجدوا لهم موطئ قدم في المستقبل.

وإذا كان البعض هلل لإلغاء نتيجة أول انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في تاريخ مصر، أملا في إبعاد الإسلاميين عن صدارة المشهد السياسي فهذا وهم، قد يساهم في إنهاء فكرة العلمانية في مصر إلى الأبد.