دروس غير مستفادة: عن المسلمين والدوغما والفلم المسيء

دروس غير مستفادة:

عن المسلمين والدوغما والفلم المسيء؟!

حمزة رستناوي

المحرّض على كتاب هذا المقال المظاهرات الاحتجاجية ضد عرض فلم (مسيء للنبي )أمام السفارة الامريكية في القاهرة و محاولات اقتحامها ,و كذلك الهجوم على القنصلية الامريكية في بنغازي و مقتل السفير الامريكي فيها و كذلك الكثير من حوادث مشابه من أزمة الرسوم (المسيئة للنبي) و دعوات المقاطعة للدانمرك و كذلك الهجوم و احراق السفارة الدانمركية في دمشق من قبل متطرّفين و برعاية السلطة السورية قبل أعوام خلت , و قبلها جدل رواية (آيات شيطانية ) و سلمان رشدي...الخ.

*

ثمّة علاقة وثيقة و تكاملية بين الاستبداد و الهيمنة الخارجيّة , فأنظمة الاستبداد العربية المفتقدة للشرعية الدستوريّة تسعى لإقناع الغرب و العالم الآخر بكونها الخيار الأفضل لهم , مقارنة بشعوب قاصرة لا تستطيع حكم نفسها , شعوب من (الغوغاء و المتديّنين المتخلّفين و المتطرّفين و الارهابيين ..الخ) ,و قد استَخدَمتْ الأنظمةُ الاستبدادية العربية البائدة منها و الباقية عند اللزوم – تصريحا أو إيماءً - هكذا مصطلحات لتوصيف شعوبها بغية الحفاظ على السلطة و مغانمها و نجد أهم نماذجها في حالة نظام القذافي البائد و نظام الاسد الابن في سوريا .

*

إن كل مجتمع يحتوى على أفراد و فئات و تصورات و تعبيرات مختلفة متفاوتة تتراوح بين الانغلاق و الانفتاح , بين الانحياز للماضي أو الأمل بمستقبل , بين العنف و السلمية .الخ. و الكرة الآن في ملعب الشعوب و المجتمعات لتسحب البساط من تحت أرجل الأنظمة الديكتاتورية و تثبت أنها شعوب قادرة على بناء دولة وطنيّة مستقلّة تحفظ آدميّة الانسان العربي وميراثه الحضاري , و هو أساسا ميراث يتحوّى الهويّة و الثقافة العربية الاسلاميّة . شعوب قادرة على تحمّل مسؤولياتها في ادارة شؤونها , و قادرة على لجم و تقييد التعبيرات و النشاطات المهددة لسلمها الاهلي و علاقتها الطبيعيّة مع الدول الأخرى.

*

إن القيام باستفزاز مشاعر مجموعة عرقية أو دينية هو تصرّف سلبي و غير حكيم , يجب وضع اللوم بداية على من يقوم باستفزاز و الاساءة لمشاعر الآخرين , لأنه قد يطلق شرارة حريق لا يمكن التنبؤ بمآله , فمن يكتب عبارات أو يطرح شعارات و خطابات طائفية أو عنصرية مسيئة للآخرين هو جزء أساسي من المشكلة , و إذا كانت حرية الرأي و التعبير حق من حقوق الانسان الاساسية فهي مسؤوليّة مقيّدة ضمن حدود التنوع و الاختلاف و الحوار و بما يخدم الصالح العام , و ليس في اطار التحريض على القتل و العنصرية و نشر ثقافة الكراهية مثلا.

*

 المحرّضين على الكراهية و بغض النظر عن معتقدهم , ستكون المجموعات الدينية و العرقية التي ينتمون إليها و يتحدّثون باسمها , أول الخاسرين على المدى القريب و البعيد , فهؤلاء المحرّضون على الكراهيّة يقيمون جدارانا نفسية و اجتماعية تفصلهم عن الآخرين تزيد من انغلاقهم , و تضعف امكانيات تقبّلهم و اندماجهم و مشاركتهم سياسيا في المجتمعات و الدول التي يعيشون فيها .

إنّ التحريض على الكراهية , يذكي روح التعصب عند الطرف الآخر المستهدف بالكراهيّة , فالفلم الأخير ( المسيء للرسول) الذي قام بإنتاجه أقباط متطرّفين في الولايات المتّحدة , سيكون أقباط مصر قبل غيرهم هم من سيعاني من ردود الأفعال الناجمة عنه , مما يضعف مشروع مصر دولة لكل مواطنيها الذي يعوّلون عليه .

 و الشيعة المتطرّفون الذين يرفعون بالونات أو لافتات أو يهتفون في شتم الصحابة و عائشة زوجة (النبي الكريم ) هم قبل غيرهم من سيعاني من اشتداد الصراع المذهبي و الحرب الأهلية و الفشل في بناء دولة المواطنة و العدالة التي ينشدها جلّهم .

و السنّة المتطرّفون الذين يفجّرون الحسينيات و مواكب الشيعة هم من سيعاني قبل غيرهم من النتائج السلبية لثقافة الكراهيّة على المدى القصير و البعيد للعنف عبر عمليات انتقام مضاد من متطرّفين شيعة و كذلك تفكّك مشروع الدولة الوطنية و و الخضوع لهيمنة أمراء الحروب و القتل.

*

الأكثر قدرة و الأكثر جدوى على نزع فتيل التطرّف و ثقافة الكراهية هم المنتمين للفئة الدينية و العرقيّة نفسها التي يقوم دعاة التعصب و الكراهيّة بالتحدّث باسمها و تمثيلها , فالنقد الذاتي أكثر فعالية من نقد الآخرين , لأنه أكثر صدقا و أكثر قدرة على التأثير بالآخر المستهدف بالتحريض على كراهيّته.

من هنا واجب أقباط مصر و الكنيسة القبطية في ادانة الفلم المسيء للرسول – و هذا ما فعلوه واقعاً - و التعبير عن وجهات نظر و قناعات مخالفة لما يحتويه الفلم من تصورات مسيئة.

و كذلك واجب الشيعة و مرجعياتهم الدينية و رجال الدين إدانة و نقد خطاب الكراهيّة المنتشر عند فريق منهم , و كذلك عدم تبرير أو الاصطفاف مع الطاغية الأسد الابن في قتله للشعب السوري مثلاً و في هذا ننوّه بالموقف الحيوي لرجال دين شيعة من قبيل : هاني فحص و محمد حسن الأمين.

و كذلك واجب السنّة و مرجعياتهم إدانة خطاب الكراهية الموجود عند القاعدة و مشتقاتها تجاه غير السنّة , فعلى سبيل المثال كان المزاج العام للسنة مؤيد لهجمات 11 أيلول و لم يعتبروها هجمات ارهابية راح ضحيّتها مدنيين ابرياء ؟!

و نفس الفكرة تنطبق على المتطرّفين اليهود في فلسطين و المتطرّفين البوذيين من الرهبان الذين سيّروا مظاهرات تطالب بتهجير أبناء أقلّية الروهانجيا المسلمة في بورما , للأسف! .

*

إنّ ردّة الفعل تجاه حدث ما يتحكّم بها عوامل نفسية و اجتماعية و ثقافيّة متعدّدة و معقّدة , و تخضع لتوظيف سياسي متباين الأغراض في حال كان الحدث وازن .

الحدث : هو عرض فلم (سطحي اختزالي)مسيء للنبي الكريم مُحمد من أيام , و هو حَدَث متوقّع في القرن الواحد و العشرين و متوقّع جدا تكرار وقوعه في المستقبل , و في ظل الانفتاح المعلوماتي و التواصلي في عصرنا من المستحيل على أي جهة محلية أو إقليمية أو دولية منع تقديم هكذا أعمال و مشابهاتها ( رسوم كاريكاتورية – اغاني - رواية - مقال ..الخ) بل يمكن تقييد الانتشار عموما , و لكن ليس منع الانتاج و التداول , و هناك نماذج لقوانين تدين انكار الهولوكست أو تدين التحريض على كراهية السود و المثليين ..الخ . و لكن ذلك لم يمنع تكرار خرق هذه القوانين و بشكل متزايد. بل من المُجدي أكثر تناول طبيعة ردّات الفعل تجاه الحدث , بحيث تكون في حجم الحدث , و بما ينسجم مع المأمول منها إيجاباً.

و سأثبت عدة ملاحظات في هذا الشأن:

-أن لا تتجاوز حدود التعبير عن الرأي إلى التعدّي على حقوق و أملاك و أرواح الآخرين , كما حدث في جريمة قتل الدبلوماسيين الأمريكيين في بنغازي.

-أن تستهدف الاحتجاجات المسئولين عن الحدث المراد الاحتجاج عليه , فما علاقة السفارة الألمانية في الخرطوم بالفلم (المسيء للرسول) حتى يتم اقتحامها و العبث بها ؟! أو ما علاقة مطعم وجبات سريعة لشركة أمريكية في طرابلس لبنان بالفلم ( المسيء للرسول) , و هل الحكومة الأمريكية هي من رعت انتاج و تسويق (الفلم المسيء )أو حتّى أجازته!

-شكل و طبيعة الاحتجاج تعكس ثقافة و وعي المحتجّين , و خاصة أنّهم يرفضون الاساءة كعمل غير أخلاقي فمن الضروري ألا يمارسوا الاساءة و ازدواجيّة المعايير.

-الاحتجاجات على هذا الفلم و ما شابهه , رأس مال عظيم يُغري باستغلاله للسياسيين في العالم العربي , فالسلطات الاستبدادية قد تهتم بهكذا حركات احتجاجية و قد تشجع عليها لتكتسب شرعية الانتصار للإسلام و الرسول في حين أنّها تفتقد للشرعية الدستورية (أمثلة سوريا - السودان) , و كذلك سوف تستثمر السلطات الاستبدادية هكذا احتجاجات لتحشيد الشعوب و خلق مشاعر كراهيّة ليست ضدّها!

و كذلك تشكل هكذا احتجاجات رأس مال رمزي للإسلام السياسي و السلفيين و القاعدة و مشتقاتها , إنها فرصة للمزايدات الانتخابية و حشد الانصار في مواجهة الخصوم الأقل تفاعلا مع الحدث (الاتجاهات العقلانية - العلمانية)

*

يجب التمييز جيدا بين حرية الرأي و النقد من جهة , و بين الاساءة و التحريض على الكراهية , فالأولى مطلوبة و بها تنهض الامم , و الثانية مذمومة و بها تتراجع الأمم. هذا التمييز ضروري و يجب قوننته و تسويقه و حمايته من قبل الدولة و أجهزتها القضائية و التنفيذية , بحيث لا تتحول هكذا احتجاجات أو فتاوى لرجال دين إلى سيف مُسلّط على رقاب المبدعين و الكتاب و المفكّرين.

ففي نقاش مع أحدهم استغربتُ أنه مثلا يعتبر روايات نجيب محفوظ و كتابات فرج فودة و نصر حامد أبو زيد مثلا إساءة للإسلام يجب منعها و محاكمة المسئولين عنها!

*

الرأي يجابه بالرأي و الحجة تقارعها الحجة , أما في حالة التحريض على القتل و الكراهية فنحن في صدد مخالفة و جريمة يجب وقفها و إحالة المسئولين عنها للقضاء, و يجب تدخّل الدولة بآلياتها الضابطة و المنظّمة لحركة للعنف.

*

في العالم العربي : نحن بحاجة لسياسيين أكفاء يمارسون دورهم كرجال دولة , و ليس كسياسيين ضعفاء يرقصون على ايقاع ما يطلبه الجمهور , و يوظّفون الشعور الديني لقطاعات من المجتمع لمصالحهم الفئويّة الخاصة.

*

ماذا بقي من دعاوى التحريض على المخرج السينمائي الراحل (مصطفى العقاد) و و منع عرضه لفلم ( الرسالة ) ؟!

ماذا بقي من دعاوى مقاطعة البضائع الدينماركية ؟! 

ماذا بقي من دعاوى متكررة سابقة لمقاطعة البضائع الأمريكية ؟!

ماذا بقي من دعاوى التحريض على مسلسل (الفاروق : عمر بن الخطاب )؟!