بديع الزمان الهمذاني

هو أحمد بن الحسين، ولد ونشأ في "همذان" شمالي فارس، وهناك تأدب وتعلم العربية والفارسية.

تنقل في عدة أقاليم، بين الريّ، وجرجان، ونيسابور حيث تألق نجمه، وأملى مقاماته الأربعين، وناظر أبا بكر الخوارزمي، ثم استقر في "هراة" إحدى مدن الأفغان حتى مات سنة 398هـ.

له شعر ورسائل، ولكن شهرته تقوم على مقاماته، لأنه أول من أذاع هذا الفن.

والمقامة حكاية قصيرة يتنوع موضوعها، وتقوم على التفنن في الإنشاء، وإيراد الحكم والأمثال وتصوير شخصية بطلها، في أسلوب بارع متأنق، وروح خفيفة، وصنعته البديعية لا يمجُّها الذوق الأدبي، لما فيها من الطبع وحسن التأليف، وجمال الفن: كالمقامة البغدادية والمضيرية والقريضية.

وهذه قطعة من (المقامة البشرية):

حدثنا عيسى بن هشام قال:

- كان بشر بن عوانة العبدي – صعلوكاً(1). فأغار على ركب فيهم امرأةٌ جميلة، فتزوج بها، وقال:

- ما رأيتُ كاليوم.

فقالت:

أعجب  بشراً حورٌ في iiعيني
ودونـه، مسرح طرف iiالعين
أحسن من يمشي على iiرجلين


 
وسـاعـدٌ  أبـيضُ iiكاللجين
خَمْصانةٌ ترفل في حِجْلينِ(2)
لـو  ضَـمَّ بشرٌ بينها iiوبيني

أدام هجري وأطال بيني

قال بشر: ويحك، من عنيت؟

فقالت: بنت عمك فاطمة.

فقال: أهي من الحسن بحيث وصفت؟ قالت:

وأزيد وأكثر.

ثم أرسل إلى عمه يخطب ابنته، ومنعه العم أمنيته فآلى ألا يُرعي على أحدٍ منهم(3)، إن لم يزوجه ابنته. ثم كثرت مضراته فيهم، واتصلت معراته(4) إليهم. فاجتمع رجال الحي إلى عمه وقالوا: كف عنا مجنونك.

فقال: لا تلبسوني عاراً، وأمهلوني حتى أهلكه ببعض الحيل.

فقالوا أنت وذاك.

ثم قال له عمه:

- إني آليت ألا أزوج ابنتي هذه إلا من يسوق إليها ألف ناقةٍ مهراً، ولا أرضاها إلا من نوق خزاعة(5).

وغرض العم كان أن يسلك بشرٌ الطريق بينه وبين خزاعة، فيفترسه الأسد، لأن العرب قد تحامت من ذلك الطريق، وكان فيه أسدٌ يسمى داذاً وحيةٌ تُدعى شجاعاً.

ثم إن بشراً سلك ذلك الطريق، فما نَصَفَهُ حتى لقي الأسد، وقَمَصَ(6) مُهْرُه، فنزل وعقره(7) ثم اخترط سيفه إلى الأسد (8) واعترضه وقطَّه(9)، ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه:

أفـاطـمُ  لو شهدتِ ببطن iiخبتٍ
إذن، لـرأيـت لَـيْـثـاً أمَّ iiليثاً
يـكـفـكـف  غيِلةً إحدى iiيديه
يـدل بـمـخـلـب وبحدّ iiنابٍ
نـصحتك فالتمس يا ليثُ iiغيري
هـززت  له الحُسامَ، فَخلتُ iiأني
وأطـلـقـت الـمهند من iiيميني
فـخـرَّ مـضـرَّجـاً بدمٍ iiكأني
وقـلـت  لـهـ: يعزُّ عليَّ iiأني
فـلا تـجـزع فـقد لاقيت iiحُرّاً









 
وقد لاقى الهزبرُ أخاكِ بِشْرا(10)
هـزبـراً أغـلـباً لاقى iiهزبرا
ويبسط للوثوب عليَّ iiأخرى(11)
وبا للحظات تحسبهن iiجمرا(12)
طـعـامـاً،  إن لحمي كان iiمرا
سـلـلـتُ به لدى الظلماء فجرا
فـقَـدَّ  لـه من الأضلاع iiعشرا
هـدمـتُ بـه بـنـاء iiمُشْمَخِرَّا
قـتـلـتُُ مُـناسبي جَلَداً وفخرا
يـحـاذر أن يُـعاب، فمتَّ iiحُرّا

فلمّا بلغت الأبيات عمه ندم على ما منعه من تزويجها وخشي أن تغتاله الحية فقام في أثره، وبلغه وقد ملطته سَوْرة الحية(13). فلما رأى عمه أخذته حمية الجاهلية، فجعل يده في فم الحية، وحكَّم سيفه فيها.

فما قتل الحية قال عمه:

- إني عرضتُك طمعاً في أمرٍ قد ثنى الله عناني عنه، فارجع لأزوجك ابنتي.

فلمّا رجع جعل بِشر يملاً فمه فخراً، حتى طلع أمردُ كشق القمر، على فرسه، مدججاً في سلاحه. فقال بِشر:

- يا عم، إني أسمع حسَّ صيدٍ. وخرج فإذا بغلامٍ على قِيْدٍ(14).

فقال:

- ثكلتك أمك يا بِشر، أن قتلت دودة تملأ ما ضغيك فخراً(15)؟

أنت في أمانٍ إن سلمت عمَّك.

فقال بشر: من أنت؟ لا أم لك!

قال: اليومُ الأسود والموتُ الأحمر.

فقال بشر: ثكلتك مَنْ سَلَحَتْك(16).

وكر كل واحد منهما على صاحبه، فلم يتمكن بِشرٌ منه وأمكنَ الغلامَ عشرون طعنةً في كلية بشرٍ، كلما مسَّه شبا السِنان(17) حماه عن بدنه، إبقاء عليه. ثم قال:

- يا بشر، كيف ترى؟ أليس لو أردت لأطعمتك أنياب الرمح؟

ثم ألقى رمحه واستل سيفه، فضرب بشراً عشرين ضربة بعرض السيف، ولم يتمكن بشرُ من واحدة.

ثم قال:

يا بشرُ، سلِّمْ عمَّك واذهب في أمان.

قال: نعمْ ولكن بشريطة أن تقول لي:

من أنت؟

فقال: أنا ابنك.

 فقال: سبحان الله! ما قارنتُ عقيلة قط (18)، فأنَّى هذه المنحة؟

فقال: أنا ابن المرأة التي دلتك على ابنة عمك.

فقال بشر:

- تلك العصا من هذه العُصَيّة(19) هل تلد الحية إلا الحية؟

وحلف: لا رَكبً حِصاناً، ولا تزوج حَصاناً(20)

ثم زوَّجَ ابنة عمِّه لابنه.

       

الهوامش:

(1) الصعلوك، في الأصل: الفقير. والمراد هنا: اللص الفاتك.

(2) مسرح طرف العين: أي قريباً منه – الخمصانة: الضامرة الخصر – الحِجل: الخلخال.

(3) أقسم ألا يبقي على أحد.

(4) مفردها: المعرة، وهي الشر والأذى.

(5) خزاعة: من كبريات قبائل العرب.

(6) رفع يديه معاً وطرحهما معاً.

(7) قطع قوائمه بالسيف.

(8) استل سيفه ومشى إلى الأسد.

(9) قطعه

(10) بطن خبث: اسم مكان – الهزبر: من أسماء الأسد.

(11) يكفكف: يقبض – غيلة: خدعة.

(12) يُدلُّ: يتيه ويظهر تكبره.

(13) سطوتها.

(14) أي على مسافة قصيرة كطول الرمح.

(15) يريد: تملأ فمك. وقوله: أن قتلت، معناه: لأنك قتلت (بتقدير حرف جر محذوف).

(16) أي رمت بك من بطنها، وولدتك.

(17) طرف الرمح.

(18) أي ما تزوجت امرأة كريمة.

(19) أي أن الشيء الجليل يكون في بدء أمره صغيراً. وهو مثل من أمثال العرب.

(20) بفتح الحاء: المرأة العفيفة.