حروب أميركا الملفقة الأسباب .. من اليابان إلى إيران

الخرافة : القول إن الولايات المتحدة اضطرت لإعلان الحرب على اليابان بعد هجوم ياباني غادر على القاعدة البحرية الأميركية في هاواي في 7 ديسمبر 1941 ، وإن هذا العدوان دفعها فورا إلى دخول الحرب ضد ألمانيا النازية لتحالف اليابان معها .

أما الحقيقة فهي  أن إدارة الرئيس روزفلت  كانت متحمسة جدا منذ بعض الوقت لشن الحرب على اليابان ، وسعت فعلا لشنها بقانون الحظر النفطي الذي فرضته عليها ، وبغيره من الاستفزازات . وعرفت واشنطون بعد فك رموز الشفرة اليابانية أن أسطولا يابانيا في طريقه إلى بيرل هاربر إلا انها رحبت ضمنا بهجومه ما دام العدوان الياباني سيسهل عليها " بيع " الحرب للأغلبية الساحقة من الشعب الأميركي الرافضة لها .

وكان من شأن هجوم ياباني مضاد لهجوم أميركي أن يمنع ألمانيا من شن هجوم على الولايات المتحدة لارتباط ألمانيا بمعاهدة مع اليابان تلزمها بمساعدتها فقط في حال تعرضها لهجوم خارجي إلا أنه ولأسباب لا علاقة لها باليابان أو الولايات المتحدة وإنما بإخفاق ألمانيا في " حربها الخاطفة " على الاتحاد السوفيتي ؛ أعلن هتلر الحرب على الولايات المتحدة في 11 ديسمبر 1941 ، أي بعد أربعة أيام من هجوم اليابان على بيرل هاربر .

وفي ذلك الحين ، مثلما هي الحال الآن ، كانت تحكم الولايات المتحدة " نخبة السلطة " من رجال الصناعة ، وملاك ومديري شركات ومصارف البلاد الكبرى الذين لا يؤلفون سوى جزء ضئيل من مواطنيها . وفي ذلك الحين أيضا ، مثلما هي الحال الآن ، كان لرجال الصناعة وملاك الشركات ومديري المصارف أولئك علاقات وثقى برتب الجيش العليا أو "لوردات الحرب " مثلما سماهم سي رايت ملز عالم الاجتماع في جامعة كولومبيا الذي صاغ أيضا مصطلح " نخبة السلطة " . إنهم اللوردات الذين سيقام لهم بعد سنوات قليلة مقر ضخم على ضفاف نهر بوتوماك يدعى البنتاجون .

والحقيقة أن " المجمع العسكري _ الصناعي " وجد قبل اليوم بعقود حين سماه الرئيس آيزنهاور هذه التسمية في نهاية عمله الرئاسي ، وبعد خدمة هذا المجمع بكل اجتهاد . وفي حديثنا عن رئاسة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي فإن الحال يومئذ هي الحال الآن : نخبة السلطة الحاكمة تجود على الشعب الأميركي كل أربع سنوات بالاختيار بين اثنين ، أحدهما " جمهوري " ، والآخر " ديمقراطي " ، وقلة تعرف الفرق بينهما ؛ ليقيم في البيت الأبيض  حتى يصوغ السياسات القومية والدولية ويديرها ، هذه السياسات التي خدمت وما فتئت تخدم مصالح نخبة السلطة ، وبعبارة أخرى : استهدفت هذه السياسات دائما زيادة " العمل " ، هذه الكلمة التي ترمز لمضاعفة أرباح الشركات والمصارف الكبرى التي هي أعضاء في سلطة النخبة  . وبعبارة الرئيس كالفن كوليدج الصادقة التي قالها في إحدى المناسبات في عشرينات القرن الماضي : " عمل أميركا ( يعني الحكومة الأميركية ) هو العمل . " ، وحينئذ ، قي 1941 ، كان نزيل البيت الأبيض عضوا مخلصا في نخبة السلطة ، وسليل أسرة ثرية وقوية وذات امتيازات ؛ نعني الرئيس فرانكلين . د . روزفلت الذي يشار إليه غالبا ب " ف . د . ر " ، ( وبالمناسبة : قامت ثروة أسرة روزفلت في جزء منها على الأقل على تجارة الأفيون مع الصين ) ، ومثلما كتب الروائي الفرنسي بلزاك مرة : " وراء كل ثروة كبيرة جريمة " .

والحق أن روزفلت خدم نخبة السلطة خدمة كبيرة ؛ ذلك أنه ترشح للرئاسة في البداية ب" مشقة " ، ثم انتخب ب "سهولة نسبية " في 1932 ، و1936 ، و 1940 ، وكان ذلك إنجازا مبهرا نظرا لكون " الثلاثينات القذرة " زمنا عصيبا تميز ب " الكساد الكبير " ، وبتوترات دولية كبرى أفضت إلى انفجار الحرب العالمية الثانية في أوروبا في 1939 . وكانت مهمة روزفلت  تشمل خدمة مصالح نخبة السلطة بأنجع طريقة ؛ لأن الآراء داخل رتب هذه النخبة تباينت حول كيفية خدمة الرئيس لمصالح "الشركة"  . وبالنظر إلى حجم الأزمة الاقتصادية يومئذ فإن بعض رجال الصناعة وأصحاب المصارف كانوا سعداء أيما سعادة بمقاربة الرئيس لها وفق أسلوب كينسيان ، وهي المقاربة التي عرفت ب " الصفقة الجديدة " ، وتضمنت تدخل الدولة تدخلا متوسعا في الاقتصاد ، وقد عارضها آخرون معارضة شديدة ، ورفعوا أصواتهم مطالبين بالعودة إلى النهج الصارم لحرية العمل ، كذلك انقسمت نخبة السلطة حول أسلوب معالجة القضايا الخارجية ، ومن هذه النخبة وليم نودسن صاحب شركة جنرال موترز الذي لم يتردد في تمجيد الزعيم الألماني هتلر واصفا إياه " بمعجزة القرن العشرين " ، والسبب في رأيه أن هتلر وهو يتأهب للحرب سلح ألمانيا حتى أسنانها ، وأن الفروع الألمانية الكثيرة لمصانع  الشركات الأميركية تربحت وافرا من " الازدهار التسليحي " الألماني بإنتاج العربات والدبابات والطائرات في أماكن كثيرة مثل مصنع جيمس أوبل في روسلهايم ، ومصنع فورد الكبير في كولونيا المسمى فورد فيرك . وعلى مثال هذه المصانع فإن شركتي إكسون وتكساكو للنفط تربحتا وفيرا أيضا من تزويد دبابات هتلر المسماة البانزر ( النمر ) بالوقود اللازم للزحف على بولاندا في 1939 ، وفرنسا في 1940 ، و " تقريبا " موسكو في 1941 . ولا غرابة في أن مديري ومالكي هذه الشركات الأميركية ساهموا في الاحتفال بانتصارات ألمانيا على بولندا وفرنسا احتفالا ضخما في فندق والدورف أستوريا في نيويورك في 26 يونيو 1941. وأيضا أولع " دهاقنة الصناعة " الأميركيون مثل هنري فورد بالكيفية التي أطاح  بها هتلر بالنقابات الألمانية ، وبنزعه الشرعية عن الأحزاب العمالية ، ورمي الشيوعيين وكثيرين من الاشتراكيين في معسكرات الاعتقال ، ورغبوا في أن يعامل روزفلت قادة النقابات الأميركيين المزعجين نفس معاملة هتلر لأقرانهم الألمان ، ومنهم " الحمر " الذين كانوا لا يزالون كثيرين في ثلاثينات القرن الماضي ومطلع أربعيناته . وكان آخر ما يريده أولئك من روزفلت أن تتدخل الولايات المتحدة في الحرب إلى جانب ألمانيا . كانوا " انعزاليين " و " ودعاة عدم تدخل " ، وهو ما كانت عليه غالبية الشعب الأميركي في صيف 1940 حيث بين استطلاع لمعهد جالوب في سبتمبر 1940 أن 88% من الأميركيين يرغبون في بقاء بلادهم خارج الحرب التي كانت تستعر يومئذ في أوروبا ، ومن ثم فلا غرابة في أن روزفلت لم يبدِ أي علامة على الرغبة في تقييد التجارة مع ألمانيا ، ودعنا من المشاركة في حرب شاملة ضد هتلر . والحقيقة أنه وعد وعدا جازما في حملة الانتخابات الرئاسية في خريف 1940 بأن " أولادنا لن يرسلوا إلى أي حرب في الخارج " .

ولم يقلق سحق هتلر لفرنسا وسواها من البلدان الديمقراطية أصحاب الشركات الأميركية الذين كان لهم معه مصالح عمل ، والحقيقة أنهم شعروا أن مستقبل أوروبا مرتبط بالفاشية خاصة الفاشية الألمانية ، أي النازية ، أكثر من ارتباطه بالد يمقراطية ( وهكذا أعلن الفريد . ب . سلوان مدير شركة جنرال موتورز في ذلك الزمان أن مصلحة أوروبا في أن تخلي الديمقراطية المكان " إلى بديل هو النظام الفاشي الذي يتولاه قادة أقوياء وأذكياء وعدوانيون يجعلون الشعب يعمل عملا طويلا وشاقا ، قادة لهم عقلية زعماء العصابات ، فهذه كلها صفات حسنة " ) . ولما كان رجال الصناعة الأميركيون لا يريدون أن يرتبط مستقبل أوروبا بالاشتراكية في نهجها المتدرج ، دعنا من نهجها الثوري  الشيوعي ، فإنهم شعروا بكمال السعادة حين قام قتل هتلر بعد عام بما تمنوا أن يقوم  به ، وهو مهاجمة الاتحاد السوفيتي موطن الشيوعية ومنبع إلهام ومناصرة " الحمر " في أرجاء العالم بما فيه الولايات المتحدة .

وفي الوقت الذي كان فيه كثير من الشركات الكبرى منهمكا في الأعمال المربحة مع ألمانيا النازية ؛ كانت شركات أخرى تربح الكثير من المال بالعمل مع بريطانيا العظمى الدولة التي كانت إضافة إلى كندا طبعا وسواها من البلدان الأعضاء في الإمبراطورية البريطانية هي العدو الوحيد لألمانيا الباقي من خريف 1940 إلى يونيو 1941 حين تسبب هجوم هتلر على الاتحاد السوفيتي في جعلها حليفا للسوفيت . وكانت في ذلك الوقت في أشد الحاجة إلى كل صنوف المعدات لتواصل صراعها مع ألمانيا النازية . وقد أرادت شراء كثير من هذه المعدات من الولايات المتحدة إلا أنها كانت عاجزة عن دفع الأموال التي يتطلبها التشريع الأميركي المعمول به يومئذ ؛ تشريع : " ادفع وارفع " إلا أن روزفلت سهل للشركات الأميركية الإفادة من "نافذة الفرص " الهائلة تلك في 11 مارس 1941 ببرنامجه الشهير " عقد التأجير " الذي زود بريطانيا فعلا بمال وفير لشراء العربات والطائرات وسواها من المعدات الحربية من الولايات المتحدة . ووفرت الصادرات وفق هذا العقد أرباحا جانبية ليس بسبب حجم ما انطوت عليه من أعمال فحسب ، بل لكون هذه الصادرات حققت تضخما في الأرباح وممارسات النصب والاحتيال من مثل مضاعفة فاتورة المشتريات .

وهكذا بدأ جزء من " الشركة أميركا " يتعاطف مع بريطانيا العظمى ، وهذه ظاهرة أقل " بداهة " مما قد نجنح إلى تصديقه الآن ، ( والواقع أن الوطن الأصلي لبث طويلا العدو اللدود للعم سام بعد الاستقلال الأميركي عن هذا الوطن ، أي بريطانيا ، وحتى آخر 1930 كانت العسكرية الأميركية ما فتئت تخطط لمحاربة بريطانيا ، وغزو كندا ، واشتمل مخطط الغزو على قصف المدن واستعمال الغاز السام . وبعض الناطقين بلسان هذه الشركة المنتخبة على قلتهم بدؤوا يحبذون حتى دخول الولايات المتحدة الحرب في صف البريطانيين ، وصاروا يعرفون ب " المتدخلين " . وبداهة أن كثيرا من الشركات الأميركية إن لم يكن أغلبها كسب المال من العمل مع ألمانيا النازية وبريطانيا . وبما أن إدارة روزفلت كانت في تلك المرحلة تعد العدة لاحتمال دخول الحرب فإنها ضاعفت الإنفاق العسكري وطلب كل صنوف المعدات ، وبذلك أخذت تلك الشركات تكسب المزيد من الأموال بتزويدها القوات الأميركية بكل صنوف المواد العسكرية .

وإذا كان من شيء أجمع عليه قادة " الشركة أميركا " بغض النظر عن تعاطف بعضهم الشخصي مع هتلر أو تشرتشل فهو أن الحرب في أوروبا في 1939 أمر جيد ، بل رائع . وأجمعوا أيضا على أنه كلما طالت هذه الحرب فستكون في صالحهم كلهم باستثناء دعاة التدخل الشديدي التأييد لبريطانيا ، واتفقوا على أنه ما من موجب ملح لأن تدخل الولايات المتحدة في الحرب فعليا ، وبالتأكيد ليس ضد ألمانيا . وكان من رأيهم أن أنفع السيناريوهات ل " الشركة أميركا " أن تتواصل الحرب في أوروبا أطول مدة متاحة ليفيد تواصلها الشركات الكبرى في جني الأرباح من تزويد الألمان والبريطانيين بالسلاح ، وتزويد خاصتهم من الحلفاء وأميركا نفسها .

وعبر هنري فورد عن " الأمل بألا يكسب الحلفاء أو دول المحور الحرب " ، واقترح أن تزود الولايات المتحدة الطرفين " بالمعدات ليتصل القتال حتى الانهيار " ، وطبق ما نصح به ، ورتب لمصانعه في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وحتى فرنسا المحتلة  لتزويد المحاربين بالمعدات . وإذا كانت الحرب جهنم وعذابا لشعوب كثيرة فإنها كانت ل " دهاقنة الصناعة " الأميركيين جنة ونعيما . والاعتقاد السائد هو أن روزفلت نفسه كان ميالا إلى التدخل في الحرب **إلا أن الانعزاليين هم  الذين سادوا في الكونجرس حتى بدا أن الولايات المتحدة لا توشك أن تدخل في الحرب ، إن كانت ستدخلها أصلا ، غير أن العلاقات بين واشنطون وبرلين كانت قد تدهورت تماما بسبب صادرات الأسلحة الأميركية إلى بريطانيا وفق مشروع عقد التأجير . وفي خريف 1941 قادت سلسلة حوادث بين الغواصات الألمانية ومدمرات البحرية الأميركية التي كانت تحرس شحنات الأسلحة الموجهة إلى بريطانيا إلى أزمة عرفت ب " بالحرب البحرية غير المعلنة " ، ومع هذا  فحتى أحداث تلك الفترة لم تؤدِ إلى تدخل أميركي فاعل في الحرب في أوروبا لكون الشركة أميركا كانت تجني أرباحا طائلة من الحالة القائمة يومئذ ، ولم تكن ببساطة معنية بحرب على ألمانيا النازية ، ومن ناحية أخرى ، كانت ألمانيا النازية منغمسة عميقا في المشروع العظيم لحياة هتلر ، أي تدمير الاتحاد السوفيتي إلا أن الأمور ما كانت تجري في هذا المشروع حسب الخطة ، فالحرب الخاطفة في الشرق التي بدأت في يونيو 1941 كان المفترض أن تكون " سحقت الاتحاد السوفيتي سحق البيضة " في أربعة أو ستة أسابيع ، أو هذا ما رجحه الخبراء العسكريون ليس في برلين فحسب ، وإنما في واشنطون أيضا . وخلافا للمتوقع ، كان هتلر في أول ديسمبر من ذلك العام لا يزال ينتظر أن يرفع السوفيت الراية البيضاء استسلاما ، والنقيض هو ما حدث : في  5 ديسمبر قام الجيش الأحمر بهجوم مضاد في جبهة موسكو ، ووجد الألمان أنفسهم بغتة في مأزق عويص ، وكان آخر ما ينقص هتلر في تلك المرحلة هو حرب مع الولايات المتحدة .

والواقع أنه لم يكن للعسكرية الأميركية خطط في ثلاثينات القرن الماضي ، ولم تعد خططا لمحاربة ألمانيا النازية ، ومن ناحية أخرى ، كان لديها خطط حرب ضد بريطانيا وكندا والمكسيك واليابان . لم ضد اليابان ؟! في تلك الثلاثينات ، كانت الولايات المتحدة من القوى الصناعية الرائدة في العالم ، ومثلها مثل كل القوى الصناعية ، كانت دائمة البحث عن المواد الخام الرخيصة مثل المطاط والنفط ، وعن الأسواق لتسويق منتجاتها المصنعة . وكانت قبل ذلك ، في آخر القرن التاسع عشر ، قد تابعت مصالحها ملحة في هذا الشأن ببسط نفوذها الاقتصادي ، وأحيانا السياسي المباشر عبر المحيطات والقارات . وقادت هذه السياسية " الإمبريالية " العدوانية التي تابعها بوحشية رؤساء مثل تيودور روزفلت ابن عم ف . د . ر إلى السيطرة الأميركية على مستعمرات أسبانيا القديمة مثل بويرتوريكو وكوبا والفلبين وجزيرة هاواي المستقلة يومئذ ، وهكذا أصبحت  أميركا قوة عظمى في المحيط الهادى ، بل في الشرق الأقصى .

وأدت البلاد الواقعة على شواطىء المحيط الهادي البعيدة دورا متزايد الأهمية بصفتها أسواقا للمنتجات الأميركية المصدرة ، ومصدرا للمواد الخام الرخيصة ، بيد أن الولايات المتحدة واجهت في تلك البلاد في ثلاثينات القرن الماضي التي عصف بها الكساد ، واحتدمت المنافسة على الأسواق ومصادر المواد الخام ؛ قوة صناعية عدوانية منافسة هي اليابان ، بلاد الشمس المشرقة ، التي كانت أشد حاجة من الولايات المتحدة للنفط والمواد الخام والأسواق لبيع مصنوعتها . وسعت اليابان إلى تحقيق مطامعها الإمبريالية في الصين وفي جنوب شرقي آسيا الغني بمصادر المواد الخام ، ولم تتردد مثلها مثل الولايات المتحدة في استعمال العنف لبلوغ مسعاها ، ومثال على هذا ، شنت حربا لا رحمة فيها على الصين ، واقتطعت دولة تابعة لها في شمالي هذه البلاد الكبيرة لكن الضعيفة . ولم يضايق الولايات المتحدة أن اليابانيين عاملوا جيرانهم الصينيين والكوريين بصفتهم طرفا أدنى ، وإنما لأنهم حولوا هذا الجزء من العالم إلى ما سموه فضاء الرخاء المشترك في شرق آسيا الأعظم ، أي تحويله إلى منطقة نفوذ خاص بهم ، و " اقتصاد مغلق " لا مجال فيه لمنافسة أميركا . واليابانيون في هذا إنما اتبعوا مثال الولايات المتحدة التي حولت قبل ذلك أميركا اللاتينية وكثيرا من دول الكاريبي إلى ملعب اقتصادى استثنائي للعام سام .

وأحست " الشركة أميركا " بإحباط لا حدود له لإقصائها من سوق الشرق الأقصى المربح على يد " الياب " ، هذا الجنس الأصفر الذي شرع الأميركيون يحتقرونه في القرن التاسع عشر ، فقد نظروا إلى اليابان بصفتها بلدا متعجرفا وإن كان ناشئا وضعيفا ضعفا جوهريا ، ، وفي مقدور أميركا أن " تمحوه من الخارطة في ثلاثة أشهر " مثلما قال فرانك نوكس قائد البحرية الأميركية مرة . وبذلك نرى أن نخبة السلطة كانت في ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته رغم معارضة أكثريتها للحرب ضد ألمانيا ؛  تؤيد كلها الحرب ضد اليابان اللهم إلا إذا استعدت أن تقدم تنازلات كبرى لأميركا كأن تقاسمها الصين ، فالرئيس روزفلت _ على مثال الرئيس وودرو ويلسون الذي ما كان بالمسالم كما صوره كثيرون من المؤرخين _ كان متحمسا تماما لشن هذه الحرب " الرائعة " ( صاغ هذه الصفة جون هاي وزير خارجية الولايات المتحدة عند حديثه عن الحرب الأسبانية الأميركية في 1898 ، وكانت رائعة في عينه ؛ لأنها سمحت للولايات المتحدة بالسيطرة على الفلبين وبويرتوريكو وسواهما ) . وفي صيف 1941 ، بعد أن ضاعفت طوكيو نفوذها في  الشرق الأقصى باحتلال الهند الصينية ،  المستعمرة الفرنسية الغنية بالمطاط ، ولشدة حاجتها خاصة للنفط بدأت تتلهف تلهفا واضحا للاستيلاء على أندونيسيا ، المستعمرة الهولندية الغنية بالنفط ؛ في ذلك الصيف ، بدا أن الرئيس ف . د . ر قرر أن الوقت نضج للحرب ضد اليابان إلا أنه واجه مشكلتين ، الأولى : معارضة الرأي العام الأميركي الشديدة لأي دخول في حرب خارجية ، والثانية : توقع رفض الأغلبية الانعزالية في الكونجرس لهذه الحرب خوفا من أن تؤدي آليا إلى دخول الولايات المتحدة في حرب ضد ألمانيا . وكان حل روزفلت لهذه المشكلة المزدوجة ، وفق مؤلف دراسة حديثة محكمة التوثيق حول هذه القضية ، هو روبرت ستينت ، أن يستفز اليابان لدفعها لبدء الحرب ضد الولايات المتحدة ؛ ذلك أن الشعب الأميركي لن يكون له خيار في حال هجوم ياباني على بلاده  سوى الوقوف خلف علمها ( وسبق أن دفع للوقوف خلف العلم ذي النجوم والخطوط خاصة عند نشوب الحرب الأسبانية الأميركية حين أغرقت السفينة الحربية الأميركية مين في حادث غامض في ميناء هافانا ، وهو الإغراق الذي اتهم به الأسبان فورا  . وعقب الحرب العالمية الثانية كُيِف الأميركيون مرة أخرى للموافقة على الحروب التي أرادتها حكومتهم وخططت لها باختراعها الاستفزازات مثلما جرى في حادثة خليج تونكين في فيتنام في 1964) . أضف لهذا أن شروط المعاهدة الثلاثية التي وقعتها اليابان وألمانيا وإيطاليا في 27 سبتمبر 1940 تلزم الدول الثلاث بمساعدة بعضها بعضا في حال تعرض إحداها لعدوان بلد آخر ، ولكن ليس في حال عدوان إحداها على بلد آخر . وتبعا لهذا فإن الانعزاليين رافضي التدخل سيؤيدون الحرب في حال هجوم ياباني على الولايات المتحدة . وعليه ، فبعد أن قرر الرئيس روزفلت أنه " يتحتم دفع اليابان للقيام بالخطوة الأولى نحو الحرب " جعل " دفعها للقيام بهذه الخطوة سياسة أساسية قادت أفعاله نحوها في 1941 " مثلما كتب ستينت . وشملت حيله في هذا المنحى نشر السفن الحربية قرب المياه الإقليمية اليابانية وحتى داخلها بأمل جلي هو خلق حادثة من نوع حادثة خليج تونكين يمكن تفسيرها سببا موجبا للحرب . وأكثر فاعلية وتأثيرا من هذا ، كان الضغط الاقتصادي القاسي على اليابان ، البلد الذي يعاني أشد الحاجة للمواد الخام مثل النفط والمطاط ، ومن ثم كان من المتوقع أن ترى في أساليب هذا الضغط محفزا رائعا للحرب . وفي صيف 1941 ، جمدت إدارة روزفلت كل أرصدة اليابان في الولايات المتحدة ، ومضت في سعيها ل" إحباط حصول اليابان على المشتقات البترولية " ، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية قاسية بالتعاون مع البريطانيين والهولنديين الذين كانوا يعادون اليابان لأسبابهم التي تخصهم ، ومن هذه العقوبات حظر المشتقات البترولية الحيوية . واشتد الموقف تدهورا في خريف 1941 ، ففي 7 نوفمبر من نفس العام ، عرضت طوكيو ، بأمل تجنب الحرب مع الولايات المتحدة القوية ، أن تطبق في الصين مبدأ عدم التمييز في العلاقات التجارية بشرط أن يقوم الأميركيون بذات الشيء في فضاء نفوذهم في أميركا اللاتينية إلا أن واشنطون لم تقبل هذه التبادلية العادلة إلا في فضاء نفوذ الدول الاستعمارية الأخرى ، وليس في حديقتها الخلفية ، وكان أن رفضت العرض الياباني .

إذن استهدفت استفزازات الولايات المتحدة المتواصلة دفع اليابان للمبادرة للحرب ، وفعلا تزايد احتمال دفعها لها ، وأسر ف. د . ر  لبعض أصدقائه في ما بعد بأن " مواصلة وخز الأفاعي الجرسية بالدبابيس دفعت في النهاية هذا البلد للدغ " ، وفي 26 نوفمبر ، حين طالبت واشنطون اليابان بالانسحاب من الصين ، رأت " الأفاعي الجرسية " في طوكيو أن الكيل طفح ، واستعدت ل "اللدغ " ، وأمر الأسطول الياباني بالإبحار إلى هاواي لمهاجمة السفن الحربية الأميركية  التي كان ف . د . ر أمر برباطها هناك في 1940، وهو عمل مستفز وداع للحرب بالقدر الذي يغري اليابانيين بها . وعرفت الحكومة الأميركية وكبار قادة الجيش ما الذي ينوي الأسطول الياباني الإقدام عليه بعد حلهم لرموز الشفرة اليابانية ، ولكن لم يحذروا القادة في هاواي ، فسمحوا ل " الهجوم المباغت " بالوقوع على بيرل هاربر يوم الأحد 7 ديسمبر 1941 . وفي اليوم التالي ، كان سهلا على ف . د . ر إقناع الكونجرس بإعلان الحرب على اليابان ، وأعلن الشعب الأميركي اصطفافه وراء راية بلاده بعد أن صدمه الهجوم الجبان المظهر والمفاجىء الذي لم يعلم أن حكومته استفزت اليابان للقيام به ، وأنه كان متوقعا . وكانت الولايات المتحدة مهيأة للحرب على اليابان ، وضاءلت الخسائر الأميركية في بيرل هاربر والتي كانت أبعد من أن تكون مأساوية ، وإن زعم أنها محزنة ؛ من توقعات انتصار أميركي سهل نسبيا على اليابان ، فالسفن التي أغرقت كانت عتيقة ( أغلبها عمره 27 عاما ومن مخلفات الحرب العالمية الأولى ) ، وبعيدة جدا عن الحاجة إليها لإعلان حرب على اليابان . وأما السفن المحدثة ومن بينها حاملات الطائرات التي سيكون لها دور فعال جدا في الحرب فلم يصبها أذى ، وصدرت أوامر من واشنطون ، كأنما صدفة ؟! بإرسالها إلى أمكنة أخرى ، فصارت في أمان في البحر وقت الهجوم الياباني ، على أن الأمور ما سارت حسب المنتظر ، فبعد أيام قليلة من الهجوم ، يوم 11 ديسمبر ، أعلنت ألمانيا النازية فجأة الحرب على واشنطون ، فاضطرت الولايات المتحدة لمجابهة عدوين ، ولخوض حرب أكبر مما قدرت ، حرب على جبهتين ، حرب عالمية. ولم يتفاجأ البيت الأبيض بأنباء الهجوم الياباني على بيرل هاربر بينما انفجر فيه نبأ إعلان الحرب الألماني انفجار القذيفة ، فألمانيا لا علاقة لها  بالهجوم على هاواي ، بل لم تكن تعلم بالخطط اليابانية في هذا الشأن ، ومن ثم لم يفكر ف . د . ر في طلب موافقة الكونجرس لإعلان الحرب على ألمانيا النازية في نفس الوقت الذي طلبها فيه لإعلانها على اليابان . ويجب الإقرار بأن علاقات الولايات المتحدة مع ألمانيا كانت قد بدأت تتدهور منذ بعض الوقت بداعي دعم أميركا الفعال لبريطانيا العظمى الذي تصاعد إلى حرب بحرية غير معلنة في خريف 1941 ، ومع ذلك ، ومثلما رأينا من قبل ، لم تشعر سلطة النخبة في الولايات المتحدة أنها بحاجة للتدخل في الحرب في أوروبا ، وكان هتلر نفسه هو الذي أعلن الحرب على الولايات المتحدة في 11 ديسمبر 1941 ، وهو الإعلان الذي أدهش روزفلت كثيرا ، لماذا ؟! الجواب : لأنه قبل أيام فحسب ، في  ديسمبر 1941 قام الجيش الأحمر بهجوم مضاد في جبهة موسكو الأمر الذي أدى إلى إخفاق الحرب الألمانية الخاطفة في الاتحاد السوفيتي  . وفي نفس الأيام تأكد هتلر وقادة جيشه أنهم ما عادوا قادرين على كسب الحرب ، ولكن حين علم المستبد الألماني بالهجوم الياباني على بيرل  هاربر بعد أيام قليلة ؛ بدا أنه قدر أن إعلان الحرب على العدو الأميركي لأصدقائه اليابانيين مع أنه ليس مطلوبا منه بمقتضى شروط المعاهدة الثلاثية ؛ سيغري اليابان بمعادلة إعلانه الحرب على أميركا بإعلانها الحرب على الاتحاد السوفيتي عدو ألمانيا .

ولضخامة حجم الجيش الياباني المرابط في شمالي الصين والقادر على مهاجمة الاتحاد السوفيتي فورا في منطقة فلاديفستوك كان أي قتال مع اليابانيين سيدفع بالسوفيت إلى مأزق فائق الخطورة في جبهتين للحرب ، ويفتح الطريق لاحتمالية كسب ألمانيا حربها ضدهم ، ومن ثم حسب هتلر انه  يمكن أن يعوذ نفسه من شبح الهزيمة بدفع اليابانيين لمهاجمة تخوم سيبيريا المكشوفة ، لكن اليابان لم  تبتلع طعمه . صحيح أن طوكيو تحتقر الدولة السوفيتية إلا أنها لم تكن تملك رفاه الحرب في جبهتين بعد أن بدأت حربا مع الولايات المتحدة ، وعلى هذا صبت كل مجهودها في استراتيجية الجنوب بأمل الفوز بجائزة جنوب شرقي آسيا الغني بالموارد الطبيعية بدل الاندفاع في مغامرة في ربوع سيبيريا غير المضياف . ولم يحدث أي نشاط عدائي بين الاتحاد السوفيتي واليابان إلا عقب استسلام ألمانيا النازية . وعلى كل حال ما كانت الولايات في حاجة إلى أن يعلن هتلر الحرب عليها ، فهي كانت شريكا فعالا في  الحرب في أوروبا إلى جانب بريطانيا العظمى والاتحاد السوفيتي بصفته حليفا .

وخاض العام سام في السنوات الأخيرة حروبا متكررة ، وطلب منا دائما أن نصدق أن هذه الحروب تخاض لأسباب إنسانية خالصة : لوقف مجازر ولمنع الإرهابيين من اجتراح كل ألوان الشرور ، وللتخلص من الاستبداديات البغيضة  ، ولتعزيز الديمقراطية . كلا ، فجلي  أن مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية ، ، وبدقة أوفى ، مصالح الشركات الأميركية  لها دخل في هذه الحروب . وغالبا ما تمت الموازنة بينها وبين دور الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية إلا أن فحصنا الوجيز لملابسات دخول الولايات المتحدة في الحرب في ديسمبر 1941 يعطينا صورة فائقة الاختلاف ، فنخبة السلطة رغبت في الحرب ضد اليابان ، وأعدت لها الخطط قبلها بزمن ، وهيأ لها روزفلت بلطف ليس بسبب عدوان طوكيو المثير للغضب وجرائمها الحربية الرهيبة في الصين ، وإنما لأن الشركات الأميركية أرادت أخذ نصيبها من " الكعكة " الكبيرة اللذيذة في موارد وأسواق الشرق الأقصى . ومن ناحية أخرى ، لأن شركات الولايات المتحدة الكبرى كانت تقوم بأعمال مبهرة في ألمانيا النازية ومعها محققة أرباحا كبيرة من الحرب التي بدأها هتلر ، وفي نفس الوقت كانت تزوده بالمعدات وبالوقود اللازم لحربه الخاطفة . ولم تكن نخبة السلطة ترغب في الحرب ضد ألمانيا النازية حتى مع وجود كثير من الأسباب الإنسانية الضاغطة للقيام بحرب ضد الشر الحقيقي ، أي الرايخ الثالث ، كما لم  توضع أي خطط في أميركا للحرب ضد ألمانيا قبل 1941 ، ولم تذهب الولايات المتحدة في ديسمبر 1941 إلى الحرب ضدها  بطيب خاطر ، ولكنها " دفعت " إليها دفعا لغلطة هتلر نفسه . ولم يكن للاعتبارات الإنسانية أي دور في الحسابات التي قادت إلى مشاركة الولايات المتحدة في هذه الحرب ، أو" حرب أميركا الطيبة " الأصلية . وما من محفز للاعتقاد أن الأميركيين وضعوا الإنسانيات في حساباتهم حديثا حين مضت أميركا للقتال في "حروب طيبة " ليست مشروعة في بلاد تعسة مثل العراق وأفغانستان وليبيا ، أو أنهم سيضعونها في حسابهم في الحرب التي تلوح نذرها ضد إيران والتي ترغب فيها "الشركة أميركا " رغبة محمومة ما دامت تعد بسوق واسعة وبموفور من المواد الخام خاصة النفط . وخطط هذه الحرب مجهزة مثلما كانت الحال في الحرب ضد اليابان . ويبدو ساكن البيت الأبيض في نفس حماس ف . د . ر للقيام بها . وأكثر من هذا ، ومرة أخرى مثلما كانت الحال في الحرب ضد اليابان ، تعزف أنغام الاستفزازات بانسجام ، وهذه المرة في صورة تخريب ، وتعد للطائرات المسيرة ، وبالطريقة القديمة الممثلة في نشر السفن لحربية خارج المياه الإقليمية الإيرانية مباشرة . ومرة أخرى " تخز واشنطون الأفاعي الجرسية " بهدف واضح هو أن ترد "أفعى الجرس " الإيرانية بلدغة ، الأمر الذي يبرر " حربا صغيرة رائعة " . ومع هذا ، ومثلما حدث في بيرل هاربر ، قد تكون الحرب الناتجة عن الاستفزازات الأميركية أكبر وأطول وأقبح من المتوقع .

*جاك . ر . بويلز . (global research) .

وسوم: العدد 869