هكذا فقدت "حقي"

من الأدب التركي المعاصر:

هكذا فقدت "حقي"

قصة الكاتب:علي نار

ترجمة: عوني لطفي أوغلو - تركيا

صاحبه يحادثه باستمرار.. كأنه ينصحه أو يسليه. ويبدو هو شغفاً إلى السماع، يتحرك مرة، ويجدد النظر مرة أخرى في طور اعتراض أو تأييد أو انتظار نتيجة، يسيران جنباً إلى جنب، غادرا المسجد بخطوات صغيرة ووقفات قصيرة، يقدم أحدهما الآخر حين يضيق الطريق، يستبشران بالخضار ويتنفسان الهواء المشبع بالبخار في "جرميك" أو يستمعان إلى خرير نهر "آراس"..

المتكلم يبذل جهداً، وهو منصت في استغراق، كأنه ملزم بالإنصات أو واجب يؤديه لطبيب يداوي بالكلام.

أصداء الكلمات الأخيرة لصاحبه حين بلغا محطة "باسينلر"، تنعكس في شعوره وعواطفه، وخطواته، يسير نحو خلف القلعة... حيث اعتاد منذ أشهر أن يذهب بين الظهر والعصر، ويتذكر، ويدعو، ويبكي على "إبراهيم حقي" في الخلوة إذ يعد البكاء عليه بين الناس ضعفاً وعيباً.

أيها الحافظ للقرآن، يا محمد، اصبر، فمن صبر ظفر. الله خير المنتقمين. ولن يضيع الحق. "حقي" كان مثل أبنائنا لسان حال كل منا يقول: فقدت حقي. لكن إن فقدنا "حقي" فينبغي ألا نفقد أنفسنا.

يشعر بدوار عجيب في أعماق هذه الكلمات.. كأنه يتعرف على معانيها لأول مرة، وكأنه لم يعظ بها الناس في مسجد "إبراهيم حقي" على كرسي الوعظ أو المنبر أو كأنه نفد صبره فهو صاد إلى النصح. وكأن تراب سطح المسجد وحجارة جدرانه، ورخام المحراب، وبلاط المنبر ومرمر الأعمدة لا تشهد على وقاره وصبره وسكونه وحزمه، ولا الناس في حيّ "القلعة" كلهم، رجالاً ونساءً..

- وكيف يعود المفقود أو يستعاد؟ يرفع رأسه كمن يريد أن يصرخ ألف مرة، فيجمد بصره على جزء من "القلعة". صخرة تتدلى تزن ألف طن، وقد تتدحرج في لحظة فوق الحي فتحيله عجينا. يمور في أمواج نفسية متناقضة: الصخرة العملاقة تنخلع في لحظة، فتسحقه وحده! وينتقل الخبر إلى العالم كله: الصخرة تنشق جزعاً على أب فقد ولده، نور عينه، غصناً طرياً لم يذق حلاوة الشباب بعد، فتنجيه من العذاب.. كلا، صخرة تجيب على صيحة أب يصرخ. فقدت "حقي"! كلا.. كلا.. ينجو من الموت وبينه وبين الموت شعرة، لكن الصخرة تسحق الحي كله، ويشهد الشهود على أعجوبة نجاته، فيقولون إنه نجا من موت محتوم عوضاً عن ولده الذي فقده في حادث عارض، ويكاد أن يجد سلوى في غمار الحزن، يهرع الناس إلى الحي في عويل وصراخ ويلقونه وتمتزج أحزانهم وحزنه، كلا... قلبه يعاند خياله: الدولة تخلي الحي من أهله ثم تفتت الصخرة، فلا يفقد إنسان ولده كما فقدت "حقي" أو لا يموت إنسان فيفقد نفسه!.

خياله الأخير يريحه مثل نفحة نسيم عليل، فيعود بخطوات مطمئنة إلى السير نحو أرض المقبرة القديمة الخضراء.. هناك يستسلم للوحة الحياة والموت العجيبة، ويشده بين هاتين الحقيقتين..

يجلس على حجرة اعتاد أن يجلس عليها، يقول: "ها قد جئت" يغمره خجل التأخر عن موعد زيارته لولده ثلاث ساعات عما عهده، إذ لم يفترق عن الجماعة هذا اليوم إلا بعد صلاة العصر، استقبل القبلة بامتداد خط يمر عبر طرف رأس القبر، الخضرة تغزو التراب الذي يغطي القبر الجديد، وتطول حتى تكاد تغطي ما كتب على الشاهدة، تتعلق نظراته الباهتة المتعبة بالنباتات المنبثقة بحيوية، إنها تذكر بإنسان في أول الحياة. إنها في يد القدر، ينهي أعمارها يوماًّ! ربما تسحقها أقدام غافلة، أو تقلعها يد لا تعرف الحنان، أو يمضغها حيوان غذاء طازجاً، أو يقصم ظهرها عمر يبلغها أيلول، فيذوي لونها وينشرها الريح، ويغرقها المطر في التراب. لكن أن تتقطع في حال خضرتها هذه! إذن القلب يتقطع معها.. كما يتقطع على "حقي" المفقود.

مع همسة "آه" ترتفع عيناه المتلبدتان بغيوم كثيفة نحو الشرق والأفق.. إلى تلال "قرية كوبري" والإقليم المتوتر المشدود في الأفق الضبابي الأزرق بين جبل "كوسة" و"صوغانلي" حيث يمتد الطريق البري حتى يختفي فيها. ثم يعبر إلى ما وراءها، جسر "جوبان" الغائب المعلوم، ثم يحيد عن يسار "خوارسان" ويخلف وراءه "طابية خوروم" ليصل إلى "طابية طوب يولو"، وتنحدر خلاصة أحداث التاريخ في هذه الطابية من الجبل الذي استشهد فيه خاله "العريف حميد" إلى قريته. وواديها المزخرف بأشجار السرو.. وشلالاتها وبيوتها حول النهر، ومن هناك إلى سنوات شبابه عبر الزمان الراجع. وفتوته النشوى المهابة إثر عودته من الخدمة العسكرية.

وتنشرح الملامح المتوترة في وجهه قليلاً، حين يتذكر ابن خاله، وهو من أترابه وشبيه بأبيه، إذ ينظر أهل القرية رجالاً ونساء إليه بإعجاب أثناء مرورهما في درب القرية أملاً في لفت النظر، فالزواج تجذرت في خاطره همسات نساء القرية ورجالها تقول: "فيه أثر من العريف حميد... ملامحه تذكر به.. وطوله وحسنه وأخلاقه، ووقاره..".

يجتاز هذه الخواطر في وهلة، ليستقر في خواطر الحب والسرور الذي أغدقته العائلة كلها عليه أيام أتم حفظ القرآن. هنا يفيق من الخيال، وتستعيد عينه النظر، يقرأ "هذا قبر إبراهيم حقي الذي توفي في حادث أليم في ريعان الشباب". ينتفض كأنه يقرأ لأول مرة. ويرن صوته في أذنيه وهو يخاطب الأقرباء في الهاتف: أخي.. فقدت حقي.. أختي.. فقدت حقي... فقدتم حقي... يتحول الصوت إلى صفير في الأذن.. إلى طنين.. إلى أنين.... إلى ألم من اللب إلى القلب، ومنه إلى الرئة.. ومنها إلى الفراغ أسفل البطن ليستقر وجعاً قوياً. ثم يعود الوجع أعلى، ويسيطر على العقل، يتحول إلى تمرد.. تمرد لم يلتفت إليه حتى الآن ولم يقترب منه، يستدرك مصححاً.. لا أتمرد على الحق.. لكن على الباطل الذي يسلب حقي.. يريد أن يحزم التمرد بالعقل في الطريق الصحيح. يبذل جهداً عظيماً من أجل ذلك ويغزوه حس الرهب وغياب الوعي.

يستند إلى الشاهدة التي كتب عليها "هو الباقي"، ويوجه التمرد ضد نفسه، يرسل خطواته في طريق المدينة، يبرق في مخه أسئلة وأجوبة:

- إذن لا زلت مضطرباً لأني فقدت حقي؟! لكن كيف فقدت حقي؟ أو على الأقل كيف وقع الحادث؟ ما هذه الرحلة بالشاحنة؟ لم كان السائق سكراناً؟ وما كان حال مسؤول المدرسة؟ ولماذا عقدت الندوة في "خوارسان" لماذا كان حقي في موقع الزيارة؟ كيف تدلى من الشاحنة، ولماذا لم يسقط أرضاً، بل تعلق مقلوباً، وسحب في الطريق؟ لماذا تأخر نقله إلى المستشفى؟ لماذا تأخر الطبيب في المعالجة ساعات؟ أسئلة حيرى وأجوبة حيرى..

- كان ابني ذكياً ونشطاً ومتفوقاً. كان قرة عين المدرسة محبوباً ولطيفاً وقوياً. وتثور أسئلة ماحقة:

- أحادث هذا أم بلاء؟ أقتل أم خطأ، أم عين حاسد، أم سكر؟

سؤال يفتح باباً لسؤال. العقل يضيق عليه الخناق.

- كيف فقدت حقي؟ بل لماذا فقدت حقي؟ إن قادة البلد كلهم سكارى منذ سنين طويلة، وهذه الحالة تتركز في السائقين!! يقال في المثل: تنتهي الأعمار ولا تنتهي الطرق. حين ينتهي العمر ينقطع السير!..

لعل هاجساً دهمه، إنه في نهاية العمر، فتخيل انهيار صخرة القلعة ورمقها بطرف عينه.. وساح في فضاء جديد:

- لقد فقدت حقي.. كل واحد منا يقول: فقدت حقي. انتهى الأمر، المسألة كيف أعيد حقي!؟.

كل منا يقول: فقدت حقي، هذا اليوم، أمس، أول أمس، قبل ثلاث سنين، خمس سنين، ثلاثة قرون! كل منا يقول فقدت حقي.. وينتقل إلى يومنا!.

هل تتوحد القضية اليوم باسم طفل من الأطفال؟

هذه الأفكار والعواطف والتصورات والتخيلات المشوشة، تتصاعد حتى تغدو غضباً، غضباً عقلياً، يتكاثف في هدف واحد، في نقطة واحدة، حين يصل إلى باب المسجد.

- نعم. إنه رمز. "حقي". لكل منا "حقي". حقنا.. "حقي" وحقنا العظيم. "حقي" وحقنا في الحياة. حقنا في التفكير، حقنا في دم الشهداء، حقنا في الدين.. حقنا في التاريخ والثقافة.. حقنا في الدولة.. ماذا نأمل وممن نأمل شيئاً إن لم نحق حقوقنا؟

ويسأل:

- فقدنا حقوقنا، فهل نفقد الآن أنفسنا؟

بعد أن صلى المغرب مع الجماعة ووصل البيت، كان غضبه قد بلغ هذا المبلغ. ولما توسد الوسادة تغير الغضب إلى ألم حمضي في الجزء الأسفل من البطن. بدأ لونه يذوي ونار غضبه تخبت. وما فتئ يكرر في مرض موته الطويل:

- يا حق.. انتقم لحقي.. انتقم لحقنا.. يا حق. هب لنا الإحساس بالحق.

ما فتئ يكرر "الحق.. وحقي". وسلك الطريق إلى الحق مع أصداء صراخ الآلام من كل مكان.. "الحق".. و"حقي".