طفلة فلسطينية في قصيدة نرويجية

طفلة فلسطينية في قصيدة نرويجية

أسامة العيسة

*قصة الطفلة نداء التي تسببت بأزمة بين النرويج وإسرائيل

أسامة العيسة من مخيم العزة (بيت لحم): لم يكن أمام الطفلة الفلسطينية نداء العزة، خلال سنوات الانتفاضة الأولى، سوى اللجوء إلى دفاترها، تبثها كلامها عن ممارسات الاحتلال، وتبوح لها بمشاعر فتاة تتفتح على وقع القنابل الإسرائيلية.

ولم تكن تعلم نداء التي قتلت برصاص قناص إسرائيلي في شهر آذار (مارس) 2002، ان شاعرة نرويجية ستشاهد موتها الدامي على شاشات التلفزة وتكتب عنه قصيدة تدرج في مناهج التدريس النرويجية.

وطوال عمرها القصير (15 عاما)، كان على نداء الرقيقة كاتبة النصوص الطفولية المؤثرة والشعر وعاشقة القراءة، ان تكون على مواعيد تكاد تكون ثابتة مع الحزن.

هجرة دائمة تنحدر عائلة نداء من قرية بيت جبرين التي دمرت عام 1948، وهجر سكانها، وانتقل أجدادها إلى العيش في مخيم صغير للاجئين على مشارف مدينة بيت لحم الشمالية، قريبا من القدس سمي مخيم بيت جبرين على اسم القرية الام ولكن اسمه الأشهر الان هو مخيم العزة على اسم عائلة نداء الممتدة التي كان لها شانا ذات يوم قبل التهجير، وأصبح أفرادها لاجئين في تلك اللحظة الفاصلة من الزمن في ذلك العام الذي يطلق عليه الفلسطينيون النكبة.

اما نداء فولدت بعيدا عن الوطن في المملكة العربية السعودية يوم 3 آب (أغسطس) 1986، وعادت إلى الوطن مع عائلتها عام 1995، وفيما بعد وصفت نداء في أوراقها تلك العودة "إلى الوطن الحبيب" بحماس.

ولكن الفرح بالعودة إلى "الوطن الحبيب" لم يكتمل فبعد نحو عام فجعت نداء وعمرها 10 سنوات بوفاة والدها، وغيابه للأبد.

وفي لقاء مع والدتها في منزل العائلة في مخيم العزة قالت لمراسلنا "تأثرت نداء، وهي الحساسة، لوفاة والدها، وليس فقط نداء التي تأثرت ولكن شقيقاتها وأشقاءها الخمسة صدموا بغياب الوالد المحب المفاجيء".

وواجهت نداء غياب الأب بالاجتهاد بالدراسة واستمرار المطالعة وكتابة الأشعار والخواطر، وإبداء رغبتها بان تنفذ عمل من اجل الوطن و"تموت شهيدة".

وتقول أمها "أبدت نداء كثيرا أمنيتها ان تموت شهيدة، خصوصا عندما كانت ترى جرائم الاحتلال، ولكننا لم نكن تعرف ما ينتظرها".

هدم منزل

عندما اندلعت انتفاضة الأقصى في أيلول (سبتمبر) 2000، أكملت نداء 14 عاما من عمرها، وكان عليها مثل باقي الفلسطينيين، ان يستعدوا لما وصف بأنه أكثر أعمال العنف والقمع التي مارسها الاحتلال منذ حزيران (يونيو) 1967، كان الموت يسكن الشوارع والأزقة وأصبح مشهد الأطفال الذين يقضون بالرصاص الإسرائيلي، مرافقا للانتفاضة منذ شهورها الأولى.

وتقول والدة نداء "عندما استشهد محمد الدرة، غضبت نداء كثيرا، ودخلت إلى غرفتها وأخذت تكتب".

وتضيف "ولكن ما اثر في نداء أكثر كان استشهاد الطفلة الرضيعة إيمان حجو، عندا أصاب نداء حزن كبير، وأخذت تبكي، وتقول أنها تتمنى لو تحتضنها وتقبلها، ودخلت غرفتها ولم تخرج لمدة يومين".

وخلال الأشهر التالية شاهدت نداء عشرات الجنازات التي مرت من أمام منزلها لشهداء رجال ونساء وأطفال، ومنها لأطفال في عمرها واقل مثل الشهيد الطفل مؤيد الجورايش الذي قتل وهو يحمل حقيبته المدرسية على كتفه على بعد اقل من 100 متر عن منزل عائلة نداء.

وخلال الأشهر الأولى للانتفاضة اضطر الفلسطينيون إلى استحداث مقابر جديدة للشهداء ومن بينها مقبرة الشهداء في مخيم الدهيشة القريب، وطلبت نداء "ان تدفن في هذه المقبرة بالقرب من الشهداء في حالة استشهدت" كما تقول أمها.

وتضيف "كأنها كانت تعلم، لقد كانت حساسة وشاعرة تتدفق عواطف وبراءة".

وفي نهاية عام 2001 أصبح مخيم العزة هدفا لتوغلات الجيش الإسرائيلي وعملياته العسكرية والتي غطيت إعلاميا بشكل كبير ومن بينها عملية اسماها الجيش "السكين في الزبدة" حيث وصل الجيش إلى فندق البردايس في مدينة بيت لحم والذي لا يفصله عن منزل نداء سوى شارع، وهذا الشارع يفصل في الواقع بين عالمين، بين بؤس المخيم وعالم المدينة التي لم تعد مدينة، وكانت تلك المنطقة خلال سنوات طويلة سبقت الانتفاضة، نقطة التماس بين الأولاد المنتفضين وجيش الاحتلال.

وفي شهر تشرين أول (أكتوبر) 2001، أصبح منزل عائلة نداء هدفا لقناصة الاحتلال المرابطين في الفندق، وأصيبت نداء بشظايا في صدرها وظهرها وأصيبت شقيقتها شذا بشظايا في صدرها ويدها، وتلقت الاثنتان علاجا، وغادرتا مع أمهما وباقي الأشقاء إلى مخيم الدهيشة عند الأقارب تاركين المنزل وحيدا يوجه الاقتحام والرصاص.

وفي اليوم التالي عندما عادت الام لم تجد المنزل، كانت قد أزالته الجرافات الإسرائيلية الضخمة لفتح طريق في أزقة المخيم الضيقة.

تقول والدة نداء التي أصبحت أكثر من والدة لأبنائها بعد وفاة الوالد "كان المنظر صعبا، ها نحن من جديد على موعد تهجير جديد، ولكننا لم نيأس، استأجرنا منزلا في نفس الشارع قريبا من أطلال المنزل الأول".

وكان على نداء ان تهرب إلى دفاترها تكتب عن المنزل المدمر وتقارن بين التهجير الجديد وتهجير أجدادها من قرية (بيت جبرين(

رصاصة من الخلف

وفي المنزل الجديد زادت الأمور سوءا، فالاقتحامات لم تتوقف، واخذ الجيش الإسرائيلي الذي يصف نفسه بأنه "الجيش الذي لا يقهر" يطلق أسماء أخرى على عملياته العسكرية التي يطارد بها الأولاد ويهدم منازلهم.

وكان على نداء ان ترى كيف قتل القناصون ناهض الجوجو قائد الشبان الذي كانوا يدافعون عن المخيم على بعد أربعة أمتار من المنزل الجديد، وأيضا شهدت مقتل الشاب وائل العبيات، الذي كان حلقة وصل بين المقاومين وربما كان الذي اثر فيها أكثر مقتل جارهم محمد براقعة، الشاب الأصم الأبكم، الذي رحل تاركا أولاده خلفه، مثلما فعل والدها وعمرها 10 سنوات.

واستمر اقتحام المخيم المتكرر ويوم 9 آذار (مارس) 2002، وقع أمام أعين نداء وشقيقاتها وصديقاتها منظرا أصبح مألوفا، رصاص القناصة ينهمر على سيارة يقودها شاب أمام المنزل، فتعتقد والأخريات انه استشهد فيخرجن للمساعدة، فيتبين أن الشاب خرج من السيارة بعد أن أوقفها واختبأ تحتها، بينما الرصاص ما زال ينهمر عليها.

تستذكر أمها ذلك اليوم قائلة "أصبح إطلاق النار والموت عاديا، وكنا جميعا نهب للمساعدة، وبعد أن خرجنا في ذلك اليوم وفرحنا لان الشاب لم يقتل وكان ما زال مختبئا تحت سيارته التي أخذت تتحرك من قوة الرصاص، دخلت أنا إلى المنزل بينما بقيت نداء ورفيقاتها خارجا يتحدثن، وطلبت منهن الدخول، ولكنهن تلكأن في ذلك، وبعد دقائق سمعت نداء تقول لي بأنها أصيبت، ولم اخذ ذلك على محمل الجد، وعندما خرجت من المنزل، وجدت نداء ممسكة بيد شقيقتها شذا ثم ارتخت يدها وسقطت على الأرض، وعندها أمسكتها خرج شلال دماء منها".

وتبين أن نداء أصيب برصاصة في الظهر خرجت من البطن، ولم يكن من السهولة إسعافها كما يقول عبد الشيخ الذي هب للمساعدة.

ويضيف الشيخ وهو يشرح لمراسلنا عن ما حدث في موقع سقوط نداء "لم نستطع الاقتراب من جثمان نداء المسجى على الأرض تغمره الدماء، الرصاص ينهمر كالمطر، ويصيب كل من يقترب من الجسد الصغير، وبصعوبة وصلت إلى المكان وأدخلنا الجثمان إلى داخل باب المنزل، ثم هربنا به عبر الأزقة الصغيرة والرصاص يلاحقنا إلى المستشفى، ولكن الصغيرة كانت تصارع أنفاسها الأخيرة".

صحافية وممرضة

اثر استشهاد نداء كثيرا لدى كل من عرفوها ومن بينهم الأسبانية التي تدير مكتبة البعثة البابوية في مدينة بيت لحم التي كانت نداء مشتركة فيها وتستعير الكتب منها وتشارك في أنشطتها.

وبعد استشهاد نداء بأشهر ذهبت إلى المكتبة، التي كنت زميلا لنداء فيها، كنت دائما أمازح الأسبانية المتطوعة لإدارة المكتبة التي يمولها الفاتيكان حول أصلها العربي الاندلسي، كانت دائما تقول لي بان اسم عائلتها ينتهي بكلمة "الله" وأحاول أن أتوقع ماذا سيكون اسم هذه الأسبانية الكاثوليكية المتشددة دينيا.

ثم تخبرني ان أصلها العربي لم يعد يعني لها شيئا، وان ما يهمها هو المسيح الذي قطعت من اجله كل هذه المسافة لتخدم في الأرض المقدسة.

في ذلك اليوم الذي زرت فيه المكتبة بعد اشهر من الإغلاق والحصار وحظر التجوال، كانت الأسبانية عابسة، تضع ملصقا كبيرا لنداء على مكتبها وتقول لي "هل عرفت ماذا فعلوا بطفلتنا؟" ثم تهز رأسها حزنا وغضبا.

وحدثتني عن مزايا نداء وعشقها للقراءة وجديتها وجرأتها وإصرارها على كتابة الشعر.

وبعد اشهر ذهبت في إجازة إلى غرناطة وعادت ولكن مع استمرار موت الأطفال المجاني، حملت نفسها وذهبت تبحث عن مكان أخر تخدم فيه المسيح "لا يقتل فيه الأطفال" كما قالت.

أما حنان احمد من المركز الثقافي للأطفال في بيت لحم الذي كانت تنشط فيه نداء فتقول مستذكرة تلك الطفلة المفعمة بالحياة "كانت فتاة جريئة واجتماعية وتشارك في جميع النشاطات".

وتضيف "من يراها كان يعتقد أنها ستعيش أبدا، كانت صاحبة أحلام كبيرة، كانت زهرة قطفها قناص غبي وجبان قبل الأوان".

وتقول أمها أن نداء أدلت يوما بحديث لصحافية مصرية زارت المخيم الذي كان يتعرض للاقتحام وتحدثت عن أحلامها في أن تصبح يوما صحافية أو ممرضة، وعندا سألتها الصحافية لماذا تحلم بان تصبح كذلك أجابتها: "صحافية لأكتب عن معاناة الناس، وممرضة لأداوي جروحهم".

أزمة القصيدة

وغابت نداء طويلا، حتى ظهرت مؤخرا في النرويج، تلك البلاد البعيدة، في قصيدة كتبتها الشاعرة النرويجية ليليان شميدت بعد أن شاهدت موتها الدموي على شاشات التلفزة.

وتم ادراج القصيدة في امتحانات نهاية العام الدراسي لتلاميذ الصف العاشر في النرويج، مما أثار حكومة إسرائيل، التي استدعت السفير النرويجي في تل أبيب يوم الاثنين 23 أيار (مايو) 2005، محتجا على حضور نداء في القصيدة.

وعلقت والدتها على ذلك "أنهم يريدون قتل طفلتي مرتين".

وطالبت السفارة الإسرائيلية في اوسلو بمنع القصيدة لأنها "منحازة"، وقوبل الطلب الإسرائيلي بالرفض من مديرية التعليم النرويجية التي أصدرت بيانا صحافيا قالت فيه أن القصيدة تسلط "الضوء على العنف غير المجدي الذي يذهب ضحيته أطفال أبرياء بصرف النظر عن الجهة التي تمارس العنف".

وقال مدير مديرية التعليم بتّر سكارهايم إلى الصحف المحلية "سآخذ وجهة النظر الإسرائيلية في الاعتبار لنناقشها علماً أن مواقفنا من القصيدة غير متطابقة مع الجانب الإسرائيلي".

وشرح سكارهايم، أن مديرية التعليم تختار دائماً نصوصاً مثيرة للجدل لدفع التلاميذ إلى مناقشتها والتفكير بها واستخلاص العبر منها "فهذا جزء من سياسة التعليم عندنا".

وحسب مقاطع من القصيدة نشرتها صحيفة الحياة اللندنية ضمن خبر بقلم مراسلها قاسم حمادي فان الشاعرة بدت وكأنها تعرف نداء منذ زمن طويل.

تقول القصيدة

"كان هناك شيء مميز في طريقة نومها.

الجانب الوديع النقي،

جمال الحاجبين المنمنم،

النمش المتناثر على أنفها،

البشرة النقية اليانعة التي لا يتمتع بها سوى الأطفال.

ذكرتني بطفلتي.

نداء ابنة الأربعة عشر ربيعاً،

ترعرت في مخيم للاجئين.

لف رأسها بالكوفية الفلسطينية المميزة.

نداء التي قنصها الجيش الإسرائيلي،

دفعتني في نهاية المطاف للوقوف أمام مشهد العنف.

دفعتني كي اخذ موقفاً.

ولكن هل ينفعها هذا الان؟"

وفي ترجمات أخرى نشرت للقصيدة قدمت الشاعرة وصفا دقيقا جدا لنداء، مما يشير إلى أنها ربما عرفتها مثل الإشارة إلى "الحواجب المستديرة" و"النمش فوق الأنف" وهو ما لم تظهره أشرطة التلفزة التي بثت حدث موتها.

عاشقة الأحلام

لم تجد والدة نداء كلمات كثيرة تقولها امتنانا للشاعرة النرويجية وقالت "يقلقني دائما أن ننسى الشهداء، وقبل يومين سيطر علي هاجس هل الذي يذهب ينتهي، لا احد يعد يتذكره، يتذكر كلامه ويومياته".

وأضافت بحسرة بان وسائل الأعلام الفلسطينية المحلية خصوصا محطات التلفزة التي كانت تستجيب لمطالب أهالي الشهداء وتبث صورا وتقارير عنهم في ذكرى استشهادهم أصبحت تمتنع عن ذلك بسبب أوامر عليا صدرت لهذه الوسائل كي لا تتهم بالتحريض.

وتقول والدة نداء "غير مفهوم لنا أن التذكير بطفلة قتلت يعتبر تحريضا".

ووجهت شكرا كبيرا إلى الشاعرة النرويجية وللموقف النرويجي الرسمي وقالت "لا اعرف ماذا أقول؟، كل كلمات الشكر في العالم لا تف هذه الانسانة الرائعة حقها، أمل أن يكون هناك تحركا عربيا وفلسطينيا داعما لها ولبلدها الرائع".

وودعت والدة نداء محملا بنماذج من خواطر طفلة صغيرة دبت يوما على هذه الأرض.

تتساءل نداء فيها:

"إلى متى سيبقى الظلم سائدا؟، إلى متى سيبقى العالم غائصا في سباته؟، هل سيجيب الحجر؟، أم سيبقى صامتا؟، ليت الحجر يتكلم؟، ليسمع العالم؟ أين العرب؟، أما زالوا نائمين؟".

وفي مقاطع وجدانية عديدة وصفت نداء نفسها بـ "عاشقة الأحلام" وفيها تبث شكواها "إلى سارق أحلامي، إلى حبيب القلم".

وتقول "بعد ان تركتني وحيدة في عالم مليء بالوحوش، لا اعرف ماذا افعل، لقد كنت أنت حلم حياتي، وما زلت ولكن أين ذهبت؟".

ولم تمض سوى أيام حتى ذهبت هي الأخرى، حتى عادت في قصيدة نرويجية.