الخياط الصغير الماكر

في صباح صيفي بهي ؛ كان خياط صغير يجلس على طاولته رائق البال يخيط الثياب بكل همة . ووصلت

إلى الشارع الذي يعمل فيه فلاحة ونادت : مربى طيب للبيع ! مربى طيب للبيع !

سمع الخياط الصغير نداءها مسرورا ، فأطل من النافذة وقال : تعالي يا سيدتي العزيزة ! ستتخلصين عندي من بضاعتك .

فبلغته المرأة في ثلاث خطوات واسعة حاملة سلتها الثقيلة ، فأفرغ الخياط السلة من كل أوعية المربى ، وتفحصها ، ورفعها في الهواء ودق عليها واشتمها ، وفي الختام قال : يبدو لي أن هذا المربى طيب . زني لي منه نصف أوقية يا سيدتي العزيزة ! ولا ضير في أن هذا سيقتضيني ربع جنيه .

فباعته المرأة ما طلب بعدما خالت أنها عثرت على زبون جيد ، وانصرفت تبربر ببعض الكلمات .

قال الخياط الصغير : والآن عسى الله أن يبارك هذا المربى وعساه ( المربى ) يهبني القوة .

وأحضر رغيفا من صوان السفرة اقتطع منه جزءا كبيرا غطاه بالمربى وقال : لن يكون هذا سيئا ،

ولكن قبل أن أشرع في أكله يتحتم إتمام حياكة هذه الصُدرة .

وحط قطعة الخبز جانبا وتابع الحياكة منتقلا من جزء إلى آخر مغتبط القلب . وفي الأثناء بلغت رائحة المربى

جدران الغرفة التي كانت مكسوة بأعداد كبيرة من الذباب علما بأنه انجذب إلى المربى وانتشر على قطعة الخبز .

فقال الخياط الصغير : يا هذا ! من دعاك ؟

وطارد ضيوفه الثقلاء ، ولكن الذباب الذي لا يفهم لغة الناس لم يخف من الخياط فزادت أعداده . ومثلما يقول

المثل بلغت رائحة الخردل أنف الخياط ، فأمسك خرقة قائلا : سأعطيك بنفسي نصيبا من المربى .

وضربه بالخرقة ضربة قوية . وحين سحب الخرقة وأحصى الضحايا ألفاها سبع ذبابات ماتت ميتة عنيفة فقال

معجبا ببسالته : أنت بطل شهير ويجب أن يعرف كل الناس هذا .

وأسرع بخياطة حزام لنفسه طرز عليه بحروف كبيرة الكلمات الآتية : " سبعة في ضربة واحدة " .

وحدث نفسه : مدينة لا تكفي . كل الناس يجب أن يعرفوا ما فعلته .

وخفق قلبه بهجة مثل ذنب خروف وأحاط جسمه بالحزام وتأهب للترحال في الدنيا وفي ذهنه أن مشغله

أصغر كثيرا من أن يستوعب بسالته ، وبحث قبل أن يفارق بيته عما يستطيع حمله منه فلم يجد سوى قطعة جبنة

أودعها جيبه . وشاهد في الغيضة الكائنة أمام بيته عصفورا مصابا بالحمى فألحقه بالجبنة وانصرف مستشعرا بسالته . ولما به من خفة ونشاط لم يشعر بالتعب في سيره . وهداه الطريق إلى  جبل حتى إذا صعد إلى قمته وجد فيه عملاقا يرقب المنظر تحته في سكينة فاقترب منه دون خوف وقال : طاب يومك يا رفيق ! إذن جالس هنا تمتع نفسك بمشاهدة الدنيا الواسعة ! هنا بالضبط سأبرهن صحة أدلتي فهلا جئت معي ؟

فتفحص العملاق الخياط مزدريا له وقال : كم أنت شخص وغد تعس !

فرد الخياط حالا معطفه ورافعا حزامه في وجه العملاق : ستصدق هذا : انظر هنا ترَ أي رجل أنا !

فقرأ العملاق : " سبعة في ضربة واحدة " ، فظن الأمر يتعلق بالرجال الذين قتلهم الخياط وبدأ يستشعر

بعض الاحترام له ، ولكنه أحب اختباره أولا فأخذ حجرا وضغطه في يده بقوة حتى انسال منه الماء وقال :

افعل صنوان  (مثل) هذا إن كنت قويا !

فسأل الخياط : هذا فقط ؟ لعبة أطفال .

ودس يده في جيبه وأخرج قطعة الجبنة وضغطها بقوة حتى سالت عصارتها وقال : أليس هذا أفضل ؟

تحير العملاق ما يقول إذ لم يصدق بعدُ هذا الإنسان الصغير فأخذ حجرا ورماه عاليا في الجو حتى توارى

عن الأنظار وقال : افعل الآن يا قزم صنوان هذا !

فقال الخياط : رمية بديعة غير أن الحجر وقع على الأرض . سأرمي لك شيئا لا يعود .

وأخذ العصفور من جيبه ورماه في الهواء فحلق صوب السماء سعيدا بحريته دون أن يعود

فسأل العملاق : ما قولك في هذا يا رفيق ؟

فقال العملاق : تعلم كيف ترمي ، ولكن سنرى الآن إن كنت قادرا على رفع ثقل عادي .

وقاد الخياط إلى سنديانة واقعة على الأرض وقال : إن كنت ذا قوة كافية قأعني على إخراج هذه الشجرة من الغابة !

أجاب الإنسان الصغير : حبا وكرامة . احمل الجذع على كتفك وسأحمل الأغصان . إنها الجزء الأثقل في الشجرة . فحمل العملاق الجذع على كتفه وجلس العملاق فوق غصن وبذا حمل العملاق كل الشجرة ومعها الخياط زيادة

على الصفقة الرابحة . كان الخياط جم الاغتباط رضي المزاج يدندن لحن الأغنية التي تقول : " كان ثلاثة خياطين يعلون متون جيادهم خارج المدينة " ، لكأن حمل تلك  الشجرة ما هو إلا لعبة أطفال . وبعد ما حمل العملاق الشجرة زمنا شعر بعجزه عن مواصلة حملها فصرخ : اسمع ! يجب أن أنزلها . 

فوثب الخياط من غصنه بسرعة وقال : كل هذه الضخامة وتعجز حتى عن حمل هذه الشجرة !

وواصل الاثنان سبيلهما على حالهما . وحين كانا يسيران تحت شجرة كرز ( قراصيا ) قبض العملاق

على ذؤابتها حيث تتدلى منها أنضج الثمار وحطها في يد الخياط داعيا إياه إلى أكلها ، ولكنه كان بالغ الإعياء فلم

يقوَ على الإمساك بها ، ولما أفلتها تدلت فأرسلها الصغير في الهواء لتسقط سليمة على الأرض . قال العملاق للخياط إن كنت شجاعا جدا فتعال معي إلى كهفنا لتبيت الليلة عندنا !

فوافق الخياط وذهب معه إلى الكهف . وحين وصلاه كان العمالقة الآخرون جُلُوسا حول النار وفي يد كل واحد شواء من لحم الوحوش يأخذ في امتضاغه . تلفت الخياط الصغير حوله وتفكر : هذا المكان أرحب من مشغلي .

وأشار العملاق إلى سرير وطلب منه النوم فيه إلا أن السرير كان أكبر من أن ينام فيه الخياط الصغير ، فلم يرقد فيه وإنما انطرح في ركن من الكهف . ولما انتصف الليل وحسب العملاق الخياطَ دخل النوم العميق تناول قضيبا

حديديا وحطم السرير في ضربة واحدة ظانا أنه أجهز على الخياط وسواه بالأرض . وفي الصباح قصد العمالقة

الغابة ونسوا الخياط تمام النسيان ، ولكن ها هو ذا يمضي كامل الفرح مفعما بالجسارة فذعر العمالقة وخافوا أن يقتلهم جميعا فهربوا من وجهه معجلين ، أما هو فمضى في سبيله على غير هدى ، وبعد قطعه مسافة واسعة وصل فناء قصر ملكي ولفرط إعيائه انطرح ونام . وأثناء وجوده في الفناء قدم الناس وقرؤوا العبارة : " سبعة في ضربة واحدة " فقالوا : عجيبة ! ماذا جاء يفعل بطل الحرب هذا في بلادنا المسالمة ؟ لا ريب في أنه سيد قوي .

وذهبوا وأخبروا الملك مقدرين أنه في حال اندلاع الحرب فسيكون لديهم رجل نافع ومهم فيها ، وعليه فما ينبغي

تركه يمضي عنهم ولو بأي ثمن . وسرت هذه المشورة الملك فأرسل أحد رجال البلاط إلى الخياط الصغير يعرض عليه متى صحا من نومته وظيفة حربية . ولبث الرسول منزرعا عند الخياط النائم حتى حرك أطرافه وفتح عينيه فعرض عليه الطلب  فقال : هذا بالضبط ما جاء بي إلى هنا . جاهز للدخول في خدمة الملك .

واستقبل بكل ألوان التكريم وجعلوا له مسكنا خاصا به غير أن رجال الحرب من حاشية الملك لم ينظروا إليه بعين رضية وتمنوا لو أن بينهم وبينه ألف فرسخ . قالوا فيما بينهم : ما انتفاعنا من هذا إن دخلنا معه في مشاحنة وضربنا ؟ سيسقط منا سبعة في كل ضربة . لن ينجو منا أحد .

واعتزموا الذهاب إلى الملك والطلب منه الاستغناء عن خدمات الخياط . قالوا : لا عمل لنا مع إنسان قتل سبعة في ضربة واحدة .

وأحزن الملك أن يخسر صفوة رجاله في سبيل فرد واحد ،وتمنى لو لم يره وأراد صادقا انصرافه ، لكنه لم يجرؤ

على صرفه ؛ لأن الخياط كان قادرا على قتله وقتل كل رجاله والحلول في مكانه على العرش . وطال تردده في

شأنه حتى واتته فكرة في النهاية . قال له إنه يحب أن يقترح عليه اقتراحا بصفته بطلَ حرب عظيما : في إحدى

غابات بلاده عملاقان يحدثان خرابا عظيما : يسلبان ويقتلان ويحرقان كل شيء ويسفكان الدماء . ولم يجرؤ أحد على الدنو منهما من غير تعريض حياته للخطر ، فإن غلبهما وقتلهما فسيزوجه ابنته وحيدة زمانها ويهبه نصف مملكته مهرا . وسيصحبه مائة فارس عونا له ومددا . فكر الخياط في الاقتراح محدثا نفسه : هذا يرضي شخصا مثلي . عروس حسناء ونصف مملكة . هذا لا يتوفر دائما . وكان جوابه : نعم سأقصد مكان العملاقين ، ولست في حاجة إلى مائة فارس . من قتل سبعة في ضربة واحدة فليس لديه ما يخشاه من اثنين فحسب .

واتخذ الخياط سبيله نحو الغابة وتبعه الفرسان المائة ، وحين بلغ طرفها قال لأصحابه الفرسان : امكثوا هنا !

سأقترب وحدي من العملاقين .

واندفع في الغابة يتلفت يمنة ويسرة فرآهما بعد لحظة . كانا نائمين أسفل شجرة يغطان غطيطا مسموعا يهز الأغصان ، فشرع نشيطا يملأ جيوبه بالحجارة ووثب على الشجرة حتى إذا تسلق نصفها استلقى بامتداد أحد الأغصان إلى أن صار فوق العملاقين النائمين تماما ، فألقى على صدر أحدهما حجرا تلو آخر . ومر  الوقت

دون أن يشعر العملاق بشيء غير أنه صحا أخيرا وهز صاحبه وقال : لم تضربني ؟

فأجابه الآخر : تحلم . أنا لا أضربك .

فعاد للنوم وعندئذ رمى الخياط حجرا على الآخر فصاح : ما هذا ؟ لم تضربني ؟

فأجابه الأول مزمجرا : أنا لا أضربك .

وتعاركا لحظة وما لبثا أن توقفا وعادا للنوم ؛ لأنهما كانا متعبين . واستأنف الخياط لعبته واختار حجرا كبيرا

رماه بقوة على صدر العملاق الأول فصاح : هذه ضربة قوية جدا .

ووثب كالمجنون ودفع صاحبه إلى جذع الشجرة بقوة عالية رجته رجا ، فأعطاه هذا نقوده ، وتملكهما الغضب الشديد فقطعا بعض الغصون للتضارب بها وفي النهاية وقع الاثنان ميتين ، فنزل الخياط مطمئنا وحدث نفسه :

من طيب الحظ أنهما لم يقطعا  الغصن الذي كنت أجثم عليه وإلا لاضطررت للقفز إلى شجرة أخرى مثل السنجاب ، ومن دواعي السعادة أنني رشيق خفيف .

واستل سيفه وضرب كل واحد منهما على صدره ضربة قوية ، ثم انضم إلى الفرسان وقال لهم : أنجزت المهمة .

كان الأمر شاقا . اضطرا لقطع الأغصان دفاعا عن أنفسهما ،بيد أن ذلك لم ينفعهما طالما كانت مشكلتهما مع شخص مثلي قتل سبعة في ضربة واحدة .

فسأله الفرسان : ألم تنجرح ؟

فأجابهم : لم يزيلوا ولو شعرة من رأسي .

ولم يشأ الفرسان تصديق كلامه ودخلوا الغابة فوجدوا العملاقين يسبحان في دمائهما وحولهما أغصان مقطوعة .

وكان أن طلب الخياط الصغير الثمن الذي وعده به الملك غير أن هذا تملص من دفعه وبحث في كيفية التخلص

من هذا البطل فقال له : يجب أن تنجز مأثرة أخرى قبل الحصول على ابنتي ونصف مملكتي . في الغابة وحيد قرن يوقع الكثير من الخراب . يجب أن تصيده .

رد الخياط الصغير : خوفي من وحيد القرن يقل عن خوفي من العملاقين . شعاري : " سبعة في ضربة واحدة " . وأخذ حبلا وفأسا ودخل الغابة ، وطلب مرارا من الذين كانوا تحت إمرته أن يمكثوا في  طرف الغابة . ولم يطل انتظاره فقد وصل وحيد القرن بعد وقت قليل وانقض فورا على الخياط كأنه يريد طعنه بقرنه فقال الخياط : بكل لطف ! بكل لطف ! لا داعي لكل هذه السرعة المفرطة .

وانتظر اقتراب الحيوان منه تماما وعندئذ قفز بغتة وراء شجرة فجرى وحيد القرن بكل سرعته نحوها وغرس قرنه في جذعها حتى غدا عاجزا عن نزعه . لقد أصيب . فقال الخياط : سآخذ العصفور الصغير .

وخرج من وراء الشجرة وأحاط عنق وحيد القرن بالحبل ونزع قرنه من جذع الشجرة بضربات الفأس . وبعدما

قام بكل ذلك أخذ الحيوان إلى الملك . ولم يشأ الملك مرة أخرى إعطاءه الثمن الموعود ووضع شرطا ثالثا على الخياط قبل الزواج : أن يأسر خنزيرا بريا أوقع خرابا جما في الغابة ، وسيساعده الصيادون في هذه المهمة .

فقال الخياط : حبا وكرامة . لعبة أطفال .

ولم يأخذ الصيادين معه فأرضاهم  منه هذا التصرف ذلك أن الخنزير لقيهم مرات كثيرة بطريقة تجعلهم لا يحسدون الخياط  أيما حسد على مجابهته وحده . وما أن رأى الخنزير الخياط حتى أقبل عليه والزبد في شدقيه

مهددا بالدفاع عن نفسه وأراد طرحه أرضا ، لكن البطل النشيط قفز إلى كنيسة صغيرة رآها قربه ، وبقفزة ثانية

سريعة خرج من نافذتها فتبعه الخنزير داخل الكنيسة ، وهنا صار الخياط خلفه وأوصد عليه الباب فأسر الحيوان

الغاضب وصعب موقفه جدا وضايقه ألا يستطيع الوثب من النافذة . ونادى الخياط الصادة فرأوا الأسير بأعينهم .

ومضى البطل إلى الملك الذي يتوجب عليه الآن الوفاء بوعده طوعا أو كرها . وكان أن زوجه بابنته ومنحه نصف المملكة . ولو درى الملك أن الذي أمامه لم يكن بطل حرب بل خياطا صغيرا ما فعل معه ما فعل . وامتد الزفاف في صخب عظيم ، لكن في بهجة قليلة ، وغدا الخياط مليكا . وبعد انقضاء وقت ما سمعت الملكة في ليلة

زوجها يقول حالما : يا غلام ! خِط لي سترة وأصلح بنطالي وإلا كسرت المقياس على رأسك !

فعرفت عندئذ في أي زقاق ولد الملك الشاب . وفي الصباح باحت بحزنها لأبيها وطلبت منه حمايتها من هذا الإنسان الذي لم يكن سوى خياط فواساها الملك وقال لها : اتركي الليلة القادمة حجرة نومه مفتوحة وسيدخلها

خدمي الذين سيتواجدون خارجها متى نام ، وسيقيدونه ويحملونه في سفينة تحمله إلى العالم الواسع .

وسر ذلك الابنة ، لكن أحد فرسان الملك الذي سمع كل شيء كان مخلصا للملك الشاب فذهب إليه وأخبره كل ما سمع ، فقال الخياط الصغير : سأقطع كل ما تحت أقدامهم من عشب .

وفي المساء نام مع زوجته في الوقت المعتاد ، ولما حسبته استغرق في نومه قامت وفتحت الباب ثم عادت للنوم ،

فصاح الخياط  _الذي تظاهر بالنوم _ بكل قوة : ياغلام ! خط لي صدرة وأصلح بنطالي وإلا كسرت المقياس على رأسك ! قتلت سبعة في ضربة واحدة وذبحت عملاقين وأسرت وحيد قرن وأخذت خنزيرا بريا ، ويتوجب علي الآن الخوف من الاثنين الماثلين خارج الحجرة ؟ 

ولما سمع هذان ما قال تملكهما هلع عظيم وفرا كأنما شاهدا شيطانا وبعدها ما عاد أحد يجرؤ على العبث مع الخياط . وكان أن لبث ملكا حتى آخر حياته .

* الأخوان يعقوب وويلهلم جرم .

* عن النص الفرنسي . 

وسوم: العدد 693