على رصيف في شارع عربي (2)

على رصيف في شارع عربي (2)

د. عامر أبو سلامة

-         وجهك اليوم مختلف، عن وجهك بالأمس، ما الذي جرى لك؟ أشعر بأنك لست طبيعياً أبداً، فهذا ليس وجهك المألوف، ولا سمتك المعلوم لدي.............أبداً....أبداً، أرى اليوم شخصاً كأني لا أعرفه من قبل، ولم ألقه...............هل تعاني من شيء؟ هل أصابتك وعكة؟

-         اتركني فأنت السبب.

-         أنا...........وهل فعلت لك شيئاً يضر؟ وهل أسأت لك يوماً؟ يا رجل.. حرام عليك، تجابهني بهذا الأسلوب غير اللائق، وأنت تعلم علم اليقين بأنك من أعز أصدقائي.

-         أنت من ورطني بقراءة( القوقعة).

-         تكلم من الصبح، وخلصنا، يا ابن الحلال.

-         وكأنك لم تفعل شيئاً!!!!.

-         أنا دللتك على مفاتيح الحقيقة، وأردتك أن تنظر إلى الواقع بعينين.

-         لكن لا أكتمك الخبر، كانت جرعة ثقيلة علي.

-         أنا أعرف أنك لا تقرأ الصفحة إلاً بعد عناء.

-         أما هذه المرة، فإني لأول مرة في حياتي أقرأ كتاباً من ألفه إلى يائه.

-         قرأت القوقعة كاملة!!!؟؟؟

-         نعم !!!! أكاد أن لا أصدق.

-         بل صدق يا صديقي العزيز، وثق بأخيك.

-         وكيف ذلك؟

-         من قدر الله أني اخترت هذا الكتاب من بين الكتب التي ذكرتها؛ والله وبدون تخطيط...............والحمد لله على كل حال، فما أن بدأت أقرأ ما فيه، حتى غبت عني بما أقرأ.

-          أسلوبه جميل ومشوق، ويمتلك صاحبه قلماً سيالاً.

-         يا رجل كأنني أمام فيلم ناجح, بكل المقاييس...... إخراجاً وسيناريو وحواراً، وشخوصاً ومشاهد وتصويراً.

-         على فكرة، المؤلف، مخرج سينمائي بالأصل، وكان في فرنسا.

-         ربما هذا هو السبب الأساسي، مع صدق العيش مع الحدث، ومحاولة تدوينه، وجعله رسالة لمن ألقى السمع، وهو شهيد، بصفة أمانة الشهادة.

-         إيش أكثر شيء أعجبك؟

-         بل قل إيش أكبر ما آلمك وأحزنك، وقطع نياط قلبك، وأطار النوم من عينيك.

-         ادخل في الموضوع.... ذبحتني بمقدماتك ( التراجيدية).

-                     وأنا أقرأ، كنت أقول في نفسي: هل أنا في علم، أم في حلم؟ هل هذا الذي أقرؤه حقيقة أم خيال؟ هل هي قصة واقعية؟ أم أنها من نسج  خلوة فيلسوف، تصور ذلك، على طريقة حيي بن يقظان، أو المدينة الفاضلة؟...........هل هؤلاء الذين يعذبون المواطنين، منهم؟ أم أنهم مستوردون؟ لماذا هذه القسوة، مع من يختلف معك في رأي؟ لم كل هذه المأساة؟

-         القصة حقيقية، وصاحبها معروف.

-         أعلم ذلك.......ولكن هذا من باب التساؤل الهادف؟

-         إنهم وحوش، بصورة بشر، ولا يمكن أن تجد مثلهم في كل العالم، حتى تستوردهم..........نظام بلدي يمكن أن يصدر الوحوش من أمثال هؤلاء، لكل من أراد فنون تعذيب البشر....لمن أراد إهانة وإذلال الإنسان.........لمن رغب في وسائل السحق البشري.....لمن بحث عن أدوات التنكيل بالإنسان، ومحوه من خريطة الحياة.....لمن يخطط لدمار الكفاءآت والمواهب............يا صاحبي نظام بلدي، لا يريد إلاّ من يصفق له، ولا يقدم إلا من قال: بالروح بالدم، نفديك يا وحش!!!.

-          أحزنني ذلك المشهد المرعب.....المؤلم .......الجارح......المؤسف........وأنا أقرأ ما يفعل بأبناء وطني.

-         إنهم من خيرة أبناء الشعب السوري، فيهم الطبيب.

-         رحم الله الدكتور زاهي عبادي، هكذا الرجال, ولا بلاش.

-         وفيهم المهندس، والتاجر، والطالب الجامعي، والصغار والكبار.

-         طيب هم أسرى، وفي قبضته، فلماذا هذا التعذيب، ليل نهار؟ لماذا هذا الألم المستمر؟

-         إنه الحقد......إنه نظام العصابة والمافيا..........إنه الانتقام من كل حر، هذه العصابة لا تقيم للقيم أي وزن، ولا تلتفت إلى أي معنى من معاني ما يعرف بحقوق الإنسان.

-         التي من أيسرها، أن تقدم الطعام اللائق لهذا الأسير.

-         لك يا أخي لا يريدون الطعام اللائق، بس اتركه وحاله، بدلاً من هذا التعذيب الوحشي الذي لا ينقطع، حتى يوم العيد.

-         يا حرام........يا حرام، والله شيء......حقيقة أمر مذهل، تصور معي هذه الإعدامات التي لم تتوقف!!!!!!!! بلا محاكمات, ولا يعلم عنهم أحد من البشر، حتى أهلهم، فضلاً أن يكون لهم محام..... وعلى أي شيء.....شباب مثل الورود، يقادون إلى المشانق.

-         ذنبهم، أن هذه العصابة  تريد محو شخصية السوري، المعروف بشهامته وغيرته وعفته وإبداعه..............يريدون جيلاً على طريقتهم، لذا كان حزباً واحداً، وإعلاماً واحداً، وطلائع وشبيبة، وطابور صباح، ومناهج تعليم........كلها بطريقة تخدم هذا الهدف.....وأخدمك بمعلومة، وهي أن هؤلاء الشباب الذين قتلوهم وشنقوهم- رحمهم الله رحمة واسعة- لم يبلغوا أهلهم إلى يومنا هذا، أنهم قضوا!!!!!!!!!!!؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

-         كلها مع التشدق بالحرية والديمقراطية والشعبية، هذا شيء ليس عادياً على الإطلاق، هذه لغة غابة.

-         لقد عرفت الحرية من خلال نموذج القوقعة، وأرجوك أن لا تظلم قانون الغابة، ولو حيوانات الغابة تعقل، لقدمت بحقك شكوى، لأنك ظلمتها.

-         أعوذ بالله، أعوذ بالله، أعوذ بالله.

-         ما الذي أضحكك فعلاً، وأنت تقرأ في القوقعة؟

-         لا يوجد مضحك، ولكن قل: المضحك المبكي.

-         هذا الذي عنيت.

-         أضحكني وأبكاني، أنه لما كان يقول للمحقق: يا سيدي، أنا لست من الإخوان، أنا مسيحي، فقال له المحقق الجاهل: مسيحي وكمان إخوان!!!!؟؟؟؟؟

-         لو أردت أن تستخلص خمس دروس وعبر، بعد هذه القراءة للكتاب، فما عساك أن تقول؟

-         الدرس الأول: مصيبة أن يحكم البلد سفاح ودكتاتور, لا يمت لقيم الوطن بصلة، على الإطلاق...........وثانياً: الطاغية لم يرحم أحداً ولم يسلم منه أحد، فهذا مسيحي، وفعل به ما فعل، وفي هذا دروس وعبر, لمن يعقل، ويقدر الأمور حق قدرها.

-         وليت أبناء المسيحيين، يلتفتوا لهذا المعنى، بشكل دقيق.

-         الثالث: عندما يتسلط على أجهزنا الأمنية والعسكرية، هؤلاء الوحوش الجهلة، فلا تتوقع منهم سوى الشر والسوء، بينما الأصل في هذا، أن يقوم على هذه المؤسسات الشرفاء الغيورون، الذين يعملون لصالح الوطن...............الرابع: لا يجوز السكوت على ظلم هؤلاء الظلمة، بل لابد من ثورة عليهم، حتى نغير المنكر...الخامس: وحدة أبناء الشعب، ضرورة ولازم، في مواجهة هذا الظلم.

-         لماذا هذا الدرس؟

-         حتى لا يلعب النظام العصابة، على وتر الفرقة، ويفيد من هذا في إذكاء العداوة بين أبناء الوطن، بينما هو يتفرج.

( يتبع)