هاشم بن عُتبة

د. عبد الله الطنطاوي

هاشم بن عُتبة

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

صوت أجش: هاشم بن عتبة، صاحب الإرادة القوية، والشخصية النافذة، والشجاعة النادرة، والعقيدة الراسخة، والتاريخ المكتوب بأحرف من نار ونور.

فوزي: مَن محدثنا اليوم؟ هاشم بن عتبة بن أبي وقاص؟

فوزية: أجل.. إنه البطل، وابن أخي القائد البطل، سعد بن أبي وقاص.

هاشم: مرحباً بكم يا أبنائي، أيها القابضون على الجمر، فيما الآخرون على سرر النعيم. طوبى لكم أيها الغرباء في أوطانكم، يا من تسبحون ضد التيار، تكتوون بنار أصحاب العار، في زمن علوّ الفُجّار.

فوزي: أهلاً بك يا جدي المجاهد الشهيد.. هل تقدّم نفسك للإخوة المستمعين؟

هاشم: أنا المجاهد في سبيل الله، أبو عمرو، هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، من بني زُهرة، من قريش. والقائد العظيم سعد بن أبي وقّاص عمي.

فوزية: متى أسلمت يا جدي المجاهد؟

هاشم: هذا ما أخجل منه.. فقد تأخر إسلامي إلى يوم فتح مكة، فأنا من الطلقاء الذين عفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزي: عندما خطب عليه الصلاة والسلام بقريش يوم الفتح وسألهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا:

أصوات: أخ كريم وابن أخ كريم.

هاشم: فقال لهم عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

فوزية: كانت قريش تعرف سماحة الرسول الكريم، وحبه لقومه.

هاشم: وكنّا نعرف صدقه وأمانته وشهامته وكرمه.. لقد تجمعت في النبي العظيم كل مكارم الأخلاق.

الجميع: عليه الصلاة والسلام.

هاشم: جزاه الله عنا كل خير، فقد آذيناه وآذينا أصحابه، وأخرجناهم من ديارهم، وصادرنا أموالهم وأملاكهم، وقاتلناه، بأبي هو وأمي، ثم جاء فاتحاً منتصراً، ولكنه كان متواضعاً مُخْبتاً، فخطبنا وعفا عنا، وأنقذنا مما كنا فيه من خرافة وعزلة وتخلّف، وفتح لنا أبواب السعادة على مصاريعها في الدنيا والآخرة على حد سواء.

فوزية: أسلمت، يا جدي، فنلتَ شرف الإسلام والصحبة، فهل نلت شرف الجهاد تحت راية الرسول القائد عليه السلام؟

هاشم: عليه أفضل الصلاة والسلام.. طبعاً قاتلت تحت لوائه المظفر في غزوة حنين، وأظنني أرضيت الله ورسوله في تلك المعركة، على الرغم من حداثة عهدي بالإسلام.

فوزي: نحن وسائر الإخوة المستمعين، متعطشون لحديث الجهاد، فالأعادي قد بَغوا علينا، فاحتلوا أرضنا، وانتهكوا حرماتنا ومقدساتنا، ولم يتركوا لنا ستراً إلا هتكوه.

فوزية: احتلوا فلسطين.. احتلوا القدس.. أحرقوا المسجد الأقصى.. قتلوا الشيوخ والنساء والأطفال.. أهانوا علماءنا، وأذلّوا رجالنا، وفعلوا بنا الأفاعيل.

هاشم: ليَهن كل شيء عليكم ما عدا الجهاد.. بالجهاد تستردّون كرامتكم وعزّكم وأرضكم.. فربّوا أولادكم على الجهاد.. علّموهم أحكامه وأساليبه.. درّبوهم.. اشرحوا لهم آيات القتال.. حفّظوهم إياها.. درّسوهم تاريخ أجدادكم، تفلحوا.. وليس لكم من طريق غيره.

فوزي: هذا ما عاهدنا الله عليه وعاهدنا فلسطين.. ثم ماذا يا سيدي؟

هاشم: قاتلت المرتدين.. كنتُ بإمرة سيف الله خالد بن الوليد، رضي الله عنه وأرضاه فلما قضى الخليفة أبو بكر على المرتدين، وجّه خالداً إلى العراق، ليتسلّم القيادة العامة هناك، لقتال الفرس ومن يتعاون معهم.. وكنت إلى جانب خالد في سائر المعارك التي أنشبها هناك.

فوزية: وعندما جاء أمر أبي بكر بانتقال خالد إلى الشام مع نصف جيش العراق، بقيت أنت في العراق، وصار خالد إلى الشام.

هاشم: لا يا بني.. لقد اختارني خالد فيمن اختاره، وانتقلت معه إلى الشام، وشاركت في سائر المعارك التي خاضها خالد وهو في طريقه إلى الشام.

فوزي: إذن شاركت في معركة اليرموك؟

هاشم: أجل يا بني.. وكنت بين الفدائيين المئة الذين اختارهم خالد من أبطال المهاجرين والأنصار وفرسانهم الأشاوس، للتأثير على معنويات الروم في بداية معركة اليرموك.

فوزية: وماذا فعلتم يا جدي؟

هاشم: فعلنا الأعاجيب.. وهذه وحدها تحتاج إلى جلسة كاملة.. تصوروا مئة فارس فدائي من المهاجرين والأنصار، يقودهم خالد بن الوليد، القائد العام لمعركة اليرموك.. تصوّروا طبيعة المهمات الصعبة التي كان يكلّفنا بها.. لقد أزعجنا الروم، تخطفنا بعض قادتهم، أسرنا بعض جنودهم.. أغرنا على مجنّباتهم.. أنهكناهم معنوياً.

فوزي: وفي معركة اليرموك يا سيدي الشهيد؟

هاشم: يالها من معركة برز فيها إيمان المؤمنين، وتجلّت شجاعتهم كأعظم ما يمكن للمرء أن يتصور الشجاعة، وجال فيها خالد ورجاله وصالوا، ولم يقصّر أيّ مجاهد في تلك المعركة الحاسمة التي فتحت لنا أبواب بلاد الشام على مصاريعها.

فوزية: أين كان مكانك في اليرموك يا جدي؟

هاشم: سلّمني خالد قيادة كردوس من مشاة المسلمين، ويشهد الله، أنني قاتلت أعداء الله وأعداء أنفسهم قتالاً يرضى عنه الله ورسوله وسائر المؤمنين.

فوزي: وفي هذه المعركة الهائلة فقدت إحدى عينيك.

هاشم: الحمد لله.. كان هذا إكراماً من الله لعبده الذي تأخر في نصرة دينه.. آه يا أولادي.. هذا الجرح لا يندمل.

فوزية: في سبيل الله كانت جراحك كلها يا جدي.

فوزي: وقد أثابك الله عليها.

هاشم: لا.. لا.. لم تفهما عليّ.. أعني جرح تأخري عن الإسلام.. صحيح أنني وأبناء عمومتي وعشيرتي من بني زُهرة لم نحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وسواها، كما لم نشتد في خصومتنا له، ولكنّ هذا كان موقفاً سلبياً أغضب الله ورسوله.. كان ينبغي أن نكون كعمي سعد، سبّاقين إلى الإسلام، لا متخلفين ومتأخرين.

فوزي: على أي حال، أسلمت يا سيدي وحسن إسلامك، وجاهدت في الله حق جهاده، فقدت عينك الغالية في اليرموك، وسال دمك في سبيل الله، ثم كنت الشهيد الذي يدافع عن الحق وعن وحدة الجماعة، فاطمئن يا سيدي، وما أظن رسول الله يعاتبك على ما كان منك في الجاهلية، لأن الإسلام، كما تعلم يا سيدي، يجبّ ما كان قبله

هاشم: الحمد لله الذي غفر لي ما تقدّم من ذنبي، ولكنني حزين، لأن هواتفي الروحية لم تسعفني مبكراً، وكان عقلي مظلماً، وكان قلبي مغلق الأبواب، فاستنمت إلى ما كان يقوله كبراء الجاهلية.

فوزية: وهل قعدتْ بك عينك دون متابعة الجهاد في سبيل الله؟

هاشم: معقول؟ ما قيمة العين والأنف والأذن وكل أطرافي وجوارحي، إذا قيست بالجهاد والقتال في سبيل الله؟ أبداً لن تكون هي وغيرها عائقاً يعوقني عن الجهاد.

فوزي: إذن.. بقيت تقاتل تحت راية خالد؟

هاشم: بل تحت راية الإسلام بقيادة سيف الله خالد في الشام، إلى أن جاءت أوامر أمير المؤمنين عمر، يأمر أبا عبيدة بن الجراح، بأن يعيد جند العراق إلى العراق.

فوزي: ومن هم جند العراق يا سيدي؟

هاشم: الجنود الذين جاء بهم خالد من العراق لحرب الروم في الشام.. وكانوا نصف جيش العراق.

فوزية: وعدت فيمن عاد إلى العراق لتكون بإمرة عمك سعد بن أبي وقاص.

هاشم: أجل.. وكنت قائد الجيش الذي يعدّ ستة آلاف رجل، وكان القعقاع بن عمرو على المقدمة، فأمرته بالإسراع إلى العراق لنجدة المسلمين في معركة القادسية.

فوزي: كم يوماً كان بين اليرموك والقادسية؟

هاشم: شهر.. شهر واحد.

فوزي: يعني، لم تستريحوا من اليرموك حتى زجّكم أمير المؤمنين عمر في معركة القادسية؟

هاشم: راحة المجاهد على صهوة جواده.. واستطاع القعقاع أن يصل برجاله في اليوم الثاني لمعركة القادسية، وكان المسلمون قد لقوا الألاقي في اليوم الأول من الفرس وأفيالهم.

فوزية: و.. حتماً كان للقعقاع البطل أثر كبير في سير المعركة؟

هاشم: وأيُّ أثر! كان تأثيره على المعركة كبيراً.. ارتفعت معنويات المسلمين إلى الجوزاء، وهبطت معنويات الفرس إلى الحضيض، وهم يرون الإمدادات تصل إلى المسلمين تباعاً، كما أوهمهم القعقاع من قبل، وكما أوهمتهم من بعد.. فرح بنا سعد، وكبّرنا فكبّر وكبّر معه المسلمون، ورددت جنبات القادسية هذا التكبير فزعزع صفوف الفرس، ورَجَّّ نفوسَهم.

فوزية: كيف فعلتم أنتم والقعقاع حتى أوقعتم الفرس بهذا الوهم؟

هاشم: ليس الروم وحدهم.. لقد أوهمنا المسلمين والفرس معاً، فارتفعت معنويات المسلمين، وهبطت معنويات الفرس.. لقد قسّمنا رجالنا إلى عدة مجموعات، وأمرنا أن يتلاحقوا دراكاً، فلا تسير مجموعة، حتى تغيب المجموعة التي قبلها عن نظرها..

فوزي وفوزية: رائع.. رائع..

هاشم: وسرت أنا على رأس المجموعة الأولى، حتى إذا خالطت القلب، كبّرت وكبّر المسلمون، واندفعت أرمي العدو بأسهمي حتى بلغت النهر، ثم عدت وكررت ما فعلت، فلم يجرؤ أحد على مبارزتي أو مصاولتي.

فوزي: وكذلك فعل القعقاع يا سيدي.

هاشم: صوت القعقاع بألف رجل كما قال الخليفة الصدّيق.. القعقاع هدَّ الفرس هدّاً.. يا له من بطل!!

فوزية: الحق.. كان لقدومك يا جدي في الوقت المناسب، تأثير حاسم في انتصار المسلمين على الفرس في القادسية، ولقد قمت أنت شخصياً بدور هائل ما قام به أحد غيرك، وكنت أنت يا جدي سبب الفتح على المسلمين.

هاشم: وما النصر إلا من عند الله يا أولادي، وما أديت إلا واجبي، ولا يستطيع أحد أن ينكر دور سعد والقعقاع وأخيه عاصم وغيرهم وغيرهم في تلك المعركة الحاسمة.. والذين استشهدوا والذين جاهدوا، وهم من غمار الناس، ولا يعرفهم منا أحد.. كان لأولئك الجنود المجهولين أدوار كبيرة في هذه المعركة الحاسمة، وفي غيرها من المعارك.. نحن لا نعرفهم، والتاريخ لا يذكرهم، ولكنّ الله يعرفهم، ويذكرهم في ملأ عنده، خير من الملأ الذي نحن فيه.

فوزي: هذا حق يا جدي، والحق الآخر، هو دور القادة الأبطال.. فلو لم ير الناس شجاعتكم وإقدامكن وتضحياتكم لأحجموا وما أقدموا، ولكنهم كانوا يرونكم أمامهم، فاقتدوا بكم، وساروا على نهجكم.

فوزية: ونحن نقول الآن لقادتانا وأئمتنا: إذا أردتَ أن تكون إمامي، فكن أمامي.. أما ما يفعله بعض القادة اليوم، يزجّون بجنودهم في قلب المعركة، وهم يختبئون في حصونهم ومخابئهم.. ما يفعله بعض قادة اليوم، هو سبب وجيه في تقهقر الجنود، وخسارة المعارك.

هاشم: نحن نقتدي بالرسول القائد صلى الله عليه وسلم.. انظروا من قدّم للمبارزة في غزوة بدر؟ عمّه حمزة، وابن عمه عليّ، وابن عمه عبيدة.. وفي كمعركة أحد قاتل بنفسه وبأقرب أقربائه، وشجّ رأسه الشريف، وكُسرت رباعيته، واستشهد عمه حمزة، كما استشهد ابن عمه جعفر فيما بعد في غزوة مؤتة.. هكذا كان يفعل الرسول القائد، وبه نقتدي، وعلى نهجه نسير.

فوزي: نعم يا سيدي.. نعود إلى سيرتك الجهادية.

هاشم: بعد معركة القادسية العظيمة، ومن أجل استثمار النصر الذي حققناه، عبّأ القائد سعد بن أبي وقاص جيشه بمقدّمات، قدّم البطل المغوار زُهرة بن الحويّة، وأتبعه بالمجاهد البطل عبد الله بن المعتم، وثلَّث بشرحبيل بن السمط، ثم جعلني سعد نائباً عنه، وبعث بي وراءهم، وجعل نائبه السابق البطل خالد بن عرفطة على الساقة، وسارت قوات المسلمين من نصر إلى نصر، حتى فتحنا (المدائن) عاصمة كسرى.

فوزي وفوزية: ما شاء الله.. ما شاء الله.

فوزي: هل من ذكرى مميزة لك يا جدي القائد الشهيد تحب أن تذكرها لنا؟

هاشم: ونحن في الطريق إلى المدائن، اقتحمنا عدة تشكيلات معادية، وقبيل وصولنا إلى المدائن، وجّه الفرس إلينا فرقة من الحامية الملكية، وكان مع تلك الحامية أسد هصور أطلقوه نحونا، فترجلت عن فرسي، واستقبلت الأسد بسيفي، وقتلته، وأنا أكبّر، والمسلمون يكبّرون.

فوزي وفوزية: الله أكبر.. الله أكبر..

فوزي: هل من مزيد يا سيدي القائد البطل؟

هاشم: لم نكد نستقر في المدائن، حتى جمع الفرس قواتهم، وعسكروا في (جلولاء) فكتب الخليفة عمر إلى القائد سعد، أن يرسلني لمهاجمة القوات الفارسية في جلولاء على رأس اثني عشر ألف مجاهد، وأن يجعل القعقاع على المقدمة، وأسرعت بقواتي نحو (جلولاء) وحاصرناهم في خنادقهم ثمانين يوماً، وكانت الإمدادات تصل إلينا وإلى الفرس تباعاً، وأخيراً خرج الفرس من خنادقهم إلى العراء، فقمت خطيباً في جيشي، وقلت لهم: أبلوا في الله بلاء حسناً، يتم عليكم الأجر والمغنم، واعملوا لله.

ثم اقتتلنا قتالاً شديداً كذلك الاقتتال في ليلة (الهرير) أشد أيام القادسية ولياليها.. هاجمنا الفرس هجومين شديدين، واستطاع القعقاع العظيم دخول خندقهم واحتلاله، وبذلك طوقناهم من جميع الجهات، وقتلنا من الفرس مئة ألف، ولم يفلت منا إلا القليل.

فوزي وفوزية: الله أكبر.. الله أكبر..

هاشم: ورحنا نطارد فلول الفرس، فأمرت القعقاع أن يقوم بالمطاردة، فدخل القعقاع خانقين وحلوان فاتحاً منتصراً.

فوزية: ياله من بطل، ويا لكم من رجال.

هاشم: واستأذن سعد أمير المؤمنين عمر، في التغلغل داخل بلاد فارس، ولكن عمر أبى عليه ذلك قائلاً: لَوددتُ أنّ بين السواد وبين الجبل سداً، لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم.

فوزي: وكان قرار أمير المؤمنين صحيحاً للغاية، وذلك لتوطيد الفتح في العراق، حتى يمكن أن يكون قاعدة أمينة متقدمة للمسلمين، يمكن الاستناد إليها في استئناف الفتح القريب.

الصوت الأجش: رحم الله هاشم بن عتبة البطل المِرقال، فقد كان مثالاً حياً للشجاعة النادرة، وكان كريماً شهماً، ووفياً صادقاً، وذكياً متزناً، وآلفاً مألوفاً، لم يُثْرِ على حساب الفتح، ومات فقيراً شهيداً.