عِيَاض بن غنْم

د. عبد الله الطنطاوي

عِيَاض بن غنْم

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

المؤثرات: موسيقى.

صوت أجش: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم. صدق رسول الله.

أصوات: صلى الله عليه وسلم.

مؤثرات: تغريد بلبل.

فوزي: عياض بن غنم صحابي كريم، وحاكم عادل، ومقاتل شجاع، وقائد حازم، يحرص على غرس روح الضبط والطاعة في نفوس رجاله، وجوادٌ معطاء، قلّ نظراؤه في الكرم بين العرب.

مؤثرات: موسيقى.

فوزية: من ضيفنا لهذا اليوم يا فوزي؟

فوزي: إنه واحد من شجعان الصحابة وغُزاتهم.. إنه الفارس المغوار، عياض بن غنم.

مؤثرات: ضربة موسيقية.

عياض: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشقيقان: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فوزي: أهلاً بالرجل السمح، أهلاً بزاد الراكب عياض بن غنم.

عياض: أهلاً بكم يا أحبائي وأحباء رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزية: هل تقدّم نفسك لحفدتك المستمعين يا جدي؟

عياض: أنا عياض بن غنم بن زهير الفِهريّ من قريش.

فوزية: متى أسلمتَ يا جدي؟

عياض: قبل عمرة الحديبية.

فوزية: وشهدتَ الحديبية مع الرسول القائد يا جدّي؟

عياض: نعم، وكان لي شرف الصحبة وشرف الجهاد تحت راية رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فوزية: لماذا كانوا يدعونك (زاد الراكب) يا جدّي؟

فوزي: أنا أجيبها يا جدي.. كان جدي القائد عياض يدعى زاد الراكب، لأنه كان كريماً جداً، وكان يطعم رفاقه كل ما يكون عنده، وإذا كان مسافراً آثرهم بزاده، فإذا نَفِد ما عنده من زاد، نحر لهم جَمَله.

فوزية: إذن أنتَ زاد الراكب والمقيم يا جدي.

فوزي: وكان جدّي القائد عياض سمحاً يعطي كل ما يملك، فكلّم بعض الرجال أمير المؤمنين عمر

الجميع: رضي الله عنه.

فوزي (متابعاً): وقالوا له: إن عياض بن غنم يبذّر المال يا أمير المؤمنين.

فقال لهم أمير المؤمنين عمر: إن سماحة عياض في ذات يده، يجود بحرِّ ماله، فإذا بلغ مالَ الله عز وجل، لم يعطِ منه شيئاً.

فوزية: ما شاء الله.. ولكن.. هل كان أمير المؤمنين يشير إلى حادثة بعينها يا جدي؟

عياض: أجل يا ابنتي.

فوزية: هل تذكرها لنا يا جدي؟.

عياض: لا بأس من ذكرها يا ابنتي، لأنّ فيها عِظة وعبرة..

فوزية: تفضل يا جدي.

مؤثرات: موسيقى مرافقة.

عياض: عندما كنت أميراً على الشام، قدمَ عليّ نفرٌ من أهل بيتي، جاؤوا يطلبون صلتي.

فوزي: يعني جاؤوا يطلبون المال من الأمير.

عياض (متابعاً): فلقيتهم بالبشر والترحيب، وأنزلتهم وأكرمتهم أياماً، ثم كلموني بالصلة، وأخبروني بما تجشّموه من وعثاء السفر إليّ، رجاء الصلة.

فوزية: فأعطيتهم كل ما عندك من مال يا جدي؟

عياض: لم يكن عندي من المال ما أقدمه لهم، بعتُ كل ما عندي، مما لا يستطيع المرء أن يستغني عنه، وأعطيتُ كل رجل عشرة دنانير.

فوزية: كم رجلاً كانوا يا جدي؟

عياض: كانوا خمسة.

فوزي: هل قبلوا بها يا جدي؟

عياض: بل ردّوها وتسخّطوا ونالوا مني.

فوزية: فماذا تصرّفت معهم يا جدي؟

عياض: قلت لهم: يا بني عمي.. والله ما أنكر قرابتكم، ولا حقكم، ولا بُعد شُقّتكم، ولكن والله ما حصلتُ على ما وصلتُكم به إلا ببيع خادمي، وببيع مالا غنى بي عنه، فاعذروني.

فوزي: هل رضوا بما سمعوا يا جدّي؟

عياض: بل قالوا:

فوزي: والله ما عَذَرَك الله، فإنك والي نصف الشام، وتعطي الرجل منا ما يمكن أن يبلغه إلى أهله؟

فوزية: لا حول ولا قوة إلا بالله.. فماذا قلتَ لهم يا جدي؟

عياض: قلت لهم: تأمرونني أن أسرق مال الله؟ فوالله لأن أشقَّ بالمنشار أحب إليّ من أن أخون فلساً أو أتعدى.

فوزي: هل رضوا بكلامك هذا يا جدي؟

عياض: قالوا:

فوزي: قد عذرناك في ذات يدك، فولِّنا أعمالاً من أعمالك، نؤدي ما يؤدي الناس إليك، ونصيب من المنفعة ما يصيبون، وأنت تعرف حالنا، وإنا لن نعدو ما جعلتَ لنا.

عياض: فقلت لهم: والله إني لأعرفكم بالفضل والخير، ولكن.. يبلغ عمرَ أني ولّيتُ نفراً من قومي فيلومني.

فوزية: لابد أنهم اقتنعوا بحجتك هذه يا جدي.

عياض: لا.. لم يقتنعوا.. بل قالوا:

فوزي: فقد ولاّك أبو عبيدة، وأنتَ منه في القرابة بحيث أنت، فأنفَذَ ذلك عمر، فلو وليتنا لأنفذَه عمر.

عياض: فقلت لهم: إني لستُ عند عمر كأبي عبيدة.

فوزية: فمضوا وهم لك لائمون.. أليس كذلك يا جدي؟

عياض: أجل يا ابنتي، مضوا وهم يلومونني لأنني لم أستعملهم على الناس.

فوزي: هل ولاّك أبو عبيدة على الشام يا جدي؟

عياض: أجل يا بني.. عندما حضرته الوفاة ولاّني على الشام من بعد وفاته، وعندما علم أمير المؤمنين عمر بذلك، أنفذ وصية أبي عبيدة، وأقرّني على الشام.

فوزية: وهل يستطيع أمير المؤمنين أن ينقض أمراً أبرمه أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجراح؟

فوزي: وهل كنتَ قريباً لأبي عبيدة يا جدي؟

عياض: أجل يا بني.. كنتُ ابن عمه.

فوزي: هذا لا يضيركَ يا جدي، بل هو شرف لك.

عياض: وهو كذلك يا بني، إنه لشرف لي ولغيري أن نكون من أقرباء أمين هذه الأمة، المبشّر بالجنة أبي عبيدة الذي كان يثق بي كما كان يثق بي أمير المؤمنين عمر ومن قبله خليفة رسول الله أبو بكر، وكذلك كان يثق بي سعد بن أبي وقاص.

الشقيقان: رضي الله عنهم جميعاً.

فوزي: هل تذكر لنا حادثة عن ثقة الخليفة أبي بكر بك يا جدي؟

عياض: بعد أن انتهى الخليفة من فتنة المرتدين، أرسلني على رأس جيش إلى العراق.. كنت بين (النِبَاج) والحجاز، فكتب إليّ الخليفة يقول: سر حتى تأتي (المُصيَّخ) فابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها، وعارقْ حتى تلقى خالداً.

فوزية: يعني خالد بن الوليد يا جدي؟

عياض: نعم.. فقد وجّه الخليفة خالد بن الوليد إلى العراق وكتب إليه بعد معركة اليمامة، والقضاء على مسيلمة الكذاب: إن الله فتح عليك، فعارقْ حتى تلقى عياضاً.

فوزي: أي أنّ أبا بكر كتب إلى خالد بن الوليد إذ أمّره على حرب العراق، أن يدخلها من أسفلها، وكتب إلى عياض إذ أمّره على حرب العراق أيضاً، أن يدخلها من أعلاها، ثم أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبقَ إليها، فهو أمير على صاحبه.

فوزي: يعني.. جعلك الخليفة صِنوَ خالد يا جدي؟

عياض: ولكنْ.. أين أنا وأين غيري من سيف الله خالد..

فوزية: ومن سبق منكما الآخر إلى الحيرة يا جدي؟

عياض: وهل هذا سؤال يا ابنتي؟ من يستطيع اللحاق بسيف الله خالد؟ فقد أنجز خالد مهمته في مثل لمح البصر، بينما كنتُ ما أزال أحاصر مدينة (دومة الجندل).

فوزي: كم طال حصارك لها يا جدي؟

عياض: سبعة أشهر.. ولم ينقذ الموقف إلا خالد.

فوزية: كيف كان ذلك يا جدي؟

عياض: أشار عليّ بعض رجالي أن أستنجد بخالد، فاستنجدت به، فجاءني مسرعاً، وحاصرنا دومة الجندل التي استسلمت عندما علم قادتها بمجيء خالد.

الشقيقان: رضي الله عن خالد.

فوزي: وهل قاتلت تحت لواء خالد يا جدي؟

عياض: أجل يا بني، وأفدت منه كما أفاد منه غيري.. لقد كان خالد رجلاً عزَّ مثيله بين الرجال.

فوزي: رضي الله عن الفاروق إذ قال: عجزت النساء أن يلدنَ مثل خالد.

عياض: لقد صدق أمير المؤمنين عمر، فقد كان يعرف الرجال.

فوزي: ثم ماذا عن سيرتك الجهادية يا جدي القائد؟

عياض: أحبّ أن أذكر لكم هنا، أنني طلبتُ المدد من الخليفة أبي بكر، فتصوّر بماذا أمدّني؟

فوزية: بماذا أمدّك يا جدي؟

عياض: لقد أمدّني برجل واحد.

فوزية: القعقاع يا جدي؟

عياض: لا.. لقد أمدَّ خالداً بالقعقاع عندما طلب المدد منه، أما أنا فأمدّني بالبطل المغوار: عبد بن غوث الحميري.

فوزي: تستمدّ الخليفة، وأنت تشكو من قلة في الرجال، فيمدّك بشخص واحد، ويمدّ خالد بن الوليد برجل واحد أيضاً؟

عياض: ولكنّ القعقاع وعبد بن غوث ليسا كسائر الرجال.. إنهما من أبطال العرب المعدودين.

فوزية: صوت القعقاع في الجيش بألف مقاتل.. ألم يقل الخليفة هذا؟

عياض: وقد صدق.. يا ليت نساء المسلمين يلدن أمثال خالد والقعقاع.. وقد كتب إلينا الخليفة:

"استنفرا مَن قاتل أهل الردّة ومن ثَبتَ على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغزونَّ معكم أحد ارتدّ حتى أرى رأيي.

فوزي: يعني.. لم يسمح الخليفة لواحدٍ ممن سبق له أن ارتدّ عن اٌلإسلام بالقتال معكم؟

عياض: مع أننا كنا في أمسّ الحاجة إلى هؤلاء الرجال الذين عادوا إلى الإسلام وحسن إسلامهم.

فوزية: والله هذا درس قاس للمذبذبين والإمّعات يا جدّي.

فوزي: وهل استمر هذا القرار طويلاً يا جدي؟

عياض: طوال فترة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

فوزية: ثم أبطله أمير المؤمنين عمر يا جدي.

عياض: أجل.. سمح عمر لأولئك بالقتال إلى جانب إخوانهم المجاهدين.

فوزي: ثم ماذا يا جدي؟

عياض: بعد أن فتحنا دومة الجندل، عدنا إلى الحيرة، فاستخلفني عليها خالد، وخرج هو برجاله إلى قتال عدوّه في (المصيّخ).

فوزي: ولماذا فعل سيف الله خالد هكذا يا جدي؟

عياض: لأن الحيرة صارت القاعدة المتقدمة لجيوش المسلمين، وحمايتها ضروريّة من أجل أمن قواتنا المقاتلة في ساحات الوغى.

فوزي: ثم ماذا يا جدي؟ هل بقيتم في العراق طويلاً؟

عياض: لا.. فقد جاءت أوامر الخليفة إلى خالد أن ينتقل إلى الشام ويأخذ معه نصف الجيش، وكنتُ فيمن سار إلى الشام مع خالد.

فوزية: إذن قاتلت تحت لواء خالد؟

عياض: وأنا جدُّ سعيد بالقتال تحت رايته في كثير من المعارك التي خاضها خالد ونحن في طريقنا إلى الشام، لنجدة جيوش المسلمين في اليرموك.

فوزي: إذن شاركتَ في معركة اليرموك يا جدي؟

عياض: ويا لها من مشاركة.. ويا لها من معركة هائلة، برزت فيها عبقرية سيف الله خالد كما لم تبرز في يوم من الأيام، وبرز فيها إيمان المجاهدين الذين كانوا يشدّون خلف قائدهم خالد، وصوت القعقاع يرعد:

فوزي: يا خيلَ الله اركبي.

فوزية: وأين كان موقعك في اليرموك يا جدي؟

عياض: كنتُ قائداً لأحد كراديس الميسرة.

فوزي: وهل شاركت في فتح دمشق يا جدي؟

عياض: وكنت على رأس الخيّالة.. على رأس الفرسان.

فوزية: ثم ماذا يا جدي؟

عياض: وبعد أن انتقلت القيادة العامة من سيف الله خالد، إلى القائد العظيم أبي عبيدة بن الجراح، صرتُ من رجال أبي عبيدة، وشهدت معه كل معركة في أرض الشام.

فوزي: مثل ماذا يا جدي؟

عياض: كنت معه في فتح مدينة حلب.. كنت على المقدمة، وأنا أبرمتُ الصلح مع أهل حلب، فأنفذه وأقرّه أبو عبيدة.

فوزية: ثم ماذا يا جدي؟

عياض: ثم عدتُ إلى العراق، وكنت على رأس الخيالة عندما تقدمت جيوش المسلمين لفتح مدائن كسرى.

فوزية: إذن شهدتَ فتح المدائن يا جدي؟

عياض: كما شهدتُ فتح جلولاء أيضاً.

فوزية: وبعدها يا جدي؟

عياض: بعدها جاءت أوامر أمير المؤمنين عمر إلى القائد العام في العراق، سعد بن أبي وقاص، يأمره بأن يوجّه قسماً من الجيش لنجدة أبي عبيدة في الشام.. كان أبو عبيدة في مدينة حمص، عندما قصده الروم.. وقد ولاّني أمير المؤمنين أمر المقاتلين والقتال في بلاد الشام، من أجل نجدة أبي عبيدة.

فوزي: هل تحركتم إلى حمص يا جدي؟

عياض: كنا مجموعة من الأمراء، وضع عمر كل أمير على رأس جيش صغير، وقد انضم إليّ أميران منهم، فتوجهنا إلى حرّان والرّها ففتحناهما، ثم فتحت الجزيرة كلها.

فوزية: ومنذئذ، دخلت الجزيرة في الإسلام وإلى الأبد إن شاء الله.

عياض: ثم كتب أبو عبيدة إلى عمر، يسأله أن يضمّني إليه، فوافق عمر، وأمرني بالالتحاق به، فتوجهت إلى أبي عبيدة، ودخلتُ الدرب.

فوزية: ما معنى الدرب يا جدي؟

عياض: الدرب: هو الطريق ما بين طرسوس وبلاد الروم، ولأنه ضيّق سُمي بالدرب، وكنتُ أول من دخله من المسلمين. وفتحت (بَدْليس) و(خِلاط) و(العين الحامضة) في أرمينية، ثم عدت إلى الرقة ومضيت إلى حمص.

فوزي: وكان عياض بسلوكه الجهادي هذا، قد مهّد الطريق للفتح الإسلامي في أرمينية.

فوزي: نحب أن نسمع منك يا جدي قصة خلافك مع هشام بن حكيم.

عياض: حين فتحتُ (دارا) الواقعة بين نصيبين وماردين، جلدت صاحبها لأنه أساء كثيراً، فأغلظ ليس هشام بن حكيم القول أمام الناس وقال:

فوزي: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ من أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة، أشدهم للناس عذاباً في الدنيا؟

عياض: فقلت له: قد سمعنا ما سمعت، ورأينا ما رأيت.. أوَلم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أراد أن ينصح لذي سلطانِ عامة، فلا يُبدِ له علانية، ولكن ليَخلُ به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه؟

ثم قلت له: وإنك يا هشام، لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فهلاّ خشيت أن يقتلك سلطان الله، فتكون قتيل سلطان الله؟

فوزية: الحق يا جدي أن موقف هشام بن حكيم منك رائع، فهو يذكرك بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تأثم بتعذيب إنسان ما، وإن كان عدواً لك.

فوزي: ونصيحتك لهشام يا جدي، فيها تحديد لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وفيها تحذير لأخيك هشام أن يجترئ عليه سلطان ما فيقتله.

فوزي: رحم الله عياض بن غنم، فاتح الجزيرة، والقائد الشجاع الذي جعل رايات الإسلام ترفرف فوق الربوع التي فتنحها بحنكته وشجاعته وقوة إيمانه.

مؤثرات: موسيقى الختام.