خالد بن الوليد

عبد الله الطنطاوي

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

صوت فوزي: لقد عجزت النساء أن يلدن مثل خالد.

فوزي: ترى.. من ضيفنا لهذا اليوم؟ من؟ خالد؟

فوزية: أجل.. إنه خالد بن الوليد، القائد الذي لم ينهزم في معركة قط.

فوزي: السلام عليكم ورحمة الله، أيها القائد المنتصر.

خالد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فوزي: أهلاً بك يا سيدي القائد في بلاد الشام.. بلادك.

فوزية: البلاد التي أنقذتها من طواغيت الروم، لتعيش في أحضان العروبة والإسلام إلى أبد الآبدين.

فوزية: ولكنها الآن حزينة يا سيدي القائد، بعد أن عدا عليها العادون، من بني الأصفر وبني صهيون.

فوزية: إنها تنتظر القائد الذي له عزماتك، لينقذها مما هي فيه من بلاء.

خالد: وهل سكتّم؟

فوزي: الشكوى إلى الله يا سيدي، مما نلقى من تآمر المتآمرين عليها.

خالد: العدو عدو يا أبنائي، مهما لبس من لبوس، فلا يغرنكم المظهر، وفتشوا عن المخبر، وعدو جدك لا يودّك.

فوزية: قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر.

خالد: نازلوهم.. لا تسكتوا عن حق، ولا تستنيموا على ضيم.

فوزي: المؤامرة أكبر منا يا سيدي.

خالد (بعنف): اخرس، قطع الله لسانك.. كلامك هذا أول الوهن.

فوزية: ولهذا استضفناك يا سيدي القائد، لنستلهم منك الدروس والعبر، ونحن نخوض معركة ليس لها سواك يا أبا سليمان.

فوزي: فهل نبدأ حوارنا بالتعرف إلى شخصك الكريم يا سيدي القائد؟

خالد: كما تحبون.. اسمي خالد بن الوليد، وكنيتي أبو سليمان، وأنتسب إلى قريش، وُلدتُ في مكة، وفيها نشأت وترعرعت بين بني مخزوم، وبنو مخزوم الذين أنتسب إليهم، بطن من عشرة أبطن من قريش، انتهى إليها الشرف في الجاهلية التي لا أريد أن آتي لها على ذكر.

فوزي: ومتى كانت ولادتك يا سيدي؟ وكيف كانت طفولتك وشبابك؟

خالد: ولدت في مكة قبل الهجرة بخمس وعشرين سنة، لأب غني، وكانت هوايتي في التدرب على الفروسية وما يتبعها من تعلّم على السلاح، ثم في تدريب الرجال، وقيادتهم في الحروب.

فوزية: ومتى أسلمت يا سيدي؟ وكيف؟

خالد: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة يؤدي عمرة القضاء، سأل أخي الوليد بن الوليد الذي كان أسلم منذ زمن: أين خالد؟ ثم قال عليه السلام: ما مثل خالد من جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجدّه مع المسلمين على المشركين، لكان خيراً له، ولقدّمناه على غيره. فكتب إليّ أخي الوليد بذلك، فكانت رسالته حافزاً لي، وسبباً مباشراً في هجرتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، وإعلان إسلامي.

فوزي: وهل هاجرت وحدك يا سيدي؟

خالد: بل صحبني عثمان بن طلحة، وفي الطريق إلى المدينة، التقينا عمرو بن العاص، فهاجرنا جميعاً، وقدمنا المدينة على رسول الله أول يوم من صفر، سنة ثمان للهجرة.

فوزية: حتماً فرح الرسول بإسلامك.

خالد: لمّا طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلّمت عليه بالنبوّة، فرد عليّ السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، فقال رسول الله: "قد كنت أرى لك عقلاً، رجوت ألاّ يسلمك إلا إلى خير" وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: يا رسول الله استغفر لي كل ما أوضعتُ فيه من صدٍّ عن سبيل الله. فقال لي عليه الصلاة السلام: إن الإسلام يجبُّ ما كان قبله، ثم قال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كلَّ ما أوضع فيه من صدٍّ عن سبيلك.

فوزي: هنيئاً لك يا سيدي خالد.

خالد: فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أسلمتُ، يعدل بي أحداً من أصحابه فيما يُجزئه.

فوزية: وتذكر لنا كتب السير، أن النبي الكريم عندما رآك وصاحبيك قال لأصحابه: ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها، لأنكم يا سيدي، كنتم وجوه الناس من أهل مكة.

فوزي: ثم ماذا يا سيدي القائد؟

خالد: ثم أقطعني رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع داري، فكنت إلى جانبه في المدينة المنورة، وكنت موضع ثقته، وجعلني من كتّابه.

فوزي: لأن الرسول القائد، رأى في إسلامك كسباً عظيماً للمسلمين.

فوزية: ألا تحدثنا عن بعض المعارك التي خضتها يا سيدي خالد؟

خالد: عن بعضها، أو عن بعض بعضها، وإلا، فقد شاركت، خلال الاثنتي عشرة سنة التي قضيتها في الإسلام، في إحدى وأربعين معركة، في اليمن والحجاز ونجد والعراق، وأرض الشام.

فوزي: كما تحب يا سيدي القائد.

خالد: أول معركة شاركت فيها بعد إسلامي، هي معركة مؤتة.. كنا ثلاثة آلاف مقاتل، وكان عدونا الرومي، مع من لحق به من مشركي العرب، مئتي ألف مقاتل، المعركة غير متكافئة، فالعدو أضخم منا أضعافاً مضاعفة، ومع ذلك، قاتل المسلمون، وكنت جندياً أقاتل معهم، فاستشهد قائد المسلمين، زيد بن حارثة، فأخذ الراية والقيادة جعفر بن أبي طالب، فقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، فاستلم الراية والقيادة شاعر الرسول عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قُتل شهيداً رحمه الله، ثم اختارني المسلمون قائداً لهم، فقاتلنا قتالاً شديداً، فلما أظلم الليل، غيّرت نظام الجيش، فجعلت مقدمته ساقة، وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، ثم نشرت الساقة لتحتل مساحة شاسعة من الأرض، وأمرتهم أن يحدثوا أصواتاً مرتفعة بما لجيهم من أبواق وطبول وأدوات حربية، وأمرتهم بإثارة الغبار بالخيل التي جعلتها تدور بسرعة في دوائر ضيّقة، وأمرت الجيش بالانسحاب.

فوزي: فعلت كل هذا تمويهاً على العدو، حتى لا يشعر بانسحاب القسم الأكبر من الجيش.

خالد: ولأجعل الروم يعتقدون أن إمدادات قوية جاءت للمسلمين، ولهذا لم يقدم على مطاردة المسلمين.

فوزية: وبهذا نجوت بجيشك من الهزيمة.

خالد: أو من السحق.. لقد كنت على رأس الساقة، وقاتلنا قتالاً بطولياً لكي أستطيع التخلص من الاشتباك.

فوزي: وقد اندقّت في يدك يوم مؤتة، تسعة أسياف، ما ثبت في يدك منها سوى سيف يماني.

فوزية: وذهبت إلى (مؤتة) جندياً، وعدت قائداً.

فوزي: وأطلق المسلمون عليك لقب: سيف الله.

خالد: وفي غزوة فتح مكة، جعلني رسول الله على ميمنة جيشه، وتعرّض لي المشركون، فقاتلتهم، وقتلت منهم ثمانية وعشرين مشركاً، ثم انهزموا بينما استشهد من المسلمين رجلان.

فوزي: ثم؟

خالد: ثم أرسلني النبي الكريم لهدم العزّى، فهدمتها وأنا أرتجز:

يا عُزَّ كفرانك لا سبحانك     إني رأيت الله قد أهانك

فوزية: هذا دليل على ثقة الرسول القائد بك.. ثم ماذا يا سيدي؟

خالد: وفي غزوة حنين، جعلني الرسول القائد على مقدمة جيش المسلمين، ومعي مئة فارس، وقاتلت مع الرسول قتالاً شديداً حتى هزمنا ثقيفاً، وجرحتُ وعادني الرسول القائد صلى الله عليه وسلم.

فوزي: بارك الله فيكم يا سيدي.. نرغب في المزيد.

خالد: وأرسلني النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة لأدعوهم إلى الإسلام، كما أرسلني في مهمة إلى بني المصطلق، وإلى دومة الجندل لهدم الصنم (وَدّ) فذهبت على رأس أربع مئة وعشرين فارساً، فهدمته، ثم فتحت دومة الجندل، كما بعثني رسول الله إلى نجران في أربع مئة من المسلمين، ودعوتهم إلى الله فاستجابوا، وأرسلني النبي الكريم إلى اليمن، فدعوت الناس إلى الإسلام، ثم بعث بعدي عليّ بن أبي طالب ليقبض الخمس.

فوزية: الله أكبر.. كل هذا خلال السنوات الأربع التي قضيتها إلى جانب رسول الله؟

خالد: خلال مدة لا تتجاوز أربع سنين، قاتلت شمالاً على حدود الشام، وجنوباً في اليمن، وشهدت أحد عشر مشهداً، قاتلت في ثلاثة منها تحت لواء الرسول القائد، وقاتلت في ثلاثة منها قائداً مستقلاً، ولم أقاتل في خمسة مشاهد منها، بل أنجزت واجبي سلماً.

فوزي: ومن أين جئت بالوقت الكافي لإنجاز كل هذه الأعمال؟

خالد: أنا أقول لك.. إن الله سبحانه قد بارك في الوقت لسيف يقاتل في سبيله، كما منح القائد خالد بن الوليد كفاءة نادرة، قلّما نرى لها مثيلاً في التاريخ القديم والحديث.

فوزي: هذا وذاك مع الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، فماذا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى؟

خالد: عندما توفي رسول الله، ارتدت العرب، وظهر النفاق، واشرأبّ اليهود، وصار المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة، لفقد نبيّهم العظيم، ولقلة عددهم، ولكثرة أعدائهم.

فوزي: وأصرّ الخليفة أبو بكر على قتال المرتدين.

خالد: وانتدبني لقتالهم، فقاتلت طليحة بن خويلد الأسدي قتالاً شديداً وهزمته، وقاتلت المرتدين مع مالك بن نويرة وسجاح وهزمتهم، وقاتلت مسيلمة الكذاب ومن معه، وهزمناهم شرّ هزيمة، كان مع مسيلمة قريب من مئة ألف مقاتل، وكنا ثلاثة عشر ألفاً، وأمكننا الله من رقاب واحد وعشرين ألفاً منهم، وقتلنا مسيلمة في حديقة الموتـ واستشهد منا ألف ومئتا مقاتل، منهم خمس مئة من القرّاء.

فوزية: خمس مئة من القراء؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

فوزي: أي أن نسبة القتلى من المسلمين تعادل ستة في المئة من قتلى المرتدين.

خالد: احسبها كما تشاء.. المهم.. قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار.

فوزية: أخشى أن نكون أطلنا عليك يا سيدي، مع أنك لم تحدثنا بعد، عن المعارك الفاصلة الأخرى التي أزالت دولة الفرس، وطردت الروم من بلاد الشام.

خالد: أنا مستعد لأحدثكم ساعات طوالاً عن المعارك الهائلة التي خضناها في العراق، فقد انتدبني الخليفة أبو بكر إلى العراق، وأوكل إليّ القيادة العامة فيه، سرت في ألفي رجل، وانضمّت إليّ قوات أخرى في الطريق، إلى جانب قوات القائد الفذّ: المثنى بن حارثة الشيباني، حتى تجمع لديّ ثمانية عشر ألفاً، قاتلت بهم، وحققت انتصارات كبيرة على جيوش كسرى، وفتحت العديد من حصونه، وقتلت عدداً من قادته.

فوزي: مثل مَن من قادة كسرى قتلت يا سيدي؟

خالد: التقيت قوات هرمز في (كاظمة) فخرج هرمز ودعاني للمبارزة، فخرجت إليه، واختلفنا ضربتين، فاحتضنته، ولكن حامية هرمز حملت غدراً عليّ، لأن هرمز كان قد بيّت الخيانة، ولكنني لم أعبأ بالحامية، وتدارك القعقاع الموقف، وقتلت هرمز، فانهزم الفرس، فطاردهم المسلمون إلى الليل.

وفي (المذار) التقيت (قارن) ومعه جيش كبير، وانضمت إليه فلول جيش هرمز، ودعاني قارن إلى المبارزة، فخرجت إليه، ولكن سبقني البطل مَعقل بن الأعشى النباش، فقتله، وقتلنا من الفرس مالا يقل عن ثلاثين ألفاً، سوى من غرق منهم، ولولا المياه، ما أفلت من الموت منهم أحد.

فوزية: أرى أننا أتعبناك يا سيدي، ولهذا نرجو أن تعطينا خلاصة للمعارك التي خضتها بعد إسلامك، على أن تعدنا بجلسة أخرى، تحدثنا فيها عن معاركك في العراق وفي الشام، لأننا، في هذه الأيام، في مسيس الحاجة إلى حديث المجاهدين الأبطال من أمثالك، هذا إذا كان لك مثيل بين القادة.

فوزي: هيهات هيهات أن تلد النساء قائداً كخالد.

خالد: أستغفر الله يا أبنائي.. ثم إني لم أتعب، وأظن أن التعب قد ظهر عليكم.. شهدت في عهد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة معركة، وشهدت في حروب الردة ثلاث معارك، هي أهم وأخطر وأكبر معارك أهل الردّة، وقاتلت الفرس وحلفاءهم في خمس عشرة معركة، وخضت، وأنا في طريقي من العراق إلى أرض الشام، غمار أربع معارك، وقدت سبع معارك في فتوح الشام.

فوزية: وكانت نتائج تلك المعارك باهرة جداً في تاريخ العروبة والإسلام.

فوزي: بارك الله فيك أيها القائد العظيم، خالد بن الوليد، ورضي الله عنك وأرضاك، فقد علمنا من سيرتك العطرة أنك عندما مت على فراشك هتفت بسائر العرب والمسلمين عبر القرون:

خالد: شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء.

فوزية: وكان باستطاعتك أن تجمع الأموال الطائلة من فتوحاتك الكثيرة، ولكنك أنفقتها كلها، فمتّ فقيراً، لم تخلّف إلا فرسك وسلاحك وغلامك، وقد حبست فرسك وسلاحك في سبيل الله، وأعتقت غلامك، فلم تترك شيئاً لأهلك.

فوزي: ولذلك قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما أدركته الوفاة:

لو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من ولّيت على أمة محمد؟ قلت: أي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: خالد سيف من سيوف الله، سلّه الله على المشركين.

فوليتُه على المسلمين.