في جحيم القنال

في جحيم القنال

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر: مكتب الميجر ج.م قائد معسكرات التل الكبير: باب عن اليمين يؤدي إلى داخل المبنى وآخر عن اليسار يؤدي إلى الخارج.

الميجر: (وحده يتمتم) جاء الليل وجاء معه الهم والويل، آه ما ذقت النوم البارحة ولا الليلة التي قبلها! وزوجتي.. وحدها الآن في البيت، ترى ماذا تصنع الآن، لعلها ترتجف خوفاً على نفسها وعلي، لعنة الله على تشرشل وعلى سياسة تشرشل! هلا سحبنا من هذه البلاد فأراحنا وأراح المصريين! (ينادي) جوني! جوني!

جوني: (يدخل من الباب الأيسر) نعم يا ميجر أتريد شيئاً؟

الميجر: لا.. أردت أن أتأكد من أنك صاح غير نائم.

جوني: نائم؟ من أين لنا النوم؟ يا ليتني أستطيع أن أنام!

الميجر: صه! أنت أيضاً تعمل على نشر الإشاعات والأراجيف!

جوني: لست أدري يا ميجر أهي إشاعات أم حقائق!

الميجر: إشاعات! هيا الآن عد إلى مكانك في الحراسة!

جوني: سمعاً (يحرج).

يدخل السكرتير من الباب الأيمن.

الميجر: كل هذه المدة في المرحاض!!

السكرتير: معذرة يا ميجر.. كلما أردت أن أخرج شعرت بشيء بعد.

الميجر: ألم يعطك الطبيب علاجاً؟

السكرتير: أعطاني.. ولكن دواءه لم يفدني شيئاً، من المؤسف أن الطبيب ليس عنده دواء للخوف.

الميجر: ويحك يا جبان، أتعترف أمامي بالخوف والجبن؟

السكرتير: أنا رجل صريح ولا أحب تمويه الحقائق. ما أفسد أمعائي غير الخوف والذعر.

الميجر: هيا اجلس.. أكمل كتابة التقرير.

السكرتير: (يجلس إلى مكتبه) هات يا مجير.. أمل عليّ.

الميجر: أين وقفت؟

السكرتير: (يتلو التقرير) الواقع أن جنودنا أنفسهم هم الذين يرتكبون هذه الأعمال.

الميجر: اكتب الآن!

السكرتير: نعم..

الميجر: (يملي وهو يذرع الحجرة جيئة وذهاباً) هم الذين يهربون من المعسكرات ويسرقون بعض المخازن ثم ينسفونها لتغطية السرقة.

السكرتير: حقائق مؤلمة حقاً!

الميجر: دعني الآن من تعليقاتك.. عليك أن تكتب ما أمليه فقط.

السكرتير: سمعاً يا سيدي الميجر.

الميجر: أما حالة الرعب بين جنودنا فموجودة لا سبيل إلى إنكارها ولكن سببها ليس أن الفدائيين المصريين يهاجمون معسكراتنا حقيقة بل لأن الشيوعيين بين جنودنا هم الذين يروجون هذه الإشاعات لبث الرعب في قلوب الجنود والاضطراب في صفوفهم.

السكرتير: لا أكتمك يا سيدي الميجر أن مثل هذا التقرير ليس في صالحنا.

الميجر: (محتداً) قلت لك لا تعليق!

السكرتير: حسناً.. حسناً.. لا تغضب، يظهر أننا محكوم علينا بأن نقبر في هذه الأرض!

الميجر: اخرس!

السكرتير: خرست.. كمل كمل.

 (تسمع طلقات نار من بعيد فيراع الميجر والسكرتير ويرتجفان).

السكرتير: وي! ما هذا!

الميجر: حادث جديد.

السكرتير: يظهر يا ميجر أن هذه الطلقات ليست من بنادق جنودنا!

الميجر: ويلك ماذا تعني؟

السكرتير: من بنادق غريبة.. من بنادق غريبة.

الميجر: هه؟

السكرتير: لعلها من بنادق الفدائيين المصريين!

الميجر: (يخرج مسدسه في وجل واضطراب) ماذا تقول؟

السكرتير: (يصيح في خوف) حذار يا ميجر! لا تصوب مسدسك نحوي!

الميجر: (في غير وعي) نحوك!

السكرتير: نعم لئلا يغلبك الخوف فتطلق النار علي.

الميجر: يغلبني الخوف يا وغد!!

السكرتير: أقصد: لا تغلبك الحماسة فتظنني فدائياً مصرياً. لقد وقع هذا من جنودنا مراراً فأطلق بعضهم الرصاص على بعض!

الميجر: (ينادي) جوني! جوني!

جوني: (يدخل من الباب الأيسر) نعم يا سيدي الميجر.

الميجر: ألم تسمع طلقات النار؟

جوني: سمعت.

الميجر: ولم تتحرك؟

جوني: أين تريدني أن أتحرك؟ أأترك الحراسة هنا فأنطلق إلى حيث الطلقات؟

الميجر: كلا كلا، ابق واقفاً في مكانك.. اخرج.. كن يقظاً.. حذار أن تنعس أو تنام.

جوني: النعاس والمعارك تدور!؟

الميجر: اسكت.. لا تنشر الأراجيف، إنما هي بضع طلقات وانتهت.. عد إلى مكانك.

جوني: سمعاً (يهم بالخروج) (تسمع جلبة ووقع أقدام تقترب).

الميجر: انظر ما هذا يا جوني؟

جوني: (على الباب) جماعة من جنودنا قادمون.

السكرتير: أمتأكد أنت أنهم من جنودنا؟

جوني: نعم.

الميجر: تأمل جيداً يا جوني.. افتح عينيك جيداً!

جوني: (متذمراً) أوه.. إن شئت أطلقت عليهم النار.

الميجر: كلا كلا يا غبي!

(يدخل ثلاثة من الجنود أحدهم جاويش يسوقون جنديين من الداورية).

الميجر: ما هذا يا سيرجنت.

الجاويش: هذان الجنديان قتلا أربعة من جنود الداورية التابعة لنا.

الميجر: الطلقات التي سمعناها منذ قليل؟..

الجاويش: نعم..

الميجر: (للجنديين) حسبتماهم من الفدائيين المصريين؟

الجنديان: نعم يا سيدي الميجر.

الجاويش: كلا لا ينبغي أن يقبل مثل هذا العذر.. يجب يا ميجر أن نضع حداً لهذا الاستهتار.

الميجر: هلا تثبتما من هويتهم قبل أن تطلقا عليهم النار.

الجنديان: رأيناهم يتسللون نحونا في الظلام فصحنا بهم ليقولوا كلمة السر فلم يقولوها فأطلقنا عليهم النار.

الجاويش: لعلهم كانوا سكارى ثملين.

الميجر: ونحن كنا خائفين وجلين.

الميجر: ألم نؤكد لكم مراراً أن أحد من الفدائيين المصريين لم يجرؤ على الاقتراب من معسكراتنا وأن ما يشاع عن ذلك كله محض أراجيف؟

الجنديان: أجل يا سيدي الميجر ولكن المعسكر كله يعتقد خلاف هذا ويزعم أن الفدائيين المصريين يتسللون كل ليلة إلى كل مكان لقد سمعنا اليوم أن بعضهم شوهدوا البارحة يحومون حول مكتبك نفسه.

الجاويش: هذه خرافة.. هذه الصورة.

الميجر: أجل لا ينبغي أن تكونوا جبناء إلى هذا الحد فتسارعوا بإطلاق النار قبل أن تتأكدوا من هويتهم.

الجنديان: الواقع يا سيدي الميجر أننا خشينا عليك منهم.

الميجر: علي؟..

الجنديان: نعم لقد كان اتجاههم نحو هذا المكان.

الميجر: حسناً يا سيرجنت، ضع هذين الجنديين تحت الحفظ حتى تجري محاكمتهما غداً.

الجنديان: لكن..

الميجر: أطيعا الأوامر!

الجاويش: (يومئ إليهما وإلى الجنديين الآخرين بالتحرك) هيا!

(يخرج الخمسة)

الميجر: جوني!

جوني: نعم يا سيدي الميجر.

الميجر: شدد حراستك وانتبه جيداً.

جوني: سمعاً. (يخرج)

السكرتير: الليلة أربعة وفي الأسبوع الماضي اثنان وقبل ذلك ثلاثة!

الميجر: اقفل فمك! الأراجيف ممنوعة!

السكرتير: أهذه أراجيف أيضاً؟

الميجر: اقفل فمك.

السكرتير: سمعاً.

الميجر: أعطني التقرير الذي كتبته.

السكرتير: ألا تريد أن تضيف إليه شيئاً؟

الميجر: أعطنيه!

السكرتير: تفضل..

الميجر: (يتصفحه ملياً ثم يمزقه ويرميه في سلة المهملات)..

السكرتير: لماذا مزقته؟

الميجر: سأملي عليك تقريراً آخر!

السكرتير: أسلوبه لم يعجبك؟

الميجر: كفى أسئلة! اكتب ما أمليه عليك..

السكرتير: طيب..

الميجر: (يملي) جنودنا في رعب شديد لأن الفدائيين المصريين كثيراً ما يحومون ليلاً حول المعسكرات، الواقع أنهم لم يقوموا بأي اعتداء ولكن مجرد رؤيتهم يحومون حول المعسكرات يثير الرعب في قلوب الجنود فيطلق بعضهم النار على بعض.. وقد تكرر هذا العمل كثيراً في هذه الأيام وآخر ما وقع منه الليلة 3 أبريل فقد أطلق جنديان النار على أربعة من جنودنا حسباهم من الفدائيين المصريين فأردياهم قتلى.

السكرتير: فأردياهم قتلى.

الميجر: وإني أقترح الرفق بالجنديين وإعلان أن الفدائيين المصريين هم الذين قتلوا الجنود الأربعة، وفي حالة عدم الموافقة على اقتراحي هذا أفيدوني حالاً.. إمضاء..

السكرتير: حقاً هذا أصلح من التقرير الأول..

الميجر: ابعث التقرير حالاً بالشفرة.

السكرتير: سمعاً يا سيدي الميجر (تسمع طلقة نار من قريب فيرتاع الاثنان مرة أخرى).

السكرتير: وي! هذه طلقة من قريب! لابد أنهم أصابوا جوني!

الميجر: (في ذعر) من هم؟

السكرتير: الفدائيون!

الميجر: (يخرج مسدسه) هيه تريد أن تخوفني؟

السكرتير: (يتأوه) آه.. ائذن لي.

الميجر: إلى أين؟

السكرتير: إلى المرحاض.

الميجر: ويلك أتتركني هنا وحدي؟ (يدخل جوني من الباب الأيسر)

السكرتير: هاهو ذا جوني يؤنسك! (يخرج من الباب الأيمن)

الميجر: جوني.. أنت حي!؟

جوني: طبعاً يا ميجر.. ألا تراني أمامك؟

الميجر: (يسترد رباطة جأشه) أنت الذي أطلقت النار؟

جوني: نعم.

الميجر: على من؟

جوني: رأيت شخصاً يزحف نحونا من بعيد.

الميجر: أتقول: يزحف؟

جوني: نعم.

الميجر: وهل تيقنت أنك أصبته؟ حذار أن..

جوني: كلا لقد سقط مكانه ولم يتحرك.

الميجر: أحسنت.. إذا تبين أنه من الفدائيين المصريين فسأوصي بترقيتك.

(يسمع أنين وحركة ضعيفة خارج الباب).

الميجر: ما هذا؟ كأنه عواء كلب.

السكرتير: (يدخل) أجل.. هذا عواء كلب.

جوني: كلب!

الميجر: ويلك.. حذار أن تكون أطلقت النار على كلبي؟

جوني: وماذا يجيء بكلبك في مثل هذه الساعة من الليل؟

الميجر: ربما أرسلته زوجتي من البيت!

السكرتير: ألا تميز يا جوني بين الكلب والإنسان؟

جوني: ظننته إنساناً يزحف.

(يدخل كلب جريح يجر جسمه جراً)..

الميجر: (يصبح في أسى) ونستي! كلبي العزيز! (يرتمي على الكلب وهو يبكي) ونستي! ونستي!

السكرتير: (يتمتم بصوت خافض) مسكين! ليتها أصابت سميّه الذي في لندن!

(ستار)

          

*مجلة الدعوة في 10 شعبان 1373.