إمبراطورية في المزاد

من المسرح السياسي (17)

إمبراطورية في المزاد *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

-1-

مكتب وزير الخارجية البريطانية بداوننج ستريت رقم 10.

تشرشل: أتستنجدون بي الآن بعد فوات الأوان؟

بيفن: ألا تستطيع أن تنسى الخصومة الحزبية لحظة من الزمن يا رجل؟ إن الإمبراطورية في خطر، وعلينا أن نتكاتف لدرئه عنها بكل ما في وسعنا.

تشرشل: يجب أن تعترفوا أولاً بأن حكومتكم هي التي أفضت بالإمبراطورية إلى هذا الوضع المحزن.

بيفن: كلا.. بل الظروف العالمية بعد الحرب الثانية.

تشرشل: كانت بريطانيا العظمى تخضع الظروف لإرادتها ولا تخضع لها حتى تسلمتم مقاليد الحكم فكنتم شؤماً على البلاد.

بيفن: ما كان في وسع أية حكومة أخرى أن تحول دون هذا المصير، فقد تنبهت شعوب البلاد التي نحكمها، وأثقلتنا هذه الحرب بالديون الباهظة دون أن يكون لنا أي أمل في طرحها عن كواهلنا.

تشرشل: لو بقينا في الحكم لتفادينا الأخطاء التي ارتكبتموها في سياستكم الداخلية والخارجية، فأبعدنا عن الإمبراطورية هذا الخطر المحدق.

بيفن: أما السياسة الداخلية فقد تعلم أن لنا مبدأ نبيلاً لا نستطيع التحول عنه لأنه إرادة هذا الشعب. وأما في السياسة الخارجية فقد كانت تصرفاتنا موسومة بطابع الحكمة والتبصر.

تشرشل: أي حكمة أو تبصر في إعلان الجلاء عن مصر قبل بدء المفاوضات معها لتعديل المعاهدة؟

بيفن: ما كان ليتسنى لنا أن نفاوضها على الوجه الذي نريد لولا ذلك الإعلان ولم نكد نعلن الجلاء حتى شرعنا في بناء ثكناتنا الكبرى بمنطقة فايد، وقمنا بنشاط كبير في تثبيت أقدامنا في السودان. إن القائد العسكري لا يلام على المناورات التي يقوم بها.

تشرشل: فهل نجحت مفاوضاتكم عن مصر؟

بيفن: لم تنجح مع الأسف، ولكن الخطة التي رسمناها لا غبار عليها، سواء في حال النجاح أو في حالت الفشل. لقد كان الميل إلى إحالة القضية إلى الهيئات الدولية قوياً عن المصريين من قبل، فاستطعنا بإعلان الجلاء أن نكسب الوقت ريثما أنشأنا في السودان هيئة قوية تطالب بالانفصال عن مصر.

تشرشل: وهل من الحكمة أن يكون عدد الجنود البريطانيين في الهند أقل منه في فلسطين؟

بيفن: مهما أكثرنا من الجنود في الهند فلن يغير ذلك الحقيقة الواقعة وهي أن الهند ذاهبة من أيدينا على كل حال. وإنما أملنا الوحيد هو كسب صداقتها لتبقى مرتبطة بنا.

تشرشل: كيف تضع الأقلية تحت رحمة الأكثرية؟ هذه حجة كان عليكم أن تستغلوها إلى أبعد الحدود.

بيفن: لقد استغللنا ذلك، ولكن على وجه أكفل بمصلحتنا من الوجه العتيق الذي لا تعرف غيره. فالهنود المسلمون ليسوا أقلية في الحقيقة، فهم أمة يربو عددها على الأمتين البريطانية والفرنسية معاً.

والطريقة التي سلكناها هي الكفيلة ببقاء الهند في حاجة مستمرة إلى تداخلنا. وإن أخوف ما نخافه أن تقوم فيها الدولتان المستقلتان فينقطع النزاع الطائفي بين الفريقين ويحل محله التفاهم والتعاون، فلا يبقى لنا إليهما من سبيل.

تشرشل: أنا لا أريد قيام الدولتين ولا قيام الدولة الموحدة.. يجب أن نصون نفوذنا هناك بالقوة!

بيفن: هيهات! فقد ساعدنا هولندا بجنودنا حتى ثبتنا أقدامها في إندونيسيا، وساعدنا فرنسا بالمؤن والذخائر لتحطيم مقاومة الفيتناميين المتمردين، فهل يعقل بعد هذا أن لا نستعمل القوة صون نفوذنا في الهند لو كان ذلك ممكناً هناك؟

تشرشل: ولكن يبقى بعدُ أنَّ الهند أحوج إلى كثرة جنودنا من فلسطين، فعلام تبقون كل هذا العدد الضخم في فلسطين؟

بيفن: لمواجهة الإرهاب اليهودي من جهة، ولاتخاذها قاعدة مركزية لقواتنا في الشرق الأوسط ريثما نرى ما يكون من مصيرنا في مصر من جهة أخرى.

تشرشل: ولماذا لا نبقى في مصر ونعتبر معاهدة سنة 1936 قد تجددت لمدة عشر سنوات أخرى ونضع مصير فلسطين في أيدي أهلها؟ وهذه الولايات المتحدة تأخذ بناصر اليهود فلا خوف عليهم من العرب بعدُ.

بيفن: والإرهاب اليهودي؟

تشرشل: لا ضير علينا منه إذا تركنا اليهود وشأنهم، بل سيكونون حينئذ عوناً لنا على العرب.. لا خوف علينا إلا من العرب!

بيفن: ليس من مصلحتنا على أي حال أن نظهر للناس تحيزنا الشديد لليهود أمام العرب أصحاب البلاد.

تشرشل: لا نستطيع ستر هذا التحيز إلا إذا استطعنا أن نستر وجه الشمس فأكبر بلد عربي ما كان به غير أربعين ألف يهودي حين انتدبنا عليه فجعلناه اليوم ستمائة.

بيفن: لا تنس أن علينا أن نراعي شعور العالم العربي أيضاً لئلاً نخسر مصالحنا الحيوية هناك..لا سميا وروسيا واقفة بالمرصاد.

تشرشل: ليس لنا أن نخشى من روسيا كثيراً على تلك البلاد، فأهلها يعتقدون أن دينهم يتنافى مع المبادئ الشيوعية.

بيفن: ليست روسيا وحدها واقفة لنا بالمرصاد! ألم تسمع ذلك الشيخ الأمريكي الذي اقترح تصفية الإمبراطورية البريطانية وضمها إلى الولايات المتحدة؟

تشرشل: لا لوم عليه، فسياسة الضعف والتخاذل التي اتبعتها حكومتكم هي التي أوحت للسناتور رسل بهذا الاقتراح. هذه أمريكا قد احتكرت المحيط الهادي، وجعلت المحيط الأطلنطي بحراً أمريكياً، وهي تنازعنا السلطان في البحر الأبيض المتوسط، بل في المحيط الهندي.

بيفن: ماذا كان في وسعنا أن نصنع ونحن غارقون في الديون إلى آذاننا؟

تشرشل (يصطنع الضحك): لو بقينا في الحكم لأريناكم كيف نعوم في البحر المتلاطم إلى ساحل الخلاص!

بيفن: أرنا الآن كيف نعوم؟

تشرشل: الآن بعد اقتراح السناتور الأمريكي؟

بيفن: ما لنا ولهذا الاقتراح الخيال.

تشرشل: ستحققه الولايات المتحدة يوماً غير بعيد بفضل سياستكم الخرقاء!

بيفن: كفى! لا احتمل منك أكثر من هذا.

تشرشل: أنت الذي دعوتني فحضرت.

بيفن: ما دعوتك لتسخر بي.. اخرج من هنا!

(يدخل المستر اتلي)

اتلي: ما هذا الخصام المتحدم بينكما.

بيفن: دعوته لأستشيره في الشؤون العامة, فما كفاه أن ندد بسياستنا حتى جعل يسخر بنا.. لا هم لهذا الرجل إلى كرسي الحكم!

تشرشل: أنا لا أتنصل من هذه التهمة وإني لأهل للحكم!

بيفن: ثق أنك لن تليه!

تشرشل: وثق أنك لن تبقى طويلاً فيه!

اتلي: يؤسفني أن كليكما قد قال الصدق.

بيفن: ماذا تعني يا مستر اتلى؟

اتلي (يتنهد): قد قضي الأمر.

تشرشل: ماذا حدث؟

اتلي: ألم تعلما بعد بما حدث؟

بيفن: ماذا؟

اتلي: إذن فخير لكما أن لا تعلما بهذا النبأ الفاجع؟

تشرشل: ماذا؟ هل مات بن جوريون؟

اتلي: يا ليت!

بيفن: هل قامت الدولتان المستقلتان في الهند؟

اتلي: بل أعظم من ذلك.

تشرشل: هل أجليت جنودنا عن مصر والسودان؟

اتلي: بل افدح من ذلك.

بيفن: هل انهار الإسترليني؟

اتلي: أفدح وأعظم..

بيفن: فماذا حدث؟

اتلي: خير لكما أن تجهلاه.. استمرا في خصامكما على الحكم.. امضيا في سب أحدكما الآخر.. آه يا ليت هذا يدوم لنا!

تشرشل: قل لنا ماذا حدث.. لقد خضضت أحشائي.

اتلي: (يتنهد) آه.. آه..

تشرشل: هيا أسرع!

اتلي: قررت الولايات المتحدة تصفية الإمبراطورية البريطانية!

تشرشل: هذا ما توقعته من قبل...

بيفن: ولكن الدول لن ترضى.. روسيا لن ترضى!

اتلي: بل رضيت وا أسفاه

بيفن: هذا محال.. محال أن ترضى ازدياد قوة الولايات المتحدة.

اتلي: اشترطت روسيا شرطاً وافقت عليه الولايات المتحدة.

بيفن: ما هو؟

اتلي: أن تعرض الإمبراطورية قبل ذلك في المزاد الدولي.

بيفن: أتريد روسيا أن تشترينا؟

أتلي. لا ادري.. لا أدري لمن ستكون!

-2-

في مقر هيئة الأمم المتحدة بنيويورك ومندوبو الدول في مقاعدهم.

رئيس المجلس: أيها السادة لقد أسفر الاقتراع عن فوز مبدأ التصفية بأغلبية الأصوات.

المندوب البريطاني: هذا ظلم عظيم ما كنا نظن أن يقع مثله في هذا العهد الجديد، عهد ميثاق الأطلنطي وميثاق الأمم المتحدة.

الرئيس: هذا قرار هيئة الأمم المتحدة وهو مطابق قرار مجلس الأمن.

المندوب البريطاني: بل عمدت الدول إلى محاباة الولايات المتحدة على حسابنا وحساب الحق في المجلسين معاً. لا أدري كيف يستحق مجلس الأمن هذا الاسم بعد أن أصدر قراراً كهذا يفضي إلى اضطراب السلام العالمي.

الرئيس: بل اعتمد مجلس الأمن في قراره هذا على حيثية واحدة هي الرغبة في إقرار السلام.

مندوب جنوب أفريقيا: أيها السادة لو لم تكن للإمبراطورية البريطانية إلا ما قدمناه نحن من خدمة كبيرة للحضارة الإنسانية انفصالنا على الأجناس السوداء المتوحشة في بلادنا وإعدادها للجنس الأبيض المتحضر لكفى ذلك حائلاً دون بيع هذه الإمبراطورية هذا السلاح!

المندوب البريطاني: أهكذا يكون الدفاع ويلك؟ أيها السادة، إن حكومتي لا تقرُّ هذا المندوب الإفريقي.

مندوب جنوب أفريقيا: ماذا تقول؟ الإفريقي؟

الرئيس: أنظر يا هذا إلى وجهي جيداً.. لا فرق بين وجهي ووجهك!

مندوب الروسي: ليس لدينا وقت نضيعه للاستماع إلى بكاء الباكين أو جدال المتجادلين. فعلينا أن ننتقل إلى مسألة أخرى.

الرئيس: لقد قررنا في الجلسة الماضية وجوب تعريف موضوع التصفية وقد أنشأنا لجنة فرعية لبحث ذلك وهاأنذا الآن سأقرأ عليكم التعريف الذي وضعته اللجنة: (يقرأ من الورقة في يده) الإمبراطورية البريطانية هي مسطّح وهمي مزعج تخلف عن نظام قائم على التحكم في أصقاع مترامية الأطراف لا تغرب عنها الشمس، واستغلالها لمصلحة فئة من الرأسماليين في بريطانيا العظمى وممتلكاتها المستقلة قد أثقلتهم نفقات الحرب والمحافظة على بقاء هذا النظام وأغرقتهم بديون لا قبل للإمبراطورية بتغطيتها لأنه فقدت سيطرتها على حقول استغلالها، (يطوي الورقة) أيها السادة، هل توافقون على هذا التعريف؟

المندوب الروسي: هذا تعريف بديع!

المندوب الأمريكي: تعريف جامع مانع!

مندوب استراليا: أيها السادة. إن كان هذا التعريف يشملنا، فإني أعترض بشدة عليه، فليس من العدل أن يلحق بلاد الدومنيون هذا المصير.

الرئيس: لكن كلمة الإمبراطورية تشملكم، فيجب أن يشملكم التعريف وما يترتب عليه.

مندوب استراليا: لسنا مفلسين مثل بريطانيا العظمى، وفي وسع بلادنا الغنية أن تشتري حريتها.

الرئيس: هذا معقول.. ولكن ممن تشتري بلاد الدومنيون حريتها؟ من الإمبراطورية نفسها أم ممن سيملكها فيما بعد؟

المندوب الروسي: أعتقد أن الإمبراطورية –وهي موضوع التصفية- لم يعد لها حق البيع والشراء إلا بإذن الهيئة.

المندوب الأمريكي: إنني أوافق المندوب الروسي على رأيه، ولكني أقترح استثناء كندا من ذلك لأنها في الواقع قطعة من أمريكا! وقد كانت الولايات المتحدة أولى بهذا وكانت كندا دائماً تميل إلى الرجوع إلى أمها الكبرى لولا الموانع القاهرة وقد زالت الآن.

الرئيس: ما رأي المندوب الكندي في هذا؟

المندوب الكندي: إننا نؤيد المندوب الأمريكي الذي عبر عن رغبة كندا بصدق وإخلاص.

المندوب البريطاني: حتى أنت يا بروتس!

المندوب الكندي: ماذا نصنع؟ أيجب علينا أن نغرق معكم وأمامنا فرصة النجاة؟

مندوب جنوب أفريقيا: نعترض على هذا بشدة.. فبلاد الدومنيون على درجة سواء: فإما أن ننجو معاً، وإما أن نغرق معاً!

مندوب أستراليا: أما نحن فلا نكره لكندا الخير إذا أتيحت لها فرصة الخلاص من العبودية لأننا نريد الحرية لأنفسنا فلا يليق بنا أن نكرهها لغيرنا.

المندوب الروسي: أيها السادة:، إننا لا نعترف بدعوى الولايات المتحدة فالعبرة في هذا الشأن بما هو واقع فعلاً هو أن كندا تابعة للإمبراطورية فيجب أن يكون مصيرها مصير أخواتها، وما أخال الدول الدائنة إلا توافقني على ما قلت.

تؤخذ الأصوات، فينتصر الرأي الروسي.

المندوب البريطاني: سعادة الرئيس، أيها السادة، لقد ذهبت استراحاماتنا سدى في هذا المجلس وفي مجلس الأمن من قبل، ففي ذمة التاريخ إمبراطوريتنا الذاهبة! إن التاريخ هو الذي سيفصل غداً بيننا بينكم وهو أعدل الحاكمين, وأرى لزاماً علي أشكر أولئك الأصدقاء القليلين الذين دافعوا عنا في هذا المجلس فكانوا عزاءنا الوحيد في هذه النكبة الكبرى. وأخص بالذكر منهم ممثلي الدول العربية الذين لم تمنعهم الخصومات التي كانت بيننا وبينهم من الوقوف بجانبنا في ساعة المحنة بينما خذلتنا دول أخرى طالما اختصصناها بالمودة  وطوقناها بالجميل!

المندوب الروسي: ألا ترون أيها السادة أن وقتنا أثمن من أن يضيع في الاستماع إلى الخطب المؤثرة؟

الرئيس: إن بقى لدي المندوب البريطاني ما يقوله فليوجز.

مندوب البريطاني: يا ويلنا.. حتى الكلام تنفسونه علينا!

الرئيس: كلا.. تكلم ما شئت، بيد أننا نوصيك بالإيجاز ما استطعت.

المندوب البريطاني: لقد رضينا بالقرار الذي أصدره المجلس.. نعم رضينا بأن تصفى الإمبراطورية وتباع في المزاد الدولي..

المندوب الروسي: (مقاطعاً) هذا قرار قد صدر، ولا قيمة لرضاكم أو عدم رضاكم به.

المندوب البريطاني: دعوني أتمم كلمتي، إنني لم أقل بعد كل ما أريد.

الرئيس: حسناً.. قل وأوجز.

المندوب البريطاني: لقد رضينا كل هذا، ولكنا نتوسل إلى الضمير الإنساني في الدول المشتركة في هذه الهيئة أن على شعبنا المنكود فتتعهد له بأن مستوى معيشته كما كان قبل الحرب يجب أن يبقى كما هو.

المندوب الروسي: من ذا يستطيع أن يتعهد لكم بهذا؟ ما كان مستوى معيشتكم طبيعياً، بل كان نتيجة الاستعمار واستغلال أرزاق الشعوب الأخرى فكيف تريدون أن يبقى لكم ذلك؟

الرئيس: إن شاءت الولايات المتحدة أن تصنع هذا الجميع فسيكون صنيعها مشكوراً.

المندوب الأمريكي: لا نستطيع أن نرغم دافع الضرائب الأمريكي على تحمل هذه النفقات، فعلى البريطانيين أن يستغلوا تربة بلادهم بأيديهم، وسيكون مستوى معيشتهم على قدر اجتهادهم في العمل وقدرة أرضهم على الإنتاج.

الرئيس: لا بأس بمساعدتهم ومعاونتهم حتى يألفوا هذه الحياة الجديدة.

المندوب الأمريكي: في استطاعتنا أن نتعهد بتنفيذ وعد السناتور فرفور الخاص بإقامة وطن قومي للإيطاليين في إنجلترا، وفتح أبوابها للهجرة الإيطالية. ونعتقد أن ذلك سيكون كفيلاً بإنعاش الحياة الاقتصادية.

المندوب البريطاني: كلا.. لا حق للإيطاليين في بلادنا.. إن إنجلترا للإنجليز قبل أن تكون أمريكا للأمريكيين.

مندوب جنوب أفريقيا: هذه سابقة خطيرة أيها السادة، ولا نأمن إذا أخذتم بتطبيق القرار في تلك البلاد، أن يتملكوها.

المندوب الأمريكي: فالإيطاليون أهل جد ونشاط وسنعينهم نحن بالقروض المالية.

المندوب البريطاني: كلا إننا لا نعترف بهذا الوعد، وإن الأرض أرضنا وأرض آبائنا منذ القرون الأولى، ولا حق للسناتور فرفور ولا لغيره أن يعطي ما لا يملك!

المندوب الأمريكي: إن للإيطاليين حقاً تاريخياً لا يمكن إنكاره في تلك البلاد، فهم ورثة الرومان الذين ملكوا الجزائر البريطانية لعدة قرون، فالسناتور فرفور لم يعط ما لا يملك، وإنما أعاد بعض الحق لأصحابه.

المندوب البريطاني: كيف يصح هذا في منطقكم؟ هذه لا شك خطة جهنمية لإبادة الشعب البريطاني في بلاده، وإحلال الإيطاليين محله.

المندوب الأمريكي: هذه مخاوف لا أساس لها، فسنضمن حقوق الشعب البريطاني كاملة، ولن نسمح أبداً أن يطغى الإيطاليون عليه.

مندوب جنوب أفريقيا : هذه مؤامرة لا نرضى بها فقد ترسل الولايات المتحدة ملايين الزنوج التي فيها إلى بلادنا بدعوى أن بلادنا كانت لهم فتكون لهم الغلبة علينا نحن البيض، وأنتم تعلمون أن الولايات المتحدة تريد أن تتخلص من زنوجها.

المندوب المصري: أيها السادة.. إننا لا نستطيع أن نقر هذا المبدأ الجائر فبريطانيا يجب أن تبقى للبريطانيين، وإذا كانت الولايات المتحدة تعطف على الإيطاليين المنكوبين فلتفتح لهم أبواب بلادها فهي أوسع وأغنى من إنجلترا.

المندوب الروسي: عجباً لكم معشر العرب.. كيف تدافعون عن بريطانيا وهي التي أصدرت عد بلفور بإعطاء بلادكم لليهود؟ دعوها اليوم تتجرع الكأس التي سقتها لكم!

المندوب المصري: هذا صحيح، ولكنا معشر العرب لا نستطيع أن ننظر بعين الباطل حقاً وعين أخرى ترى الحق باطلاً والباطل باطلاً فوعد فرفور باطل كوعد بلفور: كلا الوعدين يجب أن يرمى في وجه صاحبه وكلا الرجلين يجب أن ينشر قبره ليكونا عبرة لغيرهما من المجرمين في حق الشعوب!

المندوب الأمريكي: إني أحتج على هذا اللمز الصحيح لحكومة الولايات المتحدة والإهانة لذكرى شيخ من شيوخها الأجلاء ألا وهو السناتور فرفور.

المندوب البريطاني: وأنا أحتج أيضاً على تعرضه لذكرى المرحوم اللورد بلفور!

المندوب المصري: إنني ما أهنت ذكر فرفور لأنه شيخ من شيوخ أمريكاً الأجلاء ولكن لأنه اعتدى على حق شعب آخر، وأجرم في حق الإنسانية والتاريخ، ووضع الفتيل بوعده هذا لإيقاد نار حرب ثالثة قد تقضي على البشر أجمع. أيها السادة إننا نقوم اليوم بتصفية إمبراطورية طالما ظلمت الشعوب، وقد نأتي عداً لنصفي دولة أخرى تسير على هذا الدرب الخطر! فعلى هذه الهيئة الموقرة إن شاءت القيام برسالتها السامية في إقرار السلام العالمي أن ترتفع في ناديها كلمة الحق مهما صغر قائلها على لغط الباطل مهما عظم صاحبه!

المندوب الروسي: هذا كلام مجيل!

المندوب المصري: أما أنت أيها المندوب البريطاني فلولا إيثارنا الحق على الباطل لوددنا أن نرى وعد فرفور ينفذ في بلادكم لتذوقوا ألوان العذاب التي أذقتموها لإخواننا عرب فلسطين لعلكم يومئذ تنظرون إلى بلفوركم هذا بعين أخرى.

المندوب البريطاني: كلا لا يقاس وعد بلفور بوعد فرفو. ذلك حق أيدته عصبة الأمم، وهذا باطل لا يمكن أن يؤيده أحد.

المندوب الأمريكي: ليست لدينا معشر الأمريكيين تلك الألقاب الجوفاء ولكن اللورد بلفور لا يمكن أن يكون أفضل من رجلنا العظيم السناتور فرفور وقد ارتبطت حكومتنا بوعده للإيطاليين فلن نخل به مهما تكن الظروف.

المندوب البريطاني: هذا ظلم كبير وعدوان صارخ!

الرئيس: دعونا الآن من وعد فرفور فالبحث فيه سابق لأوانه.

المندوب الروسي: نعم.. علينا الآن أن نتفق على تعيين يوم المزاد الدولي.

الرئيس: أيها السادة، ماذا ترون؟

 "ستار"

         

*جريدة (الإخوان المسلمون المصرية) في 23/3/1947