أنا أبو بصير

من المسرح السياسي (15)

أنا أبو بصير*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

(دار المحافظة بمدينة الإسماعيلية)

المحافظ: (لأحد ضباط البوليس) ألم تعثروا على الفدائيين المطلوبين؟

الضابط: لا يا سيدي لم نقف لهما على أثر.

المحافظ: هل تظن أنهما قد غادرا المدينة؟

الضابط: أغلب ظني أنهما لا يزالان مختبئين فيهما، ولكن من الصعب العثور عليهما إلا إذا فتشنا المدينة بيتاً بيتاً في وقت واحد.. وهذا متعذر، وقد يؤدي إلى سخط الأهالي علينا.

المحافظ: كلا لا داعي إلى ذلك، حسبنا ما قمنا به ولن يعترف الإنجليز لنا بفضل أبداً ولو سلمنا إليهم الفدائيين أجمعين.

السكرتير: (يدخل) البريجادير أكسهام يا سيدي قد وصل.

المحافظ: دعه يدخل.

أكسهام: (يدخل) صباح الخير يا صاحب السعادة.

المحافظ: صباح الخير يا جناب البريجادير.. تفضل.

أكسهام: شكراً (يجلس) ترى ماذا صنعتم بالمذكرة التي قدمناها بصدد الإرهابيين اللذين اعتديا على جنودنا الخمسة أول من أمس.

المحافظ: قد أولينا هذا الأمر ما يستحق من العناية، ولا يزال البحث جارياً عن الفدائيين المطلوبين.

أكسهام: نحن على يقين أنهما دخلا مدينة الإسماعيلية ولم يخرجا منها.. وما كان ليعجزكم العثور عليهما لو توفرت لديكم الرغبة الصادقة.

المحافظ: هذه مسئوليتنا ولسنا بحاجة إلى من يذكرنا بها.

أكسهام: لكن..

المحافظ: تذكر على كل حال أن اجتماعنا هذا ليس لبحث هذه المسألة ولا غيرها من المسائل الفرعية، بل لبحث المسألة الأساسية وهي تنفيذ ما اتفقنا عليه في الأسبوع الماضي من جلاء جنودكم عن الإسماعيلية جلاء تاماً.

أكسهام: لقد سحبنا جنودنا من المدينة ما خلا مدرسة البنات الثانوية وعمارة أبي ذكرى التي يقيم فيها بوليسنا الحربي.

المحافظ: كان اتفاقنا على الجلاء التام، واجتماعنا هذا لتعلمنا قراركم الأخير: بصدد إخلاء هذين المركزين الباقيين.

اكسهام: نعم. لكن هذه الاعتداءات التي يقوم بها الإرهابيون كل يوم قد جعلنا نتردد في سحب بوليسنا الحربي من العمارتين.

المحافظ: إذن فلن نكون مسؤولين عما قد يصيبكم في المدينة أو خارجها، لأنكم بهذا تحولون بيننا وبين الاضطلاع بواجبنا في حفظ الأمن.

اكسهام: بل الأمر على العكس.. لقد ثبت لدينا فشل رجالكم في حفظ الأمن والنظام.

المحافظ: هذه دعوى لا برهان لكم عليها وهي كسائر دعاويكم التي لا عداد لها في احتلال بلادنا.

أكسهام: كفى برهاناً على ذلك حادث هذين الإرهابيين اللذين اعتديا على جنودنا الخمسة وهم في طريقهم إليكم في مهمة رسمية وقد أخطرناكم بذلك قبل أن يتحركوا من معسكرنا، فهذا يدل على عجزكم عن حفظ الأمن إذ لا يعقل أنكم ترضون من هؤلاء الإرهابيين مثل هذا التحدي السافر لسلطانكم.

المحافظ: ليس ثم ما يدفع هؤلاء إلى تحدي سلطتنا لولا إصراركم على استفزاز عواطف الأهالي في الوقت الذي نحاول فيه حماية أرواحكم من القتل، وأسلحتكم من السلب.

أكسهام: إن جنودنا لا يستفزون أحداً ولكن الأهالي هم الذين يتحرشون بهم.

المحافظ: مجرد ظهورهم يخترقون الشوارع بدباباتهم ومصفحاتهم يعد استفزازاً فكيف وهم يطلقون النار يميناً وشمالاً إمعاناً في التحدي والاستفزاز؟

أكسهام: ماذا عليهم: الرصاص رصاصهم وهم يطلقونه في الهواء، ولا يريدون أن يصيبوا به أحداً.

المحافظ: عجباً.. أو يظنون أنفسهم في شوارع لندن وقد عادوا منتصرين من حرب الروس فأخذوا يطلقون البنادق والمدافع في الهواء فرحاً واستبشاراً؟

أكسهام: لقد أمرنا جنودنا على كل حال أن يكفوا عن ذلك طبقاً للاتفاق الأخير بيننا وبينكم.

المحافظ: فهل نفذتم هذا الاتفاق؟

أكسهام: قد نفذنا بعضه، وسننفذ الباقي حينما تثبت لنا قدرتكم التامة على حفظ النظام.

المحافظ: إننا ندور في حلقة مفرغة وجودكم سبب اختلال الأمن وأنتم تدعون أنكم لن ترفعوا هذا السبب حتى يستتب الأمن!

أكسهام: إن قبضتم على هذين الإرهابيين المطلوبين سلمنا لكم بالسيطرة على النظام وسحبنا جنودنا في الحال من العمارتين.

المحافظ: هذان الشخصان هاربان مختفيان ولا معرفة لنا بهما إلا من الأوصاف التي أعطيتمونا إياها، وقد بذلنا مع ذلك جهداً كبيراً في البحث عنهما، فمن الخطل أن يعتبر عدم عثورنا عليهما عجزاً عن حفظ الأمن أو تقصيراً فيه.

اكسهام: هذا ما نطالبكم فيه ملحين، ولن نتنازل عن طلبنا هذا أبداً.

(يفتح الباب فجأة فيدخل رجلان في زي البوليس ويشهران مسدسيهما صوب البريجادير فيدهش المحافظ ويرتعد البريجادير فرقاً).

المحافظ: ويلكم ما هذا؟

أحدهما: لا عليك يا سعادة المحافظ إنما نريد هذا الصيد الثمين.

المحافظ: إنه في مكتبي الآن وعلى مسؤوليتي.

الأول: نعرف ذلك يا سيدي فثق أننا لن نحرجك.

أكسهام: (متمتماً) هذه مؤامرة سافرة لاغتيالي.. سيعرف رجالي كيف ينتقمون لي منكم.. سيكون الانتقام رهيباً!

الثاني: اخرس.. والله لولا مراعاتنا لسعادة المحافظ للونّا الكرسي الذي تجلس عليه بسائل دماغك.

المحافظ: (يمسك سماعة التلفون).

الأول: كلا لا حاجة بك إلى هذا يا صاحب السعادة.. هاهو ذا سلاحنا نلقيه بين يديك (يضعان مسدسيهما على المكتب أمامه) حسبنا أن قد أدبنا هذا الجبان الرعديد إن في إمكاننا أن نغتاله ونغتال رؤساءه في وضح النهار لو أردنا دون أن تمنعهم منا أبراجهم ولا أسوارهم ولا أسلاكهم الشائكة ولا المدافع والدبابات.

(يأخذ المحافظ المسدسين فيودعهما درج المكتبة ثم ينهض فيلبس كلاً منهما قيداً وهما طائعان)

أكسهام: (يتنفس الصعداء) حتى في بوليسكم إرهابيون، ثم تدعون أنكم قادرون على حفظ النظام.

الثاني: قد خاب ظنك يا بريجادير اكس لسنا من رجال البوليس بل من تماسيح النيل التي ستأكلكم كلا..

المحافظ: لو أنصفت يا بريجادير أكسهام لاعترفت أن رجال البوليس المصري من أشد بوليس العالم ضبطاً لأعصابهم.

أكسهام: الأمر إذن أسوأ.. يستطيع كل إرهابي من الشارع أن يقتحم مكتبك.

الأول: ماذا على اثنين من مجاهدي الشعب أن يدخلا على حامي الشعب في هذه المنطقة من أرض الشعب؟

المحافظ: ويلكما.. ماذا جاء بكما هكذا اقتحاماً دون استئذان.

الأول: سامحنا يا سيدي فلو أستاذنا لحيل بيننا وبين غايتنا.

المحافظ: ما غايتكما؟ أن نفهم أن هذا الدخيل وقومه، إن الفدائيين الذين لا يرهبون الموت من رصاص أعدائهم لا ينبغي أن يخافوا حكم العدالة من حكومة بلادهم.

المحافظ: ماذا تقصد؟

الأول: نحن الفدائيان المطلوبان قد جئنا نسلم أنفسنا إليك حتى تبطل ما ادعاه هذا الدخيل من عجز حكومتنا عن حفظ النظام!.

المحافظ: (مدهوشاً) أنتما.

الثاني: نعم يا سيدي نحن اللذان هاجمنا الكلاب الخمسة فجردناهم من مدافعهم وبنادقهم وقتلنا ثلاثة منهم وابقينا اثنين ليحملا إلى قومهما البشرى؟

المحافظ: هذان إذن غريماك يا بريجادير أكسهام؟

أكسهام: كلا.. هذان إرهابيان آخران.

الأول: يا بريجادير أكس.. ماذا يدفعنا إلى الإقرار على أنفسنا بما قد تعاقبنا حكومتنا عليه.

الثاني: إن كان الكلبان الناجيان لا يزالان في الأحياء حتى اليوم فأت بهما ليشهدا بما يسوءك.

المحافظ: لا ريب في صدقهما يا بريجادير أكسهام فإن الأوصاف التي تلقيناها منكم تنطبق عليهما تمام الانطباق.

الأول: إذا بقي عندك شك فابحث عن الجيف الثلاث عند (المحسمة) فقد ألقيناها في الترعة هناك.

أكسهام: (في اهتمام) عند المحسمة؟

الثاني: نعم.. ها نحن أولاء قد وفرنا عليك عناء البحث، فانتشلها اليوم وأرسلها إلى بلادك هدية من شعب مصر الصديق المخلص إلى الأبد.

أكسهام: (منفعلاً) هذه إهانة لا أحتملها منك يا سعادة المحافظ!

المحافظ: مني أنا؟

أكسهام: نعم.. كيف تسمح لهذين الإرهابيين أن يطلقا ألسنتهما بسبي وسب بلادي وأنا عندك؟

المحافظ: معذرة.. لقد ظننت أنك تحب سماعهما لتأخذ عنهما المعلومات التي تهمك.

أكسهام: (متغافلاً عن هذه السخرية) ثم إني أحملك التبعة في إفشاء سر مجيء إليك حتى علم به هذان الإرهابيان الخطيران.

المحافظ: أتريد أن تقول أنني أنا أخبرتهما بذلك؟

أكسهام: لا أدري.. قد تسرب السر وكفى..

المحافظ: يخيل إلي أننا ما زلنا في حاجة إلى هذين الفدائيين ليدليا إلي وإليك بمعلومات أخرى. (للفدائيين) هل لكما أن تشرحا لنا كيف علمتما بوجود هذا البريجادير الساعة عندي؟

الأول: يا سيدي إن لهؤلاء الدخلاء الغاصبين عيوناً بيننا وهم شرذمة قليلون فكيف لا يكون لنا عيون بينهم ونحن أصحاب البلاد.

الثاني: لعل البريجادير أكس يظن أن الخونة منا أكثر عدداً من غيرهم.

المحافظ: كأنكما علمتما هذا السر من عندهم.

الأول: نعم.. إن لنا عيوناً في العمال الذين لا يزالون يعملون عندهم وفي جنود الموريشان المسلمين وفي بعض الجنود الإنجليز أنفسهم الذين يشتهون أن يذوقوا طعم البيض أو اللحم الطازج أو الخضر والفواكه الطازجة.

اكسهام: كلا هذا كذب!

الأول: إن كان هذا كذباً فمنكم تعلمناه أيها الصادقون!

المحافظ: لقد كنتما مختبئين خشية القبض عليكما فكيف وصل إليكما علم هذا الموعد؟

الأول: يا سيدي إن الشعب كله قد أصبحت قلوب أفراده كأسلاك التليفون يسيل بينها تيار الوطنية فيحمل أخبار العدو وأسراره من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في دقائق أو ثوان..

أكسهام: (يتهيأ للانصراف) ائذن لي يا صاحب السعادة، فقد آن لي أن أنصرف.

المحافظ: وقد آن لكم أيضاً أن تخلوا العمارتين الباقيتين في المدينة فها نحن أولاً قد قبضنا على الفدائيين المطلوبين.

أكسهام: سيكون لنا في ذلك حديث .

المحافظ: إن لم تفعلوا فلن نكون مسئولين عما قد يصيبكم من أمثال هذين الفدائيين.

أكسهام: سأراجع الجنزال أرسكين في ذلك.

الثاني: راجعه في الحال قبل أن تلتمسه يوماً فلا تجده وتبحث عنه في الترعة..

(يخرج أكسهام محاطاً بالبوليس المصري ليحرسوه).

المحافظ: هيه إذن فأنتما الفدائيان المطلوبان؟

الأول: (باسماً) أو تريد يا سيدي أن تشك فينا أنت أيضاً؟

المحافظ: كلا.. كلا.. ولكن من أنتما؟

الأول: مصريان مجاهدان!

المحافظ: نعم.. لكن ما اسمك أنت؟

الأول: اسمي أبو بصير.

المحافظ: أبو بصير من؟

الأول: أبو بصير وكفى.

المحافظ: واسم أبيك؟

الأول: قد نسيت يا سيدي اسم أبي واسم أمي وأسماء أهلي جميعاً منذ خرجت لأقاتل هؤلاء الكلاب الحمر وأطردهم من بلادي. أنا أبو بصير. لا أعرف لي اسماً غير هذا الاسم.

المحافظ: (للثاني) وأنت ما اسمك؟

الثاني: أبو جندل، لا أعرف لي اسماً غير هذا الاسم.

المحافظ: أبو بصير وأبو جندل.. إن لم تخني الذاكرة فهذان اسما صحابيين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.

الأول: أجل يا سيدي المحافظ.

المحافظ: ماذا دعاكما إلى حمل هذين الاسمين؟

الأول: لسنا وحدنا يا سيدي الذين يحملون هذين الاسمين.

المحافظ: ماذا تعني؟

الأول: سنجد كل مجاهد منا يدعي من اليوم فصاعداً إما أبا بصير وإما أبا جندل!

المحافظ: ماذا تقصدون من ذلك؟..

الثاني: لا شك يا سيدي أنك تذكر قصة هذين الصحابيين فلا ينبغي أن يخفى قصدنا عليك، إن لنا فيهما الأسوة الحسنة.

المحافظ: (يهز رأسه متفكراً) أسوة حسنة.

الثاني: نعم إن مثلنا معكم ومع هؤلاء الأعداء كمثل أبي بصير وأبي جندل مع محمد ومع أعدائه من كفار قريش. فحبذا لو وفقكم الله فاقتديتم بهدي محمد كما اقتدينا نحن بهدي أبي بصير وأبي جندل.

المحافظ: تعنون أن تبقى كتائبكم حرة.

الأول: نعم يا سيدي حتى لا تتحملوا تبعة ما تصنع!

المحافظ: لكن الأمر مختلف في الحالين.

الأول: هل لك يا سيدي أن توضح لنا هذا الاختلاف؟

المحافظ: تعلمون أن الرسول لما عقد صلح الحديبية مع كفار قريش قد تعهد لهم في شرط من شروطه بألا يقبل عنده في المدينة أي أحد يهرب إليه من قريش في مكة.. هل خانتني ذاكرتي في ذلك؟

الثاني: كلا يا سيدي.. هذا صحيح.

المحافظ: فلما لحق به أبو بصير في المدينة رده النبي احتراماً للعهد الذي قطعه على نفسه فما لبث أبو بصير أن خرج إلى طريق الشام وانضم إليه أمثاله من الفارين من مكة فأخذوا يعترضون قوافل قريش ويسطون على أموالهم ورجالهم.

الثاني: هذا حق.

المحافظ: ولكن هؤلاء الإنجليز ليس بيننا وبينهم اليوم عهد قائم ولم يعد لهم في المقام ببلادنا حق مشروع بعد إذ ألغينا المعاهدة التي بيننا وبينهم.

الأول: ذلك أولى أن يحملكم على ترك كتائبنا حرة تتخذ ما تشاء من الوسائل لإيذائهم والسطو عليهم وقطع المؤن عنهم حتى يعجلوا بالجلاء عن بلادنا، وبذلك نعفي حكومتنا من تحمل أية تبعة.

المحافظ: ليس ما يمنع حكومتنا من تحمل التبعة إذ لا يربطها بهؤلاء الأعداء عهد قائم.

الأول: لكنها على كل حال لم تعلن الحرب عليهم فكأنها في هدنة معه، كما كان النبي في هدنة إذ ذاك مع قريش.

المحافظ: هذا حق ولكن أبا بصير وجماعته كانوا إذ ذاك في حكم الخارج على القانون، لا سلطان لأحد الفارين عليهم، أما أنتم فهل تنكرون أنكم خاضعون لسلطان حكومتكم القائمة؟

الأول: كلا يا سيدي بل نحن خاضعون كل الخضوع لحكومتنا الرشيدة وما نقوم بجهاد الأعداء إلا تحت لواء العز والاستقلال الذي نشرته الحكومة يوم أعلنت للعالم كله إلغاء معاهدة الذل والاحتلال، غير أن أبا بصير وجماعته كانوا أيضاً خاضعين في الحقيقة لسلطان محمد وهم ما خرجوا من مكة إلا في سبيل محمد.

المحافظ: هذا صحيح ولكنهم كانوا في الظاهر على الأقل خارجين على القانون.

الأول: فلنكن نحن أيضاً في الظاهر فقط خارجين على القانون حتى نستطيع أن نقوم لحكومتنا بمثل ما قام به أبو بصير وجماعته لحكومة محمد.

المحافظ: لكن حكومتنا قد احتضنت فكرة إنشاء كتائب التحرير من أول الأمر بل تستطيع أن تقول إنها هي التي أوحت بهذه الفكرة السامية.

الأول: هذا لا يمنع الحكومة من أن تتركها حرة تعمل تحت لوائها دون أن تسيطر عليها كما لم يمنع محمداً من ترك كتيبة أبي بصير حرة إنه هو الذي أوحى لأبي بتلك الفكرة.

المحافظ: مبلغ علمي أن النبي لم يوح بها لأبي بصير.

الثاني: كلا يا سيدي بل هو الذي أوحى بها إذ قال عن أبي بصير على مسمع منه: "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد!".

المحافظ: هذا جميل يا ولدي.. غير أن الحكومة تريد أن تساعد في تنظيم كتائبكم وتزويدها بكل ما تحتاج إليه، لتكون أقدر على الاضطلاع بمهمتها الوطنية السامية.

الأول: تستطيع حكومتنا الرشيدة أن تساعد الكتائب كما تشاء، وتزودها بما تشاء، دون أن تتقيد في ذلك بأية تبعة، فذلك خير لها ولتلك الكتائب، وإلا فما الفرق في نظر هؤلاء الأعداء والدول الموالية لهم بين أن تحاربهم الحكومة بفرق جيشها أو بهذه الكتائب؟

المحافظ: لكن الحكومة لا تأمن إذا تركت الكتائب وشأنها أن يندس بين مجاهديها المخلصين من شباب البلاد بعض المفسدين لحساب أنفسهم ممن يعملون لحسابهم أو في غير سبيل وطنهم فيلحقوا بقضيتنا أبلغ الضرر.

الثاني: يا سيدي.. إن نار الجهاد لتحرق من يتلاعب بها، وهي كفيلة بأن تنفي عنا هؤلاء الخونة والمنافقين كما ينفي الكير الخبث، أرسلوا كتائب الشبان حرة تنطلق إلى الموت وتتبارى إلى الاستشهاد في سبيل الله والوطن، فإذا برق البصر ولمع الشرر وعز المفر، وخفي النداء، وآن الفداء، فسينكشف يومئذ كل ذي غرض، وكل من في قلبه مرض، فإن هؤلاء لأحرص على الحياة من أن يواجهوا الموت بغير عقيدة ولا إيمان.

المحافظ: ما أحسن يا ولدي ما قلت! لا أكتمكما أنني شديد الإعجاب بشجاعتكما أولاً وبصدق لهجتكما وقوة حجتكما ثانياً، وبإيمانكما وإخلاصكما ثالثاً، ولوددت والله لو كان في وسعي أن أطلق سراحكما لتمضيا في جهادكما لولا أنكما وثبتما على الجنود الخمسة وهم في طريقهم إلينا في مهمة رسمية بعدما تعهدنا بحمايتهم ثم لم تكتفيا بذلك حتى ارتديتما زي البوليس الرسمي واقتحمتما مكتبي اليوم بغير استئذان.

الأول: يا سيدي.. أما وثوبنا على أولئك الأعداء فما خرجنا من ديارنا وودعنا أهلينا إلا لذلك، وأما اقتحامنا مكتبك فقد عرفت عذرنا فيه، فما قصدنا إلا خدمتك.

المحافظ: يعز علي أنني لا أستطيع قبول هذا العذر بصفتي الرسمية، ولا مناص على محاسبتكما على كل ما ارتكبتماه.

الأول: افعل يا سيدي ما تراه.

الثاني: أجل يا سيدي.. افعل ما تراه.. فقد خرجنا لنستقبل الموت فكل ما يصيبنا دونه هين.

المحافظ: حياكما الله يا ولدي.. لن يضام شعب النيل، وفي أبنائه أبو جندل وأبو بصير.

 "ستار"

         

*مجلة الدعوة في 5 ربيع الأول 1371