اللهم حوالينا ولا علينا

من المسرح السياسي (10)

اللهم حوالينا ولا علينا

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

         

-1-

(في ديوان الإقامة العامة بتونس. المقيم العام يستقبل وفداً من أعيان المدينة ووجهائها.)

المقيم: مرحباً بكم، وإن كنت أكره هذا التظاهر والتجمع وإرسال الوفود!

لسان الوفد: نحن وفد سلام وخير يا صاحب الفخامة.

المقيم: وهل كنت أستقبلكم لولا ثقتي بولائكم لفرنسا، وحسن إدراككم لمصلحتكم ومصلحة بلادكم الحقيقية؟ ولكن هذا التظاهر منكم سيدفع الناس إلى القيل والقال، وقد يجرئهم على الشكوى والشغب.

لسان الوفد: بل جئنا يا صاحب الفخامة لنساعد على الحيلولة دون وقوع هذا المحذور. لقد شاع في الناس أنكم سترفضون المعونة المالية التي قررتها الجامعة العربية لإغاثة المنكوبين بالمجاعة في هذه البلاد، فرأينا أن الجدير بحسن سياستكم أن تصدروا بياناً لتكذيب هذه الإشاعة.

المقيم: ويلكم.. أقد مستكم عدوى الاعتراض على أوامر الحكومة وقراراتها؟

لسان الوفد: كلا.. إننا لا نعترض على شيء، وإنما نؤدي ما علينا من واجب النصح، فلو أصدرتم هذا البيان لماتت الإشاعة الخبيثة!

المقيم: لكن هذه ليست إشاعة لقد قررنا فعلاً أن نرفض تلك المعونة كما رفضنا مثلها في العام الماضي.

لسان الوفد: هلا تراجعون الحكومة في هذا القرار؟ فإن المجاعة قد أخرجت النفوس من صوابها، فلا يؤمن أن تثور ثورة اليأس على من يحرمها معونة إخوان لهم في الخارج.

المقيم: دعهم يثوروا فسنعرف كيف نكبح جماحهم! إن علينا أن نعلمهم المعنى الصحيح للوطنية ولو بالقوة، حتى يفهموا أن استمساكنا بحرية البلاد واستقلالها هو الذي حملنا على رفض هذه المائتي ألف جنيه، لأننا نعتبرها ذريعة للتدخل في شئون تونس من دول أجنبية!

لسان الوفد: لكن هنا لا يعتبرون الدول العربية من الدول الأجنبية التي تطمع في بلادهم!

المقيم: هذا ما يجعل خطر هذه الدول العربية أشد وأعظم، ويجعل مهمتنا في مكافحتها وإحباط مساعيها أشق وأصعب. أواه! متى يفهم التونسيون والجزائريون والمراكشيون أن الجامعة العربية تريد أن تبتلع بلادهم، وتفرض عليهم نفوذها وسيطرتها؟

لسان الوفد: ليس هذا في الإمكان يا صاحب الفخامة، فقد عرف المغاربة جميعاً مبادئ الجامعة العربية وجهودها لتحرير العرب والدفاع عن حقوقهم، وأن ميثاقها يعترف لكل دولة بكيانها، ويمنع التوسع من بعض دولها على حساب بعض، فخير لفرنسا أن تعترف بهذه الحقيقة فتخطب ود الجامعة العربية، وتحاول الاتفاق معها على ما فيه مصلحة هذه البلاد. وحبذا يا صاحب الفخامة لو كان قبول هذه المعونة أول خطوة تخطوها فرنسا في هذا السبيل.

المقيم: كلا، لقد قررنا رفضها وكفى، إن هؤلاء العرب قوم وقحون، فإنهم ما اتعظوا بالموقف الوطني الرائع الذي وقفته حكومة تونس في السنة الماضية إذ رفضت قبول معونتهم، ومنعت الباخرة المصرية من الرسو بمياهها وإرغامها على الانسحاب إلى مالطة. وهاهم يعودون اليوم لمثل هذا العمل ولا يرتدعون. فماذا يكون حالهم معنا لو أننا اعترفنا لهم بحق التداخل في شئون بلاد المغرب! قوم لا تزال القوات الإنجليزية تحتل بلادهم، وهم مع ذلك يريدون أن يستعمروا الآخرين!.. يحاولون استعمار السودان، وليبيا، وتونس والجزائر، ومراكش.. ومن يدري لعلهم يطمعون في فرنسا أيضاً بعد ذلك! حمق وجهل واستهتار بحقوق الأمم ومواثيق الدول!

لسان الوفد: لا تؤاخذني يا صاحب الفخامة إن قلت لك إن هذه صورة للجامعة غير صحيحة، فإذا أخذت بها فرنسا فإنها لا تضر إلا نفسها.

المقيم: إن فرنسا لا تنخدع وهي تعرف عن الجامعة كل شيء. فلدينا مكتب سري في قلب القاهرة يطلعنا على أسرار دول الجامعة أولاً بأول. ونحن الذين قضينا على الفاشية الطاغية في أوربا، لن نترك هذه الفاشية العربية حتى نقضي عليها.

لسان الوفد: من الصعب يا صاحب الفخامة مقارنة الحركة العربية بالفاشية في أوربا.

المقيم: بل هما من معدن واحد. كلتاهما نبذت الدين وأغرقت في اعتناق العنصرية.

لسان الوفد: إن العرب لم ينبذوا دينهم يا صاحب الفخامة.

المقيم: بل نبذوه وطرحوه، واعتنقوا الفاشية العربية. ألم تروا كيف تآمروا على فرنسا حتى أخرجوها من سوريا ولبنان، لا لشيء إلا لأن فرنسا كانت حريصة على أن يحتفظ السوريون واللبنانيون بدينهم: المسلمون بإسلامهم، والمسيحيون بمسيحيتهم. فقد أصبحوا اليوم خليطاً لا حدود بينهم ولا فوارق، وصار الشاعر المسيحي يمدح نبي الإسلام ويشيد بمجده ودينه، والشاعر المسلم يمدح المسيح ويمجد المسيحية. أرأيتم استهتاراً بالدين أكثر من هذا ؟ أفيريدون منا أن نسكت لهم حتى يدخلوا هذه الفاشية إلى بلاد المغرب ليقضوا على إسلامها الصحيح وتمسك أهلها بدينهم.

لسان الوفد: إنكم لشديدو الحرص على الإسلام!

المقيم: لم لا؟ إن الإسلام لدين معقول، فقد أمر بطاعة أولي الأمر، ونحن أولو الأمر في هذه البلاد، فعلى أهلها طاعتنا بحكم دينهم. ويأتي أعداء الإسلام من عرب المشرق ليغروا المغاربة بالخروج على أولي أمرهم لينسلخوا بذلك عن دينهم. كلا والله لا نمكنهم من القضاء على الإسلام في بلاد المغرب. نحن حماة الإسلام في هذه الديار. وسنظل نحميه إلى الأبد. ولن تتكرر مأساة سوريا ولبنان!

-2-

(المقيم العام والكاتب العام ورئيس الوزارة)

المقيم: ما رأيك يا مسيو كعاك في الوفد الذي جاءني أمس؟

الكعاك: قوم لا غبار عليهم ولا يشك في إخلاصهم وولائهم للحكومة.

الكاتب: ماذا تنتظر من الكعاك أن يقول عن هؤلاء الأغبياء إلا خيراً؟ إن ترد نصيحتي فحذار أن تثق بتونسي أبداً.

الكعاك: إن صاحب الفخامة استشارني والمستشار مؤتمن وله بعد ذلك أن يقبل رأيي أو رأيك.

الكاتب: أراك تنتهز كل فرصة لتظهر نفسك في منزلة مساوية لمنزلتي!

الكعاك: ما أراني في حاجة إلى ذلك وقد سوى بيننا قانون المشاركة في الحكم ولكني أراك تنتهز كل فرصة لتظهر نفسك أعلى منزلة مني!

الكاتب: أنا أعلى منزلة منك على رغم أنفك!

المقيم: كفى من هذه الملاحاة فما هذا بوقتها. إن أمامنا مسالة خطيرة.. يظهر أن رفض معونة الجامعة العربية قد أثار في نفوس الناس السخط الشديد على الحكومة. وأن رجال الوفد كانوا على حق فيما أنذرونا به.

الكاتب: لقد أظهر الناس مثل هذا السخط في العام الماضي ثم سكتوا.

المقيم: لكن سخطهم اليوم أشد وأعظم.. أليس كذلك يا مسيو كعاك؟

الكعاك: أخشى إن قلت رأيي أن أزعج سعادة الكاتب العام!

المقيم: كلا لا تخشَ هنا شيئاً قل رأيك بصراحة تامة.

الكعاك: فرأيي هو رأي فخامتك. إن سخطهم اليوم أشد وأعظم وقد يؤدي إلى انفجار.

المقيم: فماذا تقترح يا مسيو كعاك لتلافي هذا الخطر؟

الكعاك: المبادرة بإقامة صلاة الاستسقاء العامة. فهذه المظاهرة الدينية هي التي ستسكن النفوس الثائرة وتقطع ألسنة الشكوى من الداخل والخارج.

الكاتب: ليس عندك إلا هذا الاقتراح السخيف. تكرره في كل مناسبة.

الكعاك: اعرض أنت اقتراحك ولصاحب الفخامة أن يختار.

المقيم: يعجبني منك يا مسيو كعاك فهمك للسياسة الجديدة التي شرعت فرنسا تجري عليها.

الكعاك: مقاومة القومية العربية بالتظاهر بمناصرة الإسلام!

المقيم: أجل..

الكعاك: لا تعجب يا صاحب الفخامة. فعندي نسخة من تقرير (معهد الشؤون الإسلامية بباريس) الذي يوصي باتباع هذه السياسة.

الكاتب: أذكر أن هذا التقرير كان في مكتبي ثم افتقدته، فلا ريب أنك أنت الذي اختلسته مني!

الكعاك: لا داعي لهذا التلفيق. إن شئت أعرتك النسخة التي عندي لتطلع على هذا التقرير الهام وتكون على علم به! ولكن إياك أن تظن أن مجرد اطلاعك عليه سيجعلك مثلي في القدرة على تطبيقه. هل تظن أنه ذكر صلاة الاستسقاء مثلاً؟

الكاتب: لا ريب أنك نقلت هذا الاقتراح منه.

المقيم: كلا، لم يرد لهذا الاقتراح ذكر في التقرير.

الكعاك: هذا من تخريجي أنا، وحسن تطبيقه لقواعده، وفهمي لروحه..

الكاتب: إنني أعترض يا صاحب الفخامة على العمل بهذا الاقتراح.

المقيم: أمن أجل كرهك للكعاك ترفض اقتراحه المفيد؟

الكاتب: كلا يا صاحب الفخامة ولكني سألت أحد المشايخ الفقهاء عن هذه الصلاة، فأكد لي أنها ستسبب نزول الغيث حقاً وزوال القحط والمجاعة.. وهذا مما يهدد مصلحة فرنسا ويتعارض مع سياستها العليا.

المقيم: ما تقول في هذا يا مسيو كعاك؟

الكعاك: قد يخشى هذا حقاً يا صاحب الفخامة لو يؤمهم في الصلاة رجل مسلم. ولكنك أنت الذي ستصلي بهم، فنأمن بذلك هطول المطر، ونؤكد في الوقت نفسه ولايتك للأمر من حيث إن ولي أمر المسلمين هو الأجدر بأن يؤمهم في مثل هذه الصلاة.

المقيم: ما ألمع ذهنك يا مسيو كعاك!

الكعاك: ما هذا بعجيب يا صاحب الفخامة، وإنما العجب هو تمكنك من حذق صلاة الاستسقاء في مثل هذه المدة الوجيزة، وأنت فرنسي بعيد عن هذه الشعائر الإسلامية!

المقيم: لقد بذلت جهداً كبيراً في تعلمها، كما لا أنسى فضل المشايخ الفقهاء الذين تولوا تعليمي وتلقيني.

الكعاك: إني أراهن على أن سعادة الكاتب العام لو حاول أن يتعلم صلاة الاستسقاء لاحتاج في ذلك إلى أعوام عديدة!

الكاتب: أمسك لسانك عني يا لكع، وإلا...

المقيم: لا شجار عندي ولا خصام.

-3-

(خلاء واسع جنوبي المدينة – يقوم في جانب منه مبنى حكومي صغير يستخدم لأغراض الرقابة والحراسة. وقد اكتظ ذلك الخلاء بالناس الذين جاءوا لشهود صلاة الاستسقاء من كل ناحية وجاءوا معهم بشيوخهم وأطفالهم ومواشيهم الهزيلة استدراراً لرحمة الله. وكانت الصلاة قد قضيت ودهش الناس من تصدي المقيم العام لإمامتهم في الصلاة، وعجبوا من حذقه لذلك بالرغم من لكنته الفرنسية، فظن بعضهم أن المقيم قد أسلم، وعزم بعضهم على الاعتراض على إمامته لولا أن الجميع قد شغلهم عن ذلك كله تلبد السحب في السماء بينما كان المقيم العام يدعو الله بالدعوات المأثورة رافعاً يديه إلى السماء، والكعاك يؤمّن على دعائه في خشوع وابتهال. وإذا الرذاذ يتساقط فيهرع المقيم والكاتب العام والكعاك إلى المبنى الصغير. وينصرف بعض الناس، ويبقى بعضهم فرحين باستقبال المطر يسبحون ويهتفون.)

-4-

(غرفة في المبنى الحكومي الصغير تطل شبابيكها على الخلاء الواسع الذي أقيمت فيه صلاة الاستسقاء).

(يدخل المقيم والكاتب والكعاك وهم ينفضون بلل المطر عن ثيابهم)

المقيم: ويلك يا كعاك.. لقد نزل الغيث حقاً!

الكعاك: (متضاحكاً): هذا ذنبك يا صاحب الفخامة، إذ أديت الصلاة بخشوع عظيم، فلا غرو أن يهطل المطر.

المقيم: إني أراك تضحك.. ليس هذا أوان الضحك ولا موضعه!

الكاتب: قد أنذرتك يا صاحب الفخامة ألا تتبع مشورة هذا الأحمق، فما أطعتني حتى وقع هذا المحذور.

المقيم: ألم تؤكد لي يا كعاك أن المطر لن ينزل؟

الكعاك: كنت على ثقة بأنك غير مسلم، وغير متوضئ، فلا يمكن أن يستجيب الله دعاءك.

المقيم: فها هو ذا المطر قد نزل مدراراً، فماذا تقول؟

الكعاك: لعلك أسلمت يا صاحب الفخامة!

المقيم: اخرس!

الكعاك: ولو سراً يا صاحب الفخامة!

المقيم: لا سراً ولا جهراً.. حذار أن تقول مثل هذا أمام الناس!

الكعاك: لا بد أنك أسلمت من حيث لا تدري!

المقيم: من حيث لا أدري؟ كيف؟

الكعاك: جائز أن طيف الإسلام جاء إليك فاعتنقته وأنت نائم!

المقيم: ماذا تقول ويلك؟

الكاتب: يا صاحب الفخامة إنه يعمد إلى هذه التخريجات السوفسطائية بغية التنصل من تبعته. لقد كان يعلم أن المطر سينزل بهذه الطقوس السحرية التي يزاولها المسلمون، فدعانا إلى إقامتها ليخضر هذا الوادي الجاف، فترعى فيه مواشي البدو وأغنامهم فتخف عنهم المجاعة.. هذه هي المؤامرة التي دبرها هذا التونسي الخائن!

الكعاك: أحلف لك بالله يا صاحب الفخامة إني ما دبرتها، وما كانت مني في تقدير. ونحن على كل حال قد حققنا بهذه الصلاة العامة غرضاً من أغراضنا، وهو الدعاية الطيبة لفرنسا في الداخل والخارج.

المقيم: ولكن هذا الغيث سيعطل ركناً هاماً من أركان سياستنا العليا، ألا وهو إجاعة هؤلاء البدو لاستئصال شأفتهم حتى ينقرضوا كما انقرضت الزواحف في عصور ما قبل التاريخ!

الكاتب: لقد قصد الكعاك خدمة هؤلاء الأعراب من قومه على حساب فرنسا، فهو خائن لفرنسا، ويجب عزله من الوزارة!

الكعاك: لست بمجنون فأوثر خدمة هؤلاء الأجلاف على خدمة مولاتي فرنسا العظيمة!

الكاتب: دعنا من هذا الملق، فقد شبعنا منه.

المقيم: إن أردت الخلاص يا كعاك، ففكر لنا في مخرج من هذا المأزق.

الكعاك: إذا نفذ القضاء على رغم إرادتنا، واعشوشب الوادي، فإني أقترح أن تعلن الحكومة جعل هذا الوادي حمى لها حراماً على غيرها، فترسل ماشيتها وخنازيرها لترعى فيه. وهكذا تستفيد الحكومة دون أن تخاف من مجاعة البدو شيئاً.

المقيم: هذا اقتراح لا بأس به، ولكن يصعب تنفيذه.

الكاتب: بل يستحيل تنفيذه يا صاحب الفخامة. فمن ذا يستطيع أن يحرس الوادي الواسع ويمنع البدو من الرعي في أطرافه؟ إنني أتهم الكعاك بخيانة فرنسا وأطالب بعزله من الوزارة!

المقيم: لا سبيل إلى هذا إلا إذا ثبت أنه تعمد هذه الخطة.

الكعاك: أقسم بالله إني ما تعمدتها يا صاحب الفخامة، وإني لأشد الناس إخلاصاً لفرنسا!

المقيم: قد كان عليك أن تحتاط حتى لا يقع مثل هذا المحذور.

الكعاك: إني في الواقع غير مسئول عما وقع يا صاحب الفخامة.

المقيم: فمن المسئول؟

الكعاك: أنت يا صاحب الفخامة، وهذه البهائم التي تراها في هذا الخلاء!

الكاتب: ويلك يا وقح! أتقرن صاحب الفخامة بالبهائم!

الكعاك: نعم، لأنهما اقترنا في هذا السبيل... كلاهما مسئول عما وقع اليوم.

الكاتب: هل تسمع يا صاحب الفخامة ما يقول؟

المقيم: على الكعاك أن يفسر لنا هذه التقليعة..

الكعاك: أنت مسئول يا سيدي لأنك صليت صلاة لا يستطيع شيوخ المسلمين أنفسهم أن يؤدوا مثلها! وهذه البهائم تشاركك في المسئولية لأنها هي التي استدرت عطف السماء ورحمتها بما ظهرت به من الضعف والهزال البالغين! ولا أدري كيف لم أفطن إلى هذه الحقيقة من قبل.. إذن لأمرت بتنحية هذه المناظر المؤلمة في وقت الصلاة.

الكاتب: إياك يا صاحب الفخامة أن تنخدع بأعذاره هذه التي يختلقها اختلاقاً.. إنه قد تسبب عمداً في إنزال المطر خيانة لفرنسا، وكيداً لها، فيجب عزله وعقابه!

المقيم: إن المطر يشتد يا كعاك، وإن جرمك ليتعاظم معه.

الكعاك: هل تعفو عني إذا انقطع الساعة هذا المطر؟

الكاتب: أبعد أن شرب الوادي وقضي الأمر؟..

المقيم: لا بأس... سنعفو عنه إذا أوقف المطر الساعة.

الكاتب: لعنة الله على هؤلاء السحرة!..

الكعاك: "يتصفح كتاباً في يده" ويلي!.. كيف غاب عني أن الإسلام قد جعل لكل شدة فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً؟!.

المقيم: ما هذا الكتاب الذي في يدك؟..

الكعاك: كتاب مختصر خليل في الفقه... هأنذا قد وجدت حل المشكلة!.. سينقطع المطر الساعة حالاً!.

المقيم: كيف؟..

الكاتب: قد قلت لك إنهم سحرة!..

الكعاك: لقد اهتديت إلى الدعاء الذي يقطع المطر عن جهتنا، ويصرفه إلى جهات أخرى، فقولا معي: "اللهم حوالينا ولا علينا!"

المقيم والكاتب: اللهم...

الكعاك: اللهم حوالينا... لا علينا... اللهم حوالينا لا علينا!..

الاثنان: اللهم حوالينا لا علينا!

الكعاك: أجل هكذا، دعونا الآن نأمر الناس أن يرددوا معنا هذا الدعاء.

"يطل الثلاثة من شبابيك الغرفة".

الثلاثة: "يصيحون": أيها الناس رددوا معنا هذا الدعاء: اللهم حوالينا ولا علينا!..

صوت "يرتفع من أعماق الوادي": أيها الناس!.. إن هؤلاء الفرنسيين يريدون أن يمنعوا رحمة الله عنكم، فخالفوهم في الدعاء، وقولوا بصوت واحد: اللهم علينا لا حوالينا!..

جموع الأهالي: اللهم علينا لا حوالينا!!..

الصوت: هذه فرنسا قد سلطت عليكم مجاعة الأرض وتريد أن تمنعكم من رحمة السماء فالعنوها، وادعوا عليها في هذه الساعة المستجاب فيها الدعاء!..

الجموع: "يرددون": أهلك فرنسا يا رب!.. أهلكها جوعاً يا رب!.. صب العذاب يا رب!.. على فرنسا يا رب!..

الكاتب: أرأيت يا صاحب الفخامة كيف أوقعنا الكعاك في هذه الورطة!.. كيف أثار علينا هؤلاء الغوغاء؟..

الجموع: أهلك فرنسا يا رب! أهلكها جوعاً يا رب!..

المقيم: ما هذا يا كعاك؟..

الكعاك: سبحان الله... هل أمرتهم أنا بذلك؟.. لقد أردت أن أقطع المطر بهذه الدعوة النبوية ولكنهم أبوا أن يدعوا بها ودعوا بنقيضها... فماذا أصنع؟..

الكاتب: إنهم لم يدعوا بنقيضها فحسب، بل جعلوا يلعنون فرنسا ويدعون عليها بالعذاب والهلاك.. كل هذا كان بتدبيرك!..

الجموع: أهلك فرنسا يا رب! أهلكها جوعاً يا رب!.. صب العذاب يا رب، على فرنسا يا رب؟

صوت آخر: "يرتفع": ويلكم أيها المسلمون!.. هل يهلك الله فرنسا إلا بسواعدكم! أتنتظرون أن يرسل الله لكم جنوداً من السماء لتنقذكم؟.. هاهي ذي فرنسا ببغيها وفجورها ممثلة في هؤلاء الثلاثة المعتصمين من رحمة الله في ذلك الحصن فدونكم فاقتلوهم!..

أصوات الجموع: اقتلوا الثلاثة اقتلوا الكلاب!..

الكاتب: هل سمعت يا صاحب الفخامة كيف ينادون بقتلنا.. إن حياتنا الآن في خطر... كل هذا من الكعاك!..

الكعاك: مني أنا؟

المقيم: أجل.. ما من شيء تقترحه إلا جاءنا بشر!

الكعاك: إنهم لا يريدون قطع المطر عنهم.. ودعاؤنا هو الذي أغضبهم، فإن أذنت لي يا صاحب الفخامة دعوت مثل دعائهم فربما تهدأ ثائرتهم!

المقيم: أتستشيرني في مثل هذا الموقف الحرج؟! افعل ما تشاء. أنقذنا من هذا الخطر بأي سبيل!

الكعاك: (يصيح مطلاً من الشباك): إخواني! يا معشر المسلمين! كان فخامة المقيم العام قد أشفق عليكم من شدة المطر وخشي أن يغرقكم السيل، فأمرنا أن ندعو ذلك الدعاء لرفع هذا البلاء. أما إذ أبيتم إلا الاستزادة من المطر فنحن الثلاثة مستعدون لندعو بمثل ما تدعون اللهم علينا ولا حوالينا!

المقيم: (يصيح مطلاً) اللهم علينا لا حوالينا!

الكاتب (مثله): اللهم علينا ولا حوالينا!

(تتهاوى الحجارة على الشبابيك فينسحب الثلاثة إلى الداخل)

المقيم: إنهم يرجموننا بالحجارة.

الكاتب: لا فائدة من محاولة إيقافهم... إنهم ينوون بنا الشر.

المقيم: لعنة الله عليك يا كعاك لقد أضعت هيبتنا عند هؤلاء الغوغاء!

الكاتب: دعنا نهرب يا صاحب الفخامة قبل أن تضيع حياتنا أيضاً.. إنهم سيهجمون علينا لا محالة.. دعونا ننزل إلى جيادنا قبل أن يستولوا عليها.

المقيم: هيا بنا!.. "يخرج الثلاثة منطلقين".

أصوات الجموع "تتعالى": اقتلوا الكلبين الفرنسيين! اقتلوا الكلب التونسي!.. أحرقوا عليهم الحصن قبل أن يميتوكم جوعاً!

أشعلوا فيه النار لتتخلصوا منهم في تونس كما تخلص منهم إخوانكم في سوريا.

"ستار"