حفلة التكريم الكبرى

من المسرح السياسي (9)

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

       

"في حجرة بمستشفى بور تسموث، يظهر المستر بيفن مسجى على السرير وعلى رأسه عصابة، وعنده الطبيب الذي ضمد له جراح رأسه وهو يغسل يديه عقب عملية التضميد. وقد وقفت ممرضة بين يديه لتناوله المنشفة."

الطبيب: إنه نائم الآن فابقي معه في الحجرة ولا تبرحيها حتى يصحو من تلقاء نفسه.

الممرضة: سمعاً يا سيدي الدكتور (تناوله المنشفة).

الطبيب: لا تأذني لأحد بالدخول عليه فهو بحاجة إلى الراحة التامة (يتحرك المستر بيفن في سريره).

الممرضة: انظر يا سيدي.. إنه يتحرك.

الطبيب (بصوت خافت): بدأ يفيق من غشيته.

بيفن (يفتح عينيه): أين أنا الآن.

الطبيب: (يقبل عليه) في المستشفى يا سيدي ولا بأس عليك.

بيفن: (يضع يده على العصاية التي على رأسه): وما هذا الذي برأسي؟

الطبيب: طهرنا لك الجرح وعصبناه.

بيفن: جرح!

الطبيب: جرح بسيط جداً لا خوف عليك منه.

بيفين: ويلكم.. متى حدث لي هذا؟

الطبيب: ألا تتذكر يا سيدي؟ أنك وقعت من على كرسيك فحملت إلى هنا؟

بيفن نعم تذكرت الساعة.. لعنة الله على بلاكويل! أين ذهب هذا الشقي؟

الطبيب: هو في قاعة الانتظار أسفل.

بيفن: ائتوني به

الطبيب: من الخير أن تدعه الآن يا سيدي وتلزم الراحة

بيفن: (بصرامة): لا تعارض أمري

الطبيب: أدعى الدكتور بلاكويل يا ايلين

الممرضة: سمعاً (تخرج)

بيفن: اسقوني شيئاً فإني عطشان

الطبيب (يملأ له قدحاً من قنينة شراب): تفضل يا سيدي

بيفن (يحاول الجلوس ليشرب): آه.. كل هذا من بلاكويل!

الطبيب: ابقَ يا سيدي كما أنت... سأسقيك إياه.

بيفن: كلا لا أشرب إلا جالساً. أتظنني لا أقوى على الجلوس؟ ماذا تظنني؟ في دور النزع؟

الطبيب: حسناً يا سيدي دعني أساعدك

بيفن (ينحي يد الطبيب عنه) بل سأجلس وحدي. (يجلس فيشرب القدح عباً) شكراً.

الطبيب: هل أزيدك يا سيدي؟

بيفن: حسبي هذا (يمد الطبيب يده ليأخذ القدح منه). دعه معي!

الطبيب: سأعيده إلى مكانه

بيفن: بل دعه معي. سترى الآن ماذا أصنع به.

(يدخل بلاكويل مترفقاً في مشيته وخلفه الممرضة).

بلاكويل: لا بأس عليك يا سيد...

بيفن: لعنة الله عليك! (يقذف بالقدح على بلاكويل فيصيب كتفه ويتحطم القدح على الأرض )

بلاكويل (يقف مرتجفاً): معذرة يا سيدي.. إنني شديد الأسف لما حصل.

بيفن: أجلستني يا مأفون على حافة الكرسي حتى وقعت على ظهري!

بلاكويل: ما حيلتي يا سيدي؟ كان لا بد من التمرين على الجلسة التي ستجلسها أمام الوفد العراقي ولم نجد في الدار كرسياً عالياً يصلح لهذا الغرض. والحمد لله لقد نجحت التجربة ولم تصب إلا بجرح بسيط.

(تجمع الممرضة حطام القدح فتخرج به من الحجرة)

بيفن: لولا ثقتي بإخلاصك لحسبتها مؤامرة ضدي أوعز بها إليك نوري السعيد رغبة في إضعافي حين أقف أمامه عند المفاوضة.

بلاكويل (يهدأ جأشه قليلاً): أعوذ بالله يا سيدي.. محال أن أتواطأ عليك مع (ذي ميزرابل جبسي) حتى ولو ولاني رئاسة الوزارة في بلاده!

بيفن (يقهقه ضاحكاً): ما أظرفك يا دكتور بلاكويل!

بلاكويل: شكراً يا سيدي.. هذا من لطفك.

بيفن: ذي ميزرابل جبسي.. هئ هئ هئ هئ...

الطبيب: لا تضحك هكذا يا سيدي..

بيفن: ما تقول؟ أتريدني أن أبكي؟ أتريدني أن أتمرن على البكاء أمام الوفد العراقي؟

بلاكويل (يقهقه): هذه يا سيدي أظرف من نكتتي وأبدع!

الطبيب: إنما أخشى يا سيدي أن يضرك الضحك.

بيفن: وهل البكاء ينفعني أيها الطبيب البارع؟

بلاكويل: هذه نكتة أخرى لا بأس بها!

الطبيب: إن أي حركة قد تضرك فأنت بحاجة إلى الهدوء التام.

بيفن: تريد أن تمنعني من الحركة؟ أمتواطؤ أنت أيضاً مع ذي ميزرابل جبسي؟

الطبيب: مَنْ ذي ميزرابل جبسي هذا؟ إني لا أفهم يا سيدي شيئاً مما تقول.

بيفن: أما تعلم أني سأفاوض الوفد العراقي الليلة؟ أم تريدني أن أدعوهم ليفاوضوني عندك هنا في المشفى؟

بلاكويل: وهذه أبرع وأظرف!

الطبيب (يحاول ضبط أعصابه): لكن يا سيدي لا ينبغي أن تقوم الليلة بأي مجهود شاق.

بيفن: ويلك.. إن لم أقم الليلة بمجهود شاق فمتى؟ ألا تعلم أني سأبني الليلة أساس الصرح الشامخ؟

الطبيب: الصرح الشامخ.

بيفن: قل له يا دكتور بلاكويل ما الصرح الشامخ

بلاكويل: صرح الدفاع المشترك بين بلادنا ودول الشرق الأقصى!

بيفن: الشرق الأوسط ويلك؟

بلاكويل: الأوسط أم الأقصى؟. نعم نعم.. الأوسط.. الأوسط.. اعذرني يا سيدي إن أخطأت فليست الجغرافيا من اختصاصي.. كنت أكرهها جداً في المدرسة.

الطبيب: ألا يمكن تأجيل موعد الاجتماع يا سيدي ولو إلى مساء الغد؟

بيفن: كلا.. هذا محال. سيعدونه تراجعاً منا. وماذا بي الآن؟ ألستم عصبتم رأسي وكفى؟

بلا كويل: يجب ستر هذه العصابة يا سيدي بقبعة كبيرة حتى لا يراها القوم؟

الطبيب: لكن يا سيدي يجب أن ترتاح الليلة

بيفن: أنا أستريح! كلا.. إن الذي ينبغي له أن يستريح إنما هو المستر اتلي لا أنا

الطبيب: لكن يا سيدي..

بيفن: كفى اعتراضاً علي!.

(يدخل المستر أتلي)

بيفن: أنت هنا يا مستر أتلي! ماذا جاء بك إلى لندن؟

أتلي: جئت لأطمئن عليك، فقد صعقت لما بلغني الحادث.

بيفن: أشكرك.. لا داعي لكل هذا القلق فأنا بخير.

أتلي: هل في وسعك الليلة أن تشهد المفاوضة أم...؟

بيفن: كيف لا أشهدها؟ أتظن أن في وسعك أن تفاوضهم مكاني؟ كأنك جئت هنا لهذا الغرض؟

أتلي: كلا يا مستر بيفن.. ما من أحد يجزئ عنك.. ولكن في الإمكان تأجيلها حتى تستعيد قواك

الطبيب: أجل يا مستر أتلى: أقنع المستر بيفن بوجوب البقاء هنا ولو ليلة واحدة، فإني أخشى عليه من الحركة.

بيفن (منفعلاً): أتريدون أن توهموني بأني ضعيف لا أقوى على الحركة؟ (ينهض عن سريره بقوة) ويلكم.. أنا أتحدى أي واحد منكم أن يصارعني الآن!.

بلاكويل: من شاء أن يجرب فليفعل. أما أنا فأنا مقتنع بقوتك!

أتلي: أنا أيضاً مقتنع بذلك ولكني متطير من السقطة التي سقطتها من على كرسيك في هذه المدينة. ولذلك أرى أن نؤجل المفاوضة، ونعقدها في لندن، بدلاً من بورتسموث المشؤومة.

بيفن: دعني من وساوسك هذه، فلو كنت خرافياً مثلك لما أنجزت في حياتي عملاً قط.

-2-

     (عقب توقيع المعاهدة في بورتسموث)

أتلي: أهنئك يا مستر بيفن على هذا النجاح العظيم

بيفن: أهذا كل ما تستطيع قوله في هذه المناسبة؟ فأين ذهبت شاعريتك؟

أتلي: أنَّى لشاعر – مهما كان عظيماً – أن يوفى هذا النجاح حقه من الإشادة والتقريظ؟

بيفن: (يبتسم راضياً): بورك فيك، فهل أنجزت القصيدة التي اقترحتها عليك في مدح الوفد العراقي؟

أتلي: قد نظمت معظم أبياتها، وما بقي علي إلا أن أختمها.

بيفن: أرجو أن تكون رائعة.

أتلي: ستسمعها في حفلة التكريم الكبرى، وسترى كيف تلهب الأكف بالتصفيق.

بيفن: لتفخر الإمبراطورية بي وبك، أنا باني الصرح الشامخ، وأنت الشاعر الذي يخلده!

أتلي: (بصوت خافض) ترى أيهما أبقى على الزمن: الصرح أم الشعر؟

بيفن: ماذا تقول؟

أتلي: لا شيء يا مستر بيفن، إنما حدثت نفسي بأنك أنت الأصل وأنا الفرع.

(يعزف السلامان الملكيان البريطاني فالعراقي فيقف الحاضرون إجلالاً ثم يجلسون).

 -  3 -

(في فندق دورشستر بلندن حيث تقام الحفلة الكبرى لتكريم الوفد العراقي وقد حضرها لفيف من أعضاء مجلسي العموم واللوردات وكبار الساسة البريطانيين وبعض كبراء العرب الموجودين في لندن، يرى في صدر المكان العلمان البريطاني والعراقي مرفوعين.)

مدير الحفلة: (على الميكروفون) سيداتي سادتي.. لي الشرف بأن أقدم إليكم دولة رئيس الوزراء المستر كليمنت أتلي ليلقي قصيدته الرائعة.

(تدوي القاعة بالتصفيق بينما يتقدم المستر أتلي في تؤدة ليعتلي المنصة)

نائب معارض (ينهض من مجلسه): إني أعترض بشدة على هذه البدعة السخيفة، فليس من تقاليدنا أن نفتتح الحفلة الرسمية بقصائد من الشعر. وأسخف من ذلك أن يقوم رئيس وزرائنا بإلقاء قصيدة من شعره في حفلة دبلوماسية!

بيفن: (يقوم من مقعده) أيها السادة إني لأشعر بالرثاء لخصومنا هؤلاء الذين ضاقت بهم ميادين النقد والتجريح لأعمالنا، فأخذوا يتجنون علينا، ويتمسكون بهذه الشكليات التافهة.

المعارض: ألا تعترف معي بأن هذه بدعة خارجة على تقاليدنا في الحفلات الرسمية؟

بيفن: إننا حزب تجديد وإصلاح، نؤثر الابتكار الصالح على التشبث الأعمى بالتقاليد الشكلية البالية، وإن دولة رئيسنا رجل وهبه الله ملكة الشعر فلم لا يظهر عبقريته في الترحيب بضيوفنا الكرام؟

المعارض: لكنا ما جئنا ولا جاء ضيوفنا الكرام للاستماع إلى آيات شعره.

بيفن: لو علم النائب المحترم أن العرب ميالون إلى سماع قصائد المدح في حفلاتهم لما كدر صفو حفلتنا هذه بهذا الاعتراض الذي لا وجه له، وفي وسع ضيوفنا الكرام أن يؤيدوا مقالي هذا.

نوري السعيد: الواقع أننا معشر العرب نطرب للشعر ونعجب به، ولا يسعنا إلا أن نشكر لدولة رئيس الوزراء عنايته البالغة بمراعاة شعورنا.

بيفن: تفضل يا مستر أتلي.

أتلي: (على المنصة يلقي من ورقة في يده) قلت للتايمز مالي أراك تضطرب؟

      أجزعاً من غارات الألمان؟

      أم جذلاً بدولارات الأمريكان؟

      أم خوفاً من الخطر الأحمر الذي يقترب؟

      أجاب التايمز بلسان فصيح: كلا فالألمان قد بادوا فأمنَّا غاراتهم.

      والأمريكان قد نفد ما أقرضونا من دولاراتهم.

      أما الروس فالليث لا يفرق من دب يصيح!

(تصفيق حاد)

      قلت له: فعلامَ تهتز وتضطرب؟

      قال: فرحاً بوفد دجلة والفرات.

      يحمل منهما إليَّ أخلص التحيات.

      ويؤكد للبريطانيين صداقة العرب!

(تصفيق)

    أهلاً وسهلاً بوفد العراق النبيل.

    لقد بنى معنا أساس الصرح الشاهق.

    صرح عظيم بفضل بانيَيْهما: (جبر) و(بيفن) ناطق.

    يبقى على الدهر جيلاً بعد جيل! (ينزل عن المنصة بينما تضج القاعة بالتصفيق)

    هتافات: تحيا بريطانيا والعراق! تحيا معاهدة بورتسموث

 مدير الحفلة: سيداتي سادتي يتقدم الآن باني الصرح الشاهق المستر أرنست بيفن ليلقي كلمته

(تصفيق)

بيفن (يعتلي المنصة): حضرة رئيس الوفد العراقي الأفخم..

     حضرات أعضاء الوفد المحترمين.

     حضرات السيدات والسادة.

إنني طول عمري رجل عملي أؤمن بالواقع وأنفر من الشعر، لاعتقادي بأن الشعراء قوم فارغون، يقولون ما لا       يفعلون، وفي أودية الأوهام يتيهون، بيد أن الليلة فقط وددت لو كنت شاعراً لأكون أقدر على التعبير عما يخالج       قلبي من السرور العظيم والترحيب العميق بضيوفنا الأعزاء أعضاء الوفد العراقي النبيل. (تصفيق) ولعل عزائي     الوحيد أن رئيسنا المحبوب وشاعرنا الموهوب المستر أتلي قد ترجم بقصيدته الرائعة عما يختلج في صدرونا جميعاً (تصفيق)

سيداتي سادتي، لقد أوضحت في البيان الذي ألقيته أمس بمجلس العموم أن هذه المعاهدة العراقية- البريطانية التي     اقترنت باسم تلك المدينة المجيدة بورتسموث تعني أكثر من معاهدة جديدة بين العراق وهذه البلاد، إذ تهدف إلى حل مشاكل الشرق الأوسط كلها جملة واحدة، وتكوين جبهة قوية متحدة للدفاع عن سلامة ذلك الجزء الهام من العالم الذي كان ولا يزال ضرورياً لصون مصالحنا ومواصلاتنا الإمبراطورية فإذا ما دق ناقوس الخطر وقدر للشعوب الديمقراطية أن تنتصر كرة أخرى في الصراع العالمي القادم، وتنقذ الحضارة البشرية من الدمار، وتصون الحرية والكرامة الإنسانية من الطغيان الدكتاتوري الجديد، فسيكون الفضل الأول في ذلك لهذين البلدين المجيدين العراق وبريطانيا!

(يسقط فجأة العلم البريطاني المرفوع في صدر المكان فيتطير الحاضرون ويتهامسون)

بيفن: لا تتشاءموا ولا تتطيروا فإنما اهتز هذا العلم البريطاني وغلبه الخشوع فخر راكعاً ليؤكد لزميله العلم العراقي أنه لن يتعالى عليه يوماً من الأيام، بل سيكون دائماً صديقاً مخلصاً متواضعاً مستعداً في كل لحظة أن يبرهن للشعب العراقي وسائر الشعوب العربية على إخلاص بريطانيا في صداقتها لهم، ورغبتها الحقيقية في التعاون معهم على أساس المساواة التامة لصون السلام المشترك في ذلك الركن الحيوي من العالم!

(تصفيق حاد)

المعارض (ينهض): أنا لا أؤمن بالخرافات، فالحق أن العلم البريطاني لم يسقط من مكانه الليلة إلا لأن الذي رفعه قصر في تثبيته. فيجب أن يحاسب على عمله. أما وقد سرت إلى المستر بيفن عدوى الشاعرية من رئيسه فحلا له أن يعلل هذا الحادث ذلك التعليل الطريف، فاسمحوا لي أن آتي بتعليل لا يقل طرافة عما أتى به المستر بيفن بل يفوقه انطباقاً على الواقع. إن هذا العلم لم يجد طريقة أبلغ من السقوط على وجهه أمام الأشهاد للتعبير عن سخطه الشديد على هذه المغامرة الجديدة التي يقوم بها المستر بيفن في سياسة الشرق الأوسط دون أن يتثبت من إمكان نجاحها.

بيفن: هذا تعليل طريف حقاً لولا أن نجاح ما تسميه بالمغامرة ليس ممكناً فحسب، بل هو أمر مؤكد. إن معاهدة بورتسموث – وليقل خصوم الحكومة ما شاءوا - لهي حل سعيد، وفاتحة عهد جديد.

(تصفيق)

المعارض: كان يكون هذا صحيحاً لو قدر لهذه المعاهدة النجاح.

بيفن: فقد قدر لها النجاح وقضي الأمر!

المعارض: بل كتب عليها الإخفاق وقضي الأمر!

بيفن: تذكر أنه قد تم التوقيع عليها من الجانبين.

المعارض: نعم قد تم التوقيع عليها في بورتسموث، ولكن ما يدريك ألا يكون مصيرها التمزيق في بغداد؟

نوري السعيد: ليسمح لي حضرة النائب المحترم أن أطمئنه بأن المعاهدة قد تم الاتفاق عليها في بغداد قبل توقيعها في بورتسموث.

المعارض: وليسمح لي عضو الوفد العراقي المحترم أن أتم مناقشتي لوزير خارجيتنا صاحب المغامرة الجريئة. فقد كان على المستر بيفن ألا يذيع على العالم بيانه التاريخي أمس حتى يتأكد من أن الذين تركهم أعضاء الوفد العراقي في بلادهم لن يرموا هذه المعاهدة في وجوهنا!

أصوات: اسكت! اسكت!

المعارض: ليعلم أعضاء الوفد العراقي أننا لا نقبل مطلقاً أن تصير تصريحات وزير خارجيتنا أضحوكة للعالم!

بيفن: لقد حرت أيها السادة في فهم ما يعني حضرة النائب المحترم.

المعارض: نريد أن يكون الوفد الذي يأتي لمفاوضتنا وفداً صحيحاً يملك الحل والعقد ويمثل الشعب العراقي، لا وفداً مفتعلاً لا يمثل إلا نفسه!

صالح جبر: إنني أحتج على هذا التجريح الذي لا حق لنائب مسؤول أن يوجهه إلى وفد دولة أخرى ذات سيادة!

المعارض: معذرة فما قصدي تجريحكم، بل تنبيهكم إلى أن أكبر رأس في بلادكم قد جرحكم وأنتم لا تعلمون!

نوري السعيد: ماذا تعني؟ إن سمو الوصي على العرش ليؤيدنا كل التأييد.

المعارض: أنا لا ألومكم وأنتم في غير بلادكم أن يفوتكم ما نشرته روتر الساعة، ولكني ألوم وزير خارجيتنا ألا يطلع على النشرة قبلي!..

بيفن: قد شغلتني هذه الحفلة ولكن أي شيء في النشرة يقتضي هذا الاهتمام الكبير؟

المعارض: (يلوح بالنشرة في يده): هذا الوصي على العرش يقول للشعب الهائج: إنه لن يوافق على معاهدة لا تحقق السيادة الكاملة للعراق!

(يسلم النشرة لبيفن)

صالح جبر: هذا لا يمكن أن يكون.

نوري السعيد: إن صح هذا فلعل الوصي يريد تهدئة الشعب الذي لم يفهم المعاهدة على وجهها إلى أن نعود إلى البلاد فنشرح لهم مزاياها.

بيفن (مربد الوجه): دسيسة من موسكو لا ريب!

نوري السعيد: أؤكد لكم أيها السادة أن هذه الزوبعة التي أثارتها شرذمة من خصوم الحكومة الحاضرة في بلادنا لا تلبث أن تنقشع حين نعود إليها فنشرح للشعب المخدوع حقيقة المعاهدة الجديدة.

بيفن: إذن فالبدار البدار بالرحيل، غير مطرودين ولا مودعين..

نوري: ليس في الأمر ما يقتضي هذه العجلة.

بيفن: كلا بل لا بد من التعجيل بالسفر قبل أن يتفاقم الأمر. إني أعلم أنكم قد ارتبطتم بمواعيد لحضور حفلات أخرى ستقام لكم في هذه البلاد، ولكن لا بأس أن تعتذروا عن حضورها إلى أولئك الداعين.

صالح جبر: (غاضباً): ثق يا مستر بيفن أننا لسنا بحاجة إلى هذه التنبيه منك!

بيفن: إنما قصدي أن تبادروا لإنقاذ مشروعنا العظيم من الخطر أما حفلات التكريم فمحفوظة لكم في فرصة أخرى.

صالح جبر: أرجو أن تتروى في كلامك، فلسنا ممن تفتنه حفلات التكريم.

بيفن: إنني رجل صريح، فإن وجدتم في كلامي ما تحسبونه ماساً بكرامتكم فإني مستعد للاعتذار.

أتلي: أرجو أن نعتبر ما كان كأن لم يكن، فلنستمر الآن في حفلتنا، وليلق من له الكلمة كلمته..

مدير الحفلة: الكلمة لحضرة صاحب الدولة رئيس الوفد العراقي..

(تصفيق)

صالح جبر: (في مكانه لم يتحرك): سألقي كلمتي في أول حفلة تقيمونها لنا بعد العودة من بلادنا، فقد تفضل المستر بيفن فوعد بأن يحفظ لنا حقنا في تلك الحفلات!

بيفن: هذا كلام لا يخلو من الموجدة علي، ولكني سأؤيده على اعتبار أن هذه الحفلة ستبقى قائمة مستمرة حتى يعود الوفد إلينا بعد إصلاح الحالة في بلاده فنستأنف الحفلة وتكون كلمة السيد صالح جبر مسك ختامها.

المعارض: إذن فربما تمتد هذه الحفلة شهوراً، وربما تبقى مفتوحة إلى الأبد!

نوري: سيعلم حضرة النائب المحترم أن أمدها لن يطول إلا ريثما ترحل بنا الطائرة من لندن إلى بغداد ثم من بغداد إلى لندن.

ينهض صالح جبر للانصراف، فينهض معه أعضاء الوفد.

أتلي: هلا تجلسون قليلاً أيها السادة، فإنكم ما شربتم الشاي بعد..

بيفن: أجل، أتموا شرب الشاي فإن ذلك لن يؤخركم.

صالح جبر: (كاظماً غيظه): سنشرب الشاي في بغداد!

نوري: (يصطنع الابتسام): بل سنشربه هنا بعد العودة.

                                               (ستار)