مع الأديب أحمد الجدع وأسئلة التأصيل

الأديب أحمد الجدع وأسئلة التأصيل

أحمد الجدع

المداني عدادي

.. قد يسبق التنظير – في بعض الأحيان الإبداع.. ولكن في الغالب الأعم يسبق الإنتاج مرحلة التنظير، أو قد يتساوقان معاً، جنباً إلى جنب، من أجل صياغة ديباجة ما، لميلاد مذهب معين، أو لبروز جنس أدبي جديد.. أو حتى تيار فكري منتظر.

والأدب الإسلامي، في حلته الجديدة، أجاب بصدق فني وموضوعي، عن سؤال: ما الأدب الإسلامي الحق؟

إذ كان لا بد له من مواصفات ومن مميزات، وأن تتأسس نظرياته على مقولة محددة تنسجم ومرجعيته الواضحة.

وبانتسابه للإسلام، زادت ضرورة تدقيق مفاهيمه ورؤاه.. وكذا مصطلحاته.. حتى تتناسب وطبيعة هذا الدين الحنيف. ومع مرور الزمن، تحققت التراكمية (الإنتاج) التي تتيح النقد والتنظير، فاستطعنا الحصول على مرتكز فني يبيح لنا القول بأننا أمام أدب متميز.

والدليل على ذلك، هو ما تشهده الساحة الأدبية – اليوم - من سيولة أدبية وفكرية، ومن فيض إبداع ونقاء.. كلها موقعة باسم هذا الأدب الإسلامي الصبوح. لكنها – وبرغم وفرتها - تبقى مجرد بداية، وليست انطلاقة حقيقية لما نروم، ولكي نقف على هذا العطاء المتواصل سألنا الأستاذ أحمد الجدع:

* لو طلبنا منكم إحصاءً موجزاً ومجزأ لأدباء وشعراء الدعوة الإسلامية.. فهل هذا التواجد يتوافق واحتياجات الأمة عبر هذه الواجهة.. أم هناك قصور في جهة ما على حساب أخرى.. ما رأيكم؟؟

* أود قبل أن أدخل في إجابة تفصيلية عن هذا السؤال أن أجلي نقطتين مهمتين:

الأولى: موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعراء الأعداء.

الثانية: مهمة الشعر والشعراء في الحضارة الإسلامية.

وسوف يكون الحديث عن هاتين النقطتين بالغ الإيجاز؛ ذلك لأن تفصيل كل نقطة منهما يحتاج إلى مجال رحب ومقال مطول..

لفت نظري وأنا أقرأ السيرة العطرة للرسول الأعظم – صلوات الله وسلامه عليه - أنه كان حازماً شديد الحزم مع شعراء المشركين، فقد كان عليه السلام – يهدر دماء الشعراء لمجرد تعرضهم ولو مرة واحدة للإسلام وأهله، فقد أهدر دم كعب بن زهير في أبيات من الشعر عاتب بها أخاه بجيرا لأنه أسلم، وقتل كعب بن الأشرف؛ لأنه حض قريشاً بشعره على الانتقام لقتلى بدر.. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل هذا الموقف من رسولنا الكريم كان بسبب ما يمثله الشعر من سطوة على العرب، وتأثير بالغ في نفوسهم، وقد كان الشعر وسيلة الإعلام المؤثرة في ذلك الوقت، وخطورة الإعلام السياسية لا يجهلها أحد..

أما عن مهمة الشعر والشعراء في الحضارة الإسلامية فهي مهمة كبيرة وعظيمة، يدلنا على ذلك اهتمام الرسول بالشعر والشعراء، ودعوته لهم للمساهمة في الدفاع عن العقيدة وأهلها، واتخذ لنفسه شعراء، جعل على رأسهم حسان بن ثابت – رضي الله عنه - وقد أكرم – عليه السلام- الشعراء إكراماً عظيماً، فبالإضافة إلى ما كان يغدقه على حسان، فقد كان يدعو له.. ويسأل الله أن يؤيده، بروح القدس (جبريل)، ثم زاد في الإكرام إكراماً عندما أعطاه سيرين أخت مارية التي أنجبت للرسول ولده إبراهيم.. وأنجبت سيرين لحسان ولده عبد الرحمن..

فالدفاع عن عقيدة الإسلام إحدى المهام الكبرى التي تناط بالشعراء في الحضارة الإسلامية، وهناك أهمية أخرى لا تقل عنها وهي تحسين العقيدة الإسلامية في نفوس أهلها بالشعر الذي يعلق بالقلوب، ويسيطر على النفوس ويأخذ بالألباب.

* * *

هل نحن الآن بحاجة إلى الشعر والشعراء؟ وهل برز في الساحة الإسلامية المعاصرة شعراء حملوا لواء الدفاع عن الإسلام، وقاموا بتزيين مبادئه وشرائعه للناس؟

بعد سقوط العالم الإسلامي في براثن الصليبية المعاصرة، وسيطرتها على وسائل الإعلام بأنواعها، واصطناعها لكل الوسائل القادرة على التأثير في عقول الجماهير المهزومة في ميادين القتال، واستقطابها لعدد غير قليل من ضعفاء النفوس في هذه الأمة، واتخاذها من الشعر والشعراء إحدى وسائل التأثير ومعاول الهدم والتدمير في هذه الأمة، أصبح من الواجب العظيم على الغيورين من شعراء الأمة أن يقوموا بواجبهم نحو دينهم وأمتهم، وأصبح الدفاع بالكلمة الشاعرة واحداً من أعظم الواجبات على أصحاب الحس الشاعري من أبناء المسلمين الغيورين.

وكما يولد الطفل ولد الشعر الإسلامي الحديث، وكما ينمو الطفل نما الشعر الإسلامي الحديث، وكما يشب الغلام شب الشعر الإسلامي الحديث..

كان الشعر الإسلامي في أول عهده مختلطاً مع غيره من الشعر التائه، فكنت ترى شاعراً يقول القصيدة العصماء التي تصنفها في الذروة من الشعر الإسلامي، ولكنه لا يلبث أن يطالعك بعدها بقصيدة تائهة تافهة، تكاد تشي بهذا الاختلاط المؤذي بين السمو والهبوط بين البناء والانهيار.. ألم نسمع إلى أمير الشعراء وهو ينشد بردته وهمزيته، ثم لا نلبث أن نسمعه يقول:

رمضان ولى هاتها يا ساقي=مشتاقة تسعى إلى مشتاق!!

وتعجب كيف ينطق صاحب البردة والهمزية بمثل هذا البيت الذي يجاهر بالمعصية.

ولكنه العصر.. والهزيمة.. والبداية التي اختلط فيها الخير بالشر، والحق بالباطل.. ومع الأحداث الجسام التي أنزلها الأعداء بالأمة أخذت تتبلور في الأذهان صورة الهوة التي هوى إلى قعرها أبناء الأمة التي وصفها الله بأنها خير أمة أخرجت للناس، وأخذ الغيورون من أبناء هذه الأمة التي لا تموت يرفعون أصواتهم بالإصلاح.. والعودة للينابيع العذبة الصافية، وكان من بين هؤلاء الغيورين نفر من الشعراء حملوا لواء الدعوة الإسلامية، وأخذوا بشعرهم يذكرون محاسن الإسلام، وينادون الأمة بالعودة إلى هذا الدين، والتقدم بالإسلام نحو التحرر والسيادة والبناء والارتقاء..

ويلمع في سماء هذا الجيل من الدعاة شعراء أعلام، كأمثال أحمد محرم، وعمر الأميري ويوسف العظم، ووليد الأعظمي، ومحمد محمود الزبيري.. وغيرهم كثير وكثير..

ويجاهد هذا الجيل ليرسي قاعدة ثابتة للشعر الإسلامي المعاصر.. وتنجح جهودهم ويسلمون الراية لجيل جديد، ينطلق في ميدان الشعر الإسلامي، يحقق له السمو والرفعة والأصالة، فتلمع في سماء الشعر الإسلامي أسماء تحقق للكلمة المؤمنة أمجاداً رفيعة، وتدفع إلى دنيا الأدب الإسلامي مجموعة من أرفع الدواوين وأعذب القصائد والأناشيد، فنقرأ لشعراء منهم أعلام، نقرأ لعلال الفاسي وأحمد محرم وأحمد الصديق وشريف القاسم وغيرهم كثير وكثير، ونطالع دواوين الأمجاد الإسلامية المعاصرة التي تخطو بثبات نحو تحقيق حلم الأمة في التحرر وفي بناء الدولة الإسلامية الواعدة.. القريبة بإذن الله..

* * *

لقد ألفت قبل خمسة عشر عاماً مع أخي الأديب حسني جرار كتابنا شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث في عشرة أجزاء، ضم أكثر من ستين شاعراً، وعندما وجدنا أن الساحة الإسلامية قد غصت بالشعراء المبدعين والشعراء الواعدين، وأن كتابنا هذا سوف تتضاعف أجزاؤه ويتضخم حجمه. فنسأل الله أن يحقق لنا أمل إنجازه وإخراجه..

وعندما ألفت كتابي: دواوين الشعر الإسلامي المعاصر، دراسة وتوثيق، قبل أكثر من عشر سنوات لم أستطع أن أحصي في ساحة الشعر الإسلامي المعاصر أكثر من مائة وخمسين ديواناً، وأنا اليوم أستطيع أن أحصي أكثر من خمسمائة ديوان.. ولعلنا نستطيع أن نحصي أكثر من ألف ديوان بعد سنة أو سنتين..

إن الشعر الإسلامي المعاصر يواكب أحداث الأمة، ويسير معها في طريقها إلى المجد، ولا أستطيع إلا أن أحيي هذه الكواكب من الشعراء الذين نذروا نفوسهم للذود عن حياض الإسلام.