لقاء مع الدكتور حسام الزمبيلى

أبو الحسن الجمّال

لقاء مع الدكتور حسام الزمبيلى

حول ذكرياته مع والده الدكتور عبدالحميد إبراهيم رائد الوسطية العربية

أبو الحسن الجمّال

  الدكتور عبدالحميد إبراهيم (1935-2012) قمة كبيرة فى مجال الأدب والنقد بما قدمه من أبحاث وكتب ومحاضرات ومقالات ومن اتباعه وتلاميذه الذين ينتشرون فى الجامعات المصرية والعربية والعالمية ..كان يعتز بحضارتنا العربية الإسلامية مما أثار حفيظة المؤسسات الثقافية التى يهيمن عليه فصيل واحد "يسارى" منذ خمسة عقود ..يخاصم هذا الفصيل الأصالة وينفر منها ويعاديها، بل وصل الشطط ببعضهم أنه اعتبر اللغة العربية "لغة الغزاة"، والفتح الإسلامى لمصر أنه "الغزو والاحتلال" فى كتاب صدر عن هيئة قصور الثقافة التى تتلقى المصروفات من ميزانية الدولة ذات الأغلبية الإسلامية ..أسس الدكتور عبدالحميد إبراهيم لمذهب "الوسطية العربية" ونظر له فى كتاب الوسطية العربية فى ثمانية مجلدات، ولم تقف جهوده عند هذا الحد فشارك فى تأسيس كلية الآداب جامعة المنيا، وكلية الآداب جامعة صنعاء، وكلية الدراسات العربية (دار العلوم الآن) فى جامعة المنيا، و لأنه يؤمن بعراقة تراثنا العظيم فقد قرر أن يعين الباحثين فى التعامل مع هذا الإرث العربى فأنشأ معهد المخطوطات جامعة المنيا، كما كان من أوائل المؤسسين لمؤتمر أدباء مصر فى الأقاليم، الذى عُقدت دورته الأولى بجامعة المنيا تحت رعايته وترأس وأشرف على مهرجان طه حسين الذى تقيمه جامعة المنيا لأكثر من ثلاثة عشر عاماً .. أثرى المكتبة العربية بالعديد من بالعشرات من الكتب والأبحاث، فله أكثر من خمسين مؤلفاً من أهمها: موسوعة الوسطية العربية فى ثمانية مجلدات – مقالات فى النقد الأدبى فى خمسة عشر جزءاً – قاموس الألوان عند العرب – لقطات لآلان روب جرييه (ترجمة) – الأدب المقارن من منظور الأدب العربى – نقاد الحداثة و موت القارئ – الرواية العربية والبحث عن جذور – نوادر الحب والحكمة – القصة القصيرة فى الستينيات..وغيرها..

 نلتقى فى السطور التالية مع نجله الأكبر الأستاذ الدكتور حسام عبدالحميد الزمبيلى أستاذ الرمد فى كلية الطب جامعة المنيا كما أنه الأديب الرائد فى مجال أدب الخيال العلمى، يسرد ذكريات عن والده فى اليمن ولندن، وفى كل مناسبة شارك فيها الدكتور عبدالحميد إبراهيم  وعن طقوسه عندما يكتب ويؤلف ويبدع وآثاره فى مجال الأدبية وكيف نظر لنظرية الوسطية العربية ومعاناته مع المرض الذى أصيب به فى آخر 17 سنة فى حياته، وكيف أثر فى أبنائه وحببهم إلى مجال الأدب والتميز فى مجالاتهم وتخصصهم الرفيع ...وإلى نص الحوار:

كيف تتذكرون والدكم الدكتور عبدالحميد إبراهيم؟

*ذكرياتى مع والدى تشمل جميع مراحل الطفولة الشباب وما بعد الشباب ..ففى المرحلة الأولى وقد قضيت مع والدى أربع سنوات فى اليمن فى الفترة من 1975- 1979م، وكان مشغولاً ليل نهار بمشروع عمره "الوسطية"، وأنهى هناك الجزأين الأولين، وكان هذا حلم حياته..كان يقضى الجزء القليل معنا أنا وأختى "أريج"، وكنا نحترم خلوته ورغبته فى الإبداع وكنا نشعر فى طفولتنا أن هناك شيئاً هاماً وكلما حاولنا أن نتعرف عليه ولكن لم نعرف كنهه إلا عندما كبرنا وعرفنا ما كان يحدث.. مرت علينا سنوات اليمن كان الدكتور عبدالحميد إبراهيم منغمساً فى كتاب نظرية الوسطية العربية، ولكنه لم ينس المجتمع المحلى والثقافة اليمنية فى ذلك الوقت وقد كتب كتاباً أو كتابين حول القصة والأدب اليمنى، وعندما عدنا إلى مصر، وكنت فى المرحلة الابتدائية وكنا نقيم فى مدينة المنيا، ولكننا كنا نذهب كثيراً إلى مدينة القاهرة وكانت من طقوسنا المعتادة أن نذهب إلى دار المعارف والهيئة المصرية العامة للكتاب، وكانت هذه هواية لنا جميعاً، وقد نجح والدى فى زرع هواية حب القراءة ومتابعة الجديد فى الأدب والفكر وعقب كل زيارة لدار المعرف أو هيئة الكتاب كنا نسهر حتى نلتهم الكتب، ومن الذكريات الجميلة أيضاً أن يأخذنا والدى لنحضر الأمسيات الرمضانية بجوار سيدنا الحسين حيث كان يقام معرضاً للكتاب وندوات ثقافية وفنية وأدبية ..وكان يحرص أيضاً على اصطحابنا إلى معرض القاهرة الدولى كل عام، وكان يشجعنى على الكتابة وأحببت أدب الخيال العلمى الذى اخترته نمطا للكتابة الآن وقد شعر الدكتور عبدالحميد بذلك وخصوصاً عندما ذهبنا إلى مدينة لندن، فقد ذهب والدى للعمل مدرساً فى كلية الدراسات الأفريقية والشرقية فى جامعة لندن، وكنت أنا وأختى أريج وأمى مصاحباً له، وأندمجنا فى فى ثقافة أدب الخيال العلمى التى كانت ناضجة فى الغرب ووصلت إلى مراحل متقدمة، وخلال فترة لندن كان والدى يشجع عندى موهبة أدب الخيال العلمى، ولما عدنا أخذنى من يدى وذهبنا إلى الدكتور مصطفى محمود، وقدم أبى له نماذج من أعمالى وفى خضم اهتماماته وتقدمه فى السن نسى الموضوع، ثم ذهبنا إلى الأستاذ نهاد شريف رائد أدب الخيال العلمى فى مصر، وقد توثقت الصلة بينى وبينه، وبعد رحيله كنت أحضر الصالون الشهرى التى تقيمه زوجته وابنته، كما أننى عملت صالوناً فى بيتى للجمعية المصرية لأدب الخيال العلمى وخصصناه لأدب نهاد شريف وحضرته زوجته وابنته وحضره الأستاذ الدكتور نبيل فاروق، وهو طبيب تفرغ للأدب مثل أحمد خالد توفيق، وقد تركا مجال الطب وتفرغا تماما للأدب، أما أنا فمازلت حائرا بين الأدب والطب أوفق بينهما فى أغلب الأحيان وفى هذا اتشابه مع أستاذنا الدكتور محمد الجوادى ..نحاول أن نحقق المعادلة الصعبة .

لن اعيش فى جلباب أبى:

 لن يقلل من حبى واحترامى لأعماله.. والدى كان يستخدم اسم "عبدالحميد إبراهيم محمد" ، وأنا استخدم اسم العائلة "الزمبيلى"، وقالوا لى: "لماذا لم تستخدم اسم والدك وهو من الشهرة بمكان"، فقلت لهم أنا أعتز بوالدى، فضل والدى أن يعرف باسم عبدالحميد إبراهيم والعائلة اسمها "الزمبيلى" من مدينة الأقصر، ولما كبرت شعرت أن يكون لى كيانى الخاص ووجود هذا الكيان لا يقلل عن اعتزازى وافتخارى بوالدى، وقد شجعنى على استخدام لقب العائلة، وقال لى "نحن أخطأنا أنا وأعمامك عن عدم استخدام لقب العائلة"، ولى أعمام برزوا فى مجالات عدة مثل: الجغرافيا، وعلم النفس على رأسهم الأستاذ الدكتور يوسف أبو الحجاج أستاذ الجغرافيا فى جامعة القاهرة، وهو الذى عمل على استخراج الوثائق المصرية من استنابول التى أثبتت حق مصر فى طابا مما دعم مركز مصر فى التحكيم الدولى الذى حكم لصالح مصر، والعم الآخر هو الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم ، أستاذ علم النفس ..كان الدكتور يوسف أبو الحجاج هو من شجع والدى على التعليم والذهاب للأزهر الشريف وتفوق وحصل على المركز السادس على مستوى الجمهورية فى الثانوية الأزهرية ...                   

 

كيف كانت طقوسه عندما يكتب، وعندما يحاضر، وعندما يبدع، وعندما يناقش رسالة، أو يحكم بحث علمى؟

 *كانت هوايته السير على كورنيش النيل بمدينة المنيا الذى كان الأول فى جماله وشهرته على مستوى الجمهورية يتأمل مشهد الغروب وهذا كان دافعاً له على الإبداع والعطاء والكتابة وكان يجلس فى مكتبه بالساعات.. يقرأ ويكتب، وكان القولون العصبى يشتد عليه فيتحامل على آلامه ويفرح لميلاد كتاباً جديداً له أو بحث علمى وكان يجد متعته فى البحث العلمى يساعد الباحثين ويقترب منهم لا يعاملهم بأنفة واستعلاء كما يفعل غيره بشرط أن يجد لدى الباحث القابلية للبحث العلمى وكان يراجع الرسالة العلمية للطلاب صفحة صفحة وفقرة فقرة إذا وافق عليها يوقع باسمه فى نهاية كل صفحة، وكان تلامذته عندما يأتون للمنزل يبش فى لقائهم وتقدم لهم والدتى المأكولات والمشروبات وتشاركه استقبالهم الحافل ..

كيف كان الدكتور عبدالحميد إبراهيم فى أيامه الأخيرة؟

 *أصيب الدكتور عبدالحميد إبراهيم بمرض حار الأطباء فى تشخيصه منذ سنة 1995 كان يؤثر على العضلات فى جميع أنحاء الجسم وأصيب بهذا المرض ثلاثة من المشاهير منهم والدى، وحاولنا معالجته فذهبنا به إلى المركز الأمريكى لعلاج الأمراض العصبية فى قبرص، وظل والدى يعانى من المرض قرابة الـ17عام، وبالرغم من وطأة المرض إلا أنه لم يشغله عن الإبداع بمساعدة سكرتيره "أشرف" الذى يعرف عنه الكثير من الذكريات والحكايات والأسرار، وكان يمضى معظم الوقت فى القراءة والبحث رغم ضمور أعصابه وسوء التنفس وكنت أمزح معه قائلا: "متبقى لك أربع سنوات وتلحق بسيدنا أيوب" الذى مكث مريضاً 21عاماً، وكان يرد على قائلاً "لا اعتقد أنى سأصل إلى هذا السن" ويبدو أنه كان يعلم الغيب.

 وكانت له ذكرياته سيئة بالدكتور جابر عصفور وكان هو وشلته يحاربونه كثيراً ويحالون دون حصوله على الجوائز أو أى تكريم التى يوفرونها لأعضاء حظيرة فاروق حسنى وجماعة سوزان مبارك كما أنه يوجد لوبى فى وزارة الثقافة يعمل "بلوك" لأى فكر أصيل ..

هل تم تكريمه بما يستحق، وعلى قدر عطائه ومنجزاته؟

*لم يتم تكريمه إلا بجائزة واحدة هى جائزة "رجاء النقاش" من اتحاد كتاب مصر، وهى لا تتناسب مع مكانته ورشح أكثر من مرة لجائزة الدولة التقديرية ولم يحصل عليها.

كيف أسس لأدب مقارن عند العرب؟

* ألف والدى كتاب "الأدب المقارن من الأدب العربى"، ويعتمد الكتاب على التنظير لوجود أصول فى التراث العربى لما يمكن تسميته بالأدب المقارن، و يتحرى فى التطبيق أن يوضح تأثير الأدب العربى على الآداب الأخرى و ليس العكس كما ورد فى كتاب د. هلال. وتتضح قيمة كتاب د. عبدالحميد إبراهيم فى إبراز دور الثقافة العربية وفضلها على الآداب الأخرى، ليتركنا على الأقل مع رؤية متوازنة أن جميع الثقافات تتبادل التأثيرات و التأثر، بدلاً مِن أن نظل دائماً قانعين بمكاننا كمستهلكين لثقافات الآخرين، كما يظهر فى بعض الكتابات. وهنا تظهر ضرورة أن يكون لنا دور فى كتابة تاريخنا والتنظير لثقافتنا، وإلا سنكون دائماً فى انتظار ما يكتبه الآخرون عن أنفسهم، فنضطر أن نقبل دورنا المحدود، وهو لن يكون محدوداً لو سطرناه بأنفسنا، فالتاريخ ملك للجميع.

 ويتعرض د. عبدالحميد إبراهيم فى مقدمة الكتاب النظرية إلى أن نشأة الأدب المقارن كدراسة أكاديمية فى مصر و العالم العرب “لم يأت نتيجة لتطور تاريخي و حضاري، أو استجابة لحاجة داخل اللغة القومية”، ولكنه على العكس، جاء "منقولاً من الجامعات الفرنسية، على يد الدكتور محمد غنيمي هلال فى كتابه الأدب المقارن". ويأخذ على كتاب الدكتور غنيمي هلال أنه لم يتتبع "تاريخ الأدب المقارن داخل اللغة العربية، و الحضارة الإسلامية، حتى أن الكثير من الأعلام العربية و الشرقية التى كان يشير إليها، إنما كان يرجع فيها إلى مراجع فرنسية أو أوروبية [...]" فتلك هى آفة العالم العربى، فلا زلنا نستقى معارفنا مما يراه الآخرون وتفرضه ثقافتهم علينا، بل و لا زلنا نُحجم و نكاد نُهرع أن نبدأ نحن بالإرساء لثقافتنا، فنظل دائماً فى وضع من هو تحت الوصاية،  مثلما اقترح إدوارد سعيد فى كتابه "الاستشراق" مِن أن نظريات المستشرقين أصبحت إرثاً ثقافياً متداولاً، وأن ربط المعرفة بالقوة والهيمنة يجعل الشرق دائماً فى الوضع الأضعف.

 ويذهب الدكتور عبدالحميد إبراهيم فيطرح تعريفاً جديداً للأدب المقارن يكون بالنسبة لتعريف الدكتور غنيمى هلال أقرب "للمعارضة"، فيقول إن الأدب المقارن هو "توسيع مجال الموازنات الأدبية، لكى تنتقل من حدود اللغة القومية إلى الكشف عن العلاقات مع نصوص كتبت بلغات أخرى، و إثبات تلك العلاقات عن طريق النقد الأدبى من ناحية، وعن طريق البراهين العلمية من الناحية الأخرى". و يختلف التعريف عما ذكره د. غنيمى هلال فقط فى نقطة البدء، حيث يبدأ د. عبدالحميد إبراهيم من الأدب القومى العربى، و لكنه أيضاً يؤكد على التأثير و التأثر مثل الدكتور غنيمى هلال، لأنه يؤكد أن الأدب المقارن "ينطلق من نصوص أدبية، كتبت بلغة معينة، و خضعت لمقتضيات هذه اللغة البلاغية، ثم يبحث عن علاقتها من حيث التأثير و التأثر بنصوص أدبية كتبت فى لغة مختلفة، و خضعت لمقتضيات هذه اللغة، وذلك لكى يثبت أوجه التفرد عند هذا الأديب أو عند غيره".

دعا الدكتور عبدالحميد إبراهيم للوسطية كمذهب أدبى..كيف نظر له؟

*نشأت فكرة الوسطية معه في مرحلة الجامعة بعد أن أطلع الدكتور عبدالحميد على كتاب للدكتور محمد غنيمي هلال بعنوان "الرومانتيكية" وكان هذا الكتاب يعرض مذهباً غربياً في أفكاره وآرائه ومصطلحاته وأعلامه فسأل نفسه في تلك المرحلة الصغيرة لماذا نعرض المذاهب الغربية الوافدة ولايكون لنا مذهب نابع من تراثنا وتاريخنا خاصة ونحن أمة تمتلك تاريخاً وحضوراً وحضارة وأثرنا في مختلف الحضارات ومن يومها قرر أن يبحث عن هذا المذهب وأن يؤلف كتاباً عنه بعنوان "عبقرية الصحراء"، وأخذ يقرأ في كل المؤلفات والكتابات التي خلفتها لنا الحضارة العربية الإسلامية في التاريخ، والحساب، والفلك، والفلسفة، وغيرها من العلوم حتى يصل إلى استنباط مذهب عربي أصيل من هذا التراث وفجأة وحينما كان يقرأ في معلقة عنترة العبسي وجد محورين يسيطران على هذه المعلقة وهما محور الحب من ناحية ومحور العنف من ناحية أخرى، وكان عنترة متطرفاً في حبه لعبلة إلى أبلغ درجات الحب حتى أنه يراها في صفحة السيف وهو يحارب الأعداء وكان عنترة أيضاً متطرفاً في عنفه على الأعداء حتى أنه يخشى أن يموت قبل أن ينتقم منهم، وفجأة وعندما طالع تفسير الطبري تفسير الآية الكريمة "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" وقف امام الآية وأخذ يتدبرها، ووجد الطبري يفسر معنى الوسطية ويقول إنها تعني الشيئين مع الموازنة بينهما وأنها تتلخص في كلمة العدل أو العدال على حد تعبيره ورأى أن العِدْل هو أحد حملي البعير لأن البعير يتم وضع عدل على جانبه الأيمن لكي يتوازن مع الذي على جانبه الأيسر. وهنا توصل إلى مفتاح السر وهو كلمة «الوسطية» وتغير عنوان كتابه من "عبقرية الصحراء" إلى "الوسطية العربية" لأن كلمة الوسطية هي التي تفتح لنا سر شخصية الإنسان العربي الذي يجمع بين الشيئين معاً حتى لو كانا متناقضين وتوصلت من خلال ذلك إلى شيء هام وهو أن عنترة وقد كان موجوداً في عصر ما قبل الإسلام يمثل الإنسان الجاهلي أو المسودة الأولى للوسطية العربية التي يمنحها المكان أو الصحراء فهو يجمع في داخله بين الشيئين معاً ولكنهما متطرفان فهو متطرف في حبه كما هو متطرف في عنفه.

 

  ومذهب الوسطية العربية ليس مذهباً تجريدياً نظرياً ولكن له تطبيقاته المختلفة وهو ما فسره ووضحه في الجزء الثاني من مشروعه عن الوسطية العربية فقد وجد ملامح هذا المذهب واضحة في الدين والخلق والأدب والفن وعلم الأخلاق وعلم الجمال واللغة والمنهج وكل هذه الأشياء تضافرت وتداخلت وأنتجت حضارة عربية إسلامية تقوم على فكرة الوسطية بمعنى أنها تتحاور مع الحضارات الأخرى ولا تنغلق على نفسها وتأخذ أفضل ما فيها وتضيفه إلى نفسها وهي كما يقول ابن القيم الجوزيه "تجرى وراء الحق أينما كان حتى ولو كان عند الأمم الضالة لأن هدفها أخذ الحق أينما كان من الشرق والغرب والشمال والجنوب لتقدم مذهباً جديداً يقوم على الحق عند كل الملل ولذلك تتحول إلى نموذج شامل كاف يجد عنده الكل الحقيقة التي يفتقدونها وهذا معنى الآية الكريمة «لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" بمعنى أنكم نموذج كامل تشهدون على الكل ويجد عندكم الجميع الحقيقة.

7- للدكتور عبدالحميد إنجازات أدبية وفكرية فى كل مكان يحل به.. ما هى أهم الانجازات؟ 

*له انجازات كثيرة فى كل مكانت يذهب إليه يضع بصمة وعلامة فقد ترأس وأشرف على مهرجان طه حسين الذى تقيمه جامعة المنيا لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، و شارك فى مؤتمرات كثيرة فى مصر والعراق والسعودية واليمن والأردن ولندن، وأسس مركز المخطوطات العربية بجامعة المنيا، وأسهم فى تأسيس كلية الآداب بالمنيا وكلية دار العلوم بالمنيا وكلية الآداب بصنعاء و قسم اللغة العربية بجامعة "سوكوتو" بنيجيريا، كما كان من أوائل المؤسسين لمؤتمر أدباء مصر فى الأقاليم، الذى عُقدت دورته الأولى بجامعة المنيا تحت رعايته، كما اسس نادى الأدب بالمنيا وترأسه لسنوات وقد قدم للساحة الأدبية العديد من الأدباء الذين شرفوا الإقليم وكان يصدر مجلة "الجنوبى" التى تنشر إبداعات المثقفين ليس فى مدينة المنيا وحدها ولكن فى صعيد مصر جميعه وقدم مئات الأبحاث التى جمعت عن كتاب الجنوبى فى خمسة عشر كتاباً.

لماذا لم يتم تعميم "الوسطية" كمذهب أدبى يدرس فى الجامعات والمدارس وفى الرسائل الجامعية والبحوث النقدية؟

*هناك اتجاهات داخل الوسط الثقافى للدولة تخاصم كل فكر عربى أصيل، وهذه الاتجاهات يقودها أناس تغريبيون مثل: أحمد عبدالمعطى حجازى، وجابر عصفور، وحلمى النمنم، ومحمد سلماوى، ورجال فاروق حسنى، وهم يضعون حواجز منيعة ضد أى فكر إسلامى وسطى أو عربى أصيل هم يخاصمون الأصالة منذ أن وضعتهم السلطة على رأس المؤسسات الثقافية منذ خمسة عقود وهم يقصون أى أحد يعارضهم لا يقبلون أن يعيشون المشاركة مع أى فكر آخر..هم باختصار رسل التغريب وأذنابه فى مصر، ولك ان ترجع إلى تصريحاتهم وأفعالهم التى تحض على العنصرية البغيضة مثل تصريحات النمنم التى قال فيها أن هوية مصر علمانية وطالب إلى قتل معارضيه ..كانت الدكتور يعتز بحضارتنا وثقافتنا العربية الإسلامية الذى تخاصمه حظيرة فاروق حسنى وشلة اليسار المتأمرك ..    

كيف وقف الدكتور عبدالحميد إبراهيم من قضية التغريب الذى أغرق الثقافة العربية؟ وكيف وقف من جنوده المتواجدين ببلادنا العربية؟ 

*أبلغ رد على موضوع التغريب مجموعة كتب الوسطية فى ثمانية مجلدات كما كان صولات وجولات فى التصدى لجنود التغريب فى مصر والبلدان العربية الذين كان يسخرون من الأدب العربى واللغة العربية لحساب الثقافة الأوربية والفكر الوافد وكان يرى أن مواجهة فكرة التغريب تحتاج إلى جهود كبيرة حتى نستطيع الخلاص منها وربما كان مذهب الوسطية هو الخلاص من فكرة التغريب لأنه يجعلنا نبدأ من ثقافتنا وتاريخنا ثم نتحاور مع الآخرين فلا ننسى جذورنا ولا نتغلق على أنفسنا ونتعصب لما هو لنا فقط بل ننفتح على الآخر ونتحاور معه لأن الوسطية تعنى المزوجية وقد تردد في آيات كثيرة من القرآن الكريم أن الله خلق الأشياء من زوجين اثنين والمفرد شيء ناقص لا يعيش وحده أما الزوج فهو شيء كامل (أنا والآخر) والتغريب يركز على الآخر وحده ويلغي الأنا ويركز على ما هو مشترك من الحضارة الإنسانية ويلغي هويتنا العربية والأنا وحدها تعني التطرف والتعصب فمن يعتنقون المذهب السلفي في العصر الحاضر والذين يرون أن القديم هو وحده كاف أما الوسطية فتعني الاثنين معاً وتقدم من خلال الأنا والآخر منظومة الخلاص ولذلك فأفضل وسيلة لنا للخلاص من التغريب هو اتباع مذهب الوسطية حتى لانفقد هويتنا وتراثنا وحتى لاننغلق على أنفسنا ونتخلف.

كيف نقيم الدكتور عبدالحميد بعد ثلاثة أعوام من الرحيل؟

*كنت اتوقع من الدولة أن تكرمه أو تخصص درورة من مؤتمر أدباء مصر الذى أسسه ورأس أول دوراته فى المنيا سنة 1984، كما فعلوا مع غيره الذى لم يبلغ معشار ما وصل إليه الدكتور عبدالحميد.. كما آسفت أن يتجاهله اتحاد الكتاب وهو أحد المؤسسين له.. باختصار هناك تعتيم فرض عليه وعلى أعماله التى هى تجربة فريدة وثرية وخسارة ألا تستفيد منها الأمة، وننتظر من الشرفاء إزالة الغبار عنه وتسليط الأضواء عليه بصورة مكثفة.