لقاء الذاكرة مع الحاج محمود الصمادي

"أبو سميح" مواليد 1928م

خليل الصمادي

[email protected]

عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين/ الرياض

كنت وأنا غلام صغير أرى المستعمرين الإنكليز يطوّقون البلاد، ، وكنت أسمع من رجال قريتنا أخبار ثورة 1936،   وكانوا يقولون إن البريطانيين يساعدون المهاجرين اليهود بالسلاح والمال فنما لدينا شعور بكره الإنكليز وأنهم وراء مصايبنا  .

 وفي عام 1942م كان عمري أربعة عشر عاماً تقريباً وحينها فكرت بالذهاب إلى مصر، ركبت السيارة من طبريا ثم إلى سمخ ومن هناك ركبت قطاراً إلى حيفا ومن حيفا إلى يافا ثمّ إلى غزّة .

أنا من لوبية التي يبلغ عدد سكانها 3000 نسمه تقريباً، فيها ست حمايل منها العطوات – الشهايبة – الشناشرة – الحجاجوة – العجايلة..

لوبية كانت أشهر قرية في قضاء طبريا، كان حولها حوالي 40 قرية منها الشجرة وكفر سبت وحطين والمغار وعيلبون ..الخ، وأهل لوبية مشهورون بالشجاعة وذلك باعتراف اليهود الذين كانوا يقولون عن لوبية إنها "كانت شوكة في خاصرتنا"

كانت لوبية على مفترق طرق ولذلك هاجمها اليهود عام 1948م، هجوماً عنيفاً جداً بالطيران والمدرعات والمشاة، لكنهم ارتدوا منكوسين وقد اشتركت في هذه المعركة مع جل شباب قريتنا وقد كبدنا اليهود خسائر فادحة بالجنود والعربات والمعدات وقد أصبت في هذه المعركة ، وكان عمري عشرين عاماً تقريباًُ، وقد ذكرها إبراهيم الشهابي في كتابه " لوبية " وذكرتها أيضا مجلة " فلسطين " في ستينات القرن الماضي التي كانت تصدر عن الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسة المفتي الحاج أمين الحسيني " يرحمه الله "

ومن حقد اليهود على لوبية أنهم مسحوها من جذورها بعد الهجرة فلم يتركوا فيها أي بناء قائم وحتى مسجدها سوه بالأرض  ..

 انتسبت إلى قوات الجهاد المقدّس وكنا عبارة عن سرية أو كتيبة مكونة من 200 مجاهد نقيم في الناصرة، وكنا حينما نعلم أن اليهود يجهزون لهجوم نسارع إلى قمعه بالوسائل المتاحة بين أيدينا، وكان يقودنا شاب اسمه "محمد علي العورتاني" من طبريا وكان محمد ضابطاً في الجيش الأردني، أما القائد الرئيس فكان كهلاً من جماعة الشيخ عزّ الدين القسّام اسمه "توفيق الإبراهيم" وفي يوم 12/ أيار أتانا أمر من القيادة أن نسرع إلى صفد، وتلبيةً للنداء ركبنا حافلتين كبيرتين لأشخاص من الناصرة أقلونا إلى صفد وكان ذلك يوم الاثنين 12 / أيار وكان يوماً ماطراً مكفهرّ الجو، وإذا بأهل صفد ينزلون منها في حالة يرثى لها حفاة مفزوعين لا يدرون ما يفعلون.

فوجئنا أن هناك أي في صفد سلطات ثلاث: كان فيها الجيش الأردني يقوده رحل نصراني اسمه "أمين جميعان" وآخر اسمه "ساري فنيش" وكان هناك مجاهدون يقودهم رجل وطني اسمه "صبحي الخضرا" وهو رجل من فلسطيني كان سكرتير الملك فيصل في باريس، وأيضا هناك قوات اسمها قوات اليرموك يقودها السوري أديب الشيشكلي الذي أصبح بعد ذلك ريساً للجمهورية السورية.

فلما وصلت قواتنا إلى صفد وجدنا الناس مذعورة والكل يقول سقطت صفد.. والرأي الأرجح حينها كان يتحدّث عن مؤامرة.. فقد أشبع حينها أن الحاج أمين الحسيني الذي كان في لبنان وسيأتي إلى صفد في ذلك اليوم إلى صفد، وما رأيته أنا أن عدداً من سيارات الجيب كانت مسرعة ووقفت في المكان الذي كنت فيه ولما كثر سؤال الناس عن الأمر قالوا : هذا أديب الشيشكلي .. خرج الشيشكلي من الجيب وسأل عن الأمر فقيل له سقطت صفد.. وضع يديه على رأسه وأطرق وحينها أقبل الناس عليه يصيحون في وجهه ويقولون "أنتو خون.. انتو بعتو بلادنا .. الخ" وهذا الالتباس نشأ من كون الشيشكلي في تلك الليلة بات قريباً من صفد ..

وبعد حوالي ساعة من الزمان عدنا بسياراتنا إلى الناصرة.. وهناك فوجئنا بأن نساء الناصرة استقبلننا بالزغاريد ظنّاً منهنّ أننا قمنا بطرد اليهود من صفد، قفلنا للناس سقطت صفد.. وقد أدّى خبر سقوط صفد إلى فوضى كبيرة في الناصرة...

أنا كنت أقود مجموعة من المجاهدين ولكنني كنت أقاتل وأنا فاقد للثقة لأنني كنت أرى العمل الجهادي فوضوياً للغاية ..

 

قالت لنا القيادة إنه يوجد في مرج ابن عامر "موتورات" ومحركات لليهود.. وإذا نسفت أو دمّرت نكون قد حققنا ضربة ناجحة لليهود.. كان معنا قائد ألماني اسمه "ماكس" طلب مني أن أختار له أشخاصا ليخبرهم عن مكان  المحركات .. واخترت له ثمانية أشخاص أنا تاسعهم، وانطلقنا حتى وصلنا إلى مكان المحركات وهناك قال لي "اجلس هنا وأريد اثنين فقط" ثم قال لي "ممنوع أن تغادروا هذا المكان إلا بأمر مني أو من القيادة" حتى لو فشلنا لا تتحركوا إلا بخبر رسمي وفعلاً التزمنا بما قال، أخذ معه اثنين من المقاتلين وبقيت أنا ومعي الستة الباقين، وفي تلك الفترة بدأنا نسمع أصوات قذائف وانفجارات .. وبعد حوالي ساعة ونصف قال الجالسون معي إن المهمة انتهت .. فقلت لهم المهمة تنتهي فقط بالبلاغ الرسمي .. وهم يقولون "يمكن رجعوا عن طريق القفزة" وهي طريق جنوب الناصرة .. و"يمكن رجعوا عن طريق دبورية" و "يمكن راحوا على عين ماهل" فقلت لهم بالحرف "ما في يمكن .. فيه أوامر" وبين الأخذ والرد انسحب أربعة من الموجودين الستة، وبقيت أنا ومعي مقاتلان، وبعد قليل عاد "ماكس" يسألني عن الجنود الذين كانوا معي، فقلت له إنهم غادروا الموقع، فقال لي "أنت لست شجاعاً.. لماذا تركتهم يذهبون؟؟" فقلت له "تمرّدوا" فقال "لا يوجد تمرد في الجيش".. حينها أصبح عندي شعور بفوضوية العمل عندنا .. وهناك غير ذلك من الحوادث التي لا أحب أن تنشر..

كنت جالساً مع الضابط في ثغر من الثغور وأنظر بالمنظار الذي كان بحوزتي .. حينها سألني الضابط عن الذي أراه .. فقلت له أرى جندياً يطل برأسه.. وكان بيني وبينهم حوالي 250 متراً .. فقال "شكله بيرصدنا" فقلت له لا أظن .. وما هي إلا لحظات حتى بدا إطلاق النار علينا وحينها أصبت في فخذي.. وفي الحال جاء شاب كان يدرس اللغة الانكليزية حملني على ظهره مسافة 3 كيلو مترات حتى أوصلني إلى أقرب سيارة أخذتني إلى  الناصرة .. وهناك قالوا لي أن الرصاص الذي أصابني  كان من نوع "الدمدم" وهناك تمت عملية إسعافي .. وجاءت القيادة إلى المشفى واطمأنوا على حالتي الصحية وأخذوا سلاحي حتى يستفيد منه المقاتلون أثناء فترة إصابتي ..

بعد حوالي ثلاثة أيام ازدحم المشفى بعدد كبير من الشهداء والجرحى مما اضطرت القيادة  إلى ترحيل المرضى والمصابين إلى لبنان، وفعلاً رحلونا على لبنان وهناك بقيت يومين أو ثلاثة في خيمة ثم نقلوني إلى بيروت حيث بقيت أسبوعاً فيها، ثم ذهبت إلى دمشق حيث أدخلونا مشفى المزة... وأمضيت هناك أكثر من شهر..   ثم خرجت من المشفى لا أملك قرشاً واحداً.. سألت عن "المكتب الفلسطيني" وذهبت إليه في منطقة اسمها "الحلبوني" وقلت للقائمين عليه أنا ضابط وهذه أوراقي، أصبت في الحرب وهذه أوراق المشفى فصرفوا لي مبلغاً أعانني على الرجوع إلى لبنان.. ولما رجعت هناك سألت عن التطورات التي حصلت فقيل لي : مدينة الناصرة سقطت وبلدك راحت وسريتك تبعثرت" وبعد فترة جاءت أمي من جهة الجنوب وأخبرتني أن اليوم الذي نقلت به من المشفى إلى لبنان استشهد به خالي ..

طفت لبنان أبحث عن عائلتي المكونة من زوجتي الحامل وطفلتي سميحة البالغة من العمر سنتان وبعد عناء طويل وأسئلة كثيرة علمت أنهم في بعلبك ، يممت شطري هناك فالتقيت مع أهلي وفوجئت بأن زوجتي قد وضعت ذكرا أسميناه " سميح" 

لم يطب لي المقام في لبنان فغادرتها إلى دمشق حيث العلم والعلماء وسكنا المساجد في بادئ الأمر ولم أنس فضل الدمشقيين علينا فقد فتحوا بيوتهم ودكاكينهم ورعوا المعوزين منا وبعد أن يسر الله أمرنا انتقنا للسكن في جوبر ،وفي 1956 انتقلنا إلى مخيم اليرموك ومازلت به إلى الآن مع ذريتي" أبنائي وأحفادي وأولاد أحفادي  وقد تجاوزوا المئة وكلنا نحلم بالعودة صغيرنا قبل كبيرنا.