فاضل السباعي(1)

الكاتب العربي في ظل السلطة

فاضل السباعي نموذجاً

حوار فيليب سايار

(النص في وضعه الأخير كاملاً)

ذات يوم وأنا في زيارة لأستاذي "هادي كشريدة" في مكتبه بجامعة استوكهولم، وقعت على كتاب عنوانه "آه يا وطني" لمؤلفه الكاتب السوري فاضل السباعي، قرأت قصصه فأعجبتني جداً وخاصة قصته "البحث عن وطن"، التي لجأ فيها إلى "الغرائبية" كوسيلة لنقد السلطة، وقـرأت  كتباً أخرى له مثل "الألم على نار هادئة"، "اعترافات ناس طيبين"، و"بدر الزمان"، فوجدته كاتباً ملتزماً يستحق الاهتمام، ومن دراستنا لأدبه يمكننا أن نفهم بعض القضايا العربية المعاصرة.

أعرف أنه ينبغي على الكاتب العربي المعاصر، الذي يتوجه بنقده إلى السلطة، أن يتحلى بالحذر والكياسة حماية لنفسه من غضبها. وقد وجدت فاضل السباعي يكتب هذا اللون من القصص وهو يحتمي بنوع من الغرائبية، دون أن يتخلى عن الكياسة والرزانة، وخاصة في مجموعته المتميزة "حزن حتى الموت".

أريد أن أوضح أن أدب فاضل السباعي في أسلوبه الغرائبي دون أساليبه الأخرى، هو موضوع رسالتي الجامعية. وقد قمت بزيارة لدمشق- التي سبق أن قضيت فيها أشهراً طالباً بكلية الآداب- لألتقي به وأزداد معرفة بفنه الأدبي. وقد وجهت إليه اثني عشر سؤالاً، هذه إجاباته عنها:

* أستاذ فاضل السباعي: هل تفضل كتابة القصة القصيرة على كتابة الرواية؟ فإن كان ذلك، فلماذا؟

** لكل من القصة القصيرة والرواية خصوصيتها، من ناحية الأسلوب والأشخاص والزمن، ولها كذلك تأثيرها الخاص في القارئ. فلغة القصة القصيرة- كما أتصورها- أكثر رهافة (تقترب أحياناً من لغة الشعر)، وشخوصها أقل عدداً بطبيعة الحال وأكثر توتراً، والزمن الذي تقع فيه حوادثها أقصر وأوجز (ربما استغرق زمنها يوماً أو ساعة أو جزءاً من الساعة) .... ولا أدعي أن الرواية هي عكس ذلك دائماً!.

قد يميل الكاتب، في بداياته، إلى كتابة القصة القصيرة، فذلك يتيح له أن يفرغ منها- وهو المتعجل- في وقت قصير، فيبادر إلى نشرها محققاً بذلك شيئاً مما تتوق إليه نفسه الطموحة؛ على حين أن إنجاز الرواية يحتاج إلى وقت أطول، هذا إلى أنه قد يتعسر نشرها في كتاب في المستقبل المنظور لأسباب لا تخفى.

من ناحيتي، ظللت أشتغل في القصة القصيرة والرواية في آن معاً. وأعترف بأني تجرأت مرتين، وأنا "طالب" لما يحز بعد شهادة الدراسة الثانوية، فحاولت أن أكتب الرواية: كتبت من الأولى، وبسرعة فائقة، مئة صفحة! وبدوت، في الثانية، أكثر أناة، فكتبت قليلاً، وبأسلوب اجتهدت أن يأتي "رفيعاً" (تحت تأثير قراءتي يومذاك لرواية طه حسين "الحب الضائع")! وفي الروايتين كففت ولم أتابع: ما أوقفني في الأولى أن موضوعها قريب، وفي الثانية نفاد صبري ودخولي مرحلة الدراسة الجامعية!

وعندما اتخذت من الكتابة هواية لي، سهل علي أن أكتب القصص القصيرة، وأن أنشرها بيسر في مجلة "الأديب" البيروتية (التي أوسع صاحبها "ألبير أديب"- رحمه الله- لي صفحات مجلته، بأن ينشر فوراً كل ما أزوده به من القصص والمواد الأدبية الأخرى). وظل الحنين ينتابني لكتابة الرواية، وفي محاولاتي فيها لم أبلغ مرادي بقفزة واحدة، بل متدرجاً عبر القصة "المطولة".

أقول القصة المطولة:

- فقد كتبت في بداياتي، قصة مطولة سميتها "نادية" (نحو خمسة آلاف كلمة)، نشرتها في مجلة "الأديب" (يناير 1956).

- ثم كتبت "مواطن أمام القضاء" (خمسة عشر ألف كلمة)، نزلت مع أخوات لها في كتاب لي حمل عنوان القصة ذاته (دار المعارف بمصر، سلسلة اقرأ، القاهرة، أغسطس 1959).

- وكتبت "ضيف من الشرق" (ثمانية آلاف كلمة)، نزلت مع أخوات لها أيضاً في الكتاب الذي حمل العنوان ذاته (دار الآداب، بيروت 1959).

وآن لي أن أقول: إني عندما هممت، في أواخر العام 1961، بكتابة روايتي "ثم أزهر الحزن"، كنت أحسب أنها لن تتجاوز العشرين ألف كلمة، إلا أنني كنت كلما أنجزت فصولاً منها تبينت أنها ستجيء أطول وأطول، حتى بلغت حوالي تسعين ألف كلمة- كما قدرها أحد النقاد- (400 صفحة 17× 24 سم).

وبصورة عامة يتصف كثير من قصصي القصيرة بالطول، الذي يخرجها أحياناً من نطاق "القصة القصيرة" بالمعنى الدقيق للمصطلح.

* في قصص البدايات كنت تعالج الجانب الشعبي والجانب الاجتماعي في حياة مواطنيك، ثم تحولت إلى الجانب السياسي حين أخذت تنقد الأوضاع.... متى كان هذا التحول؟ ولماذا؟

** لم يكن ذلك تحولاً مني أو مغادرة للجوانب الشعبية والاجتماعية، فهذه ظلت هي "الساحة" التي يلعب فيها شخوص قصصي ورواياتي، كما هي كذلك عند كل قصصي وروائي يستلهم مجتمعه الذي يحيا فيه... وإنما يمكن القول أن الساحة- أو المساحة- اتسعت لتشمل الجانب السياسي أيضاً.

أستطيع القول إن دراستي للحقوق، فضلاً عما أعرفه في نفسي من عشق للكلمة (وإنَّ في الكلمة الأدبَ والإنسانيةَ ونقدَ الحياة)... إن هذا كله عزز إحساسي بالحق وتحري العدالة في علاقة الناس بعضهم ببعض، وجعلني أفترض أيضاً النزاهة في مؤسسات الدولة في تعاملها مع المواطنين.. فلما رأيت -وأنا ما أزال طالباً في السنة النهائية بجامعة القاهرة- أن السلطات بعثت إلى رئيس أعلى هيئة قضائية بمصر نفراً من الغوغاء ليضربوه في مقرّه بالحديد إن لم يقضوا عليه بغير الحديد، انتابتني فجأة المخاوف على الديمقراطية والمُثُل التي آمنت بها تجاه قوة طامحة لا تتسم بالتعقل. وشعرت أنّ ما تلقيته في الجامعة من مبادئ القانون وكذلك فيض الأحاسيس الإنسانية التي تعمر قلبي قد تصبح كلها عاجزة عن الفعل المؤثّر!

وبدا أنّ هذه الخواطر والمشاعر ظلّت تتفاعل أو تتفاقم في نفسي وأنا أكتب "الشعبي" و"الاجتماعي" ليس إلا، إلى أن آن لها أن تنضج فإذا أنا أكتب في العام 1966 قصة هي الأولى من نوعها "يقظة بعد سبات طويل" مواطن مقموع نام سبعة أيام متواصلة ليستيقظ وقد غمه ذهول.. ولم يكن لهذا المواطن إلاي! (نُشرت في مجلة "المجلة" القاهرية، نوفمبر).

وتتابعت قصصٌ عندي على هذا المنوال وكانت حصيلتها "حزن حتى الموت" مجموعة احتوت على خمس عشرة قصة أبطالها جميعاً مأزومون مهزومون فهم حزانى ولم أجد لها عنواناً أبلغ مما استوحيتُه من كلمة للسيد المسيح قالها لحواريّيه بعد العشاء الأخير حسب رواية الأناجيل: إن نفسي حزينة حتى الموت فاسهروا معي وأقيموا ههنا! ثمّ كان أن رفعوه في ليلته على الصليب حسب الرواية!

ولابدّ من الإشارة هنا، إلى أني حرصتُ في قصص هذا الكتاب- التي اشتدت فيها مطاردة أبطالها من قبل السلطة- على أن أتجاوز المنطق الذي تمليه مقتضيات القص فيما يتعلق بأسباب تلك المطاردة؛ فقد غيبتها، تلك الأسباب، متعمداً، فأنت لا ترى في القصة إلا طرفين في صراع غير متكافئ: المواطن والسلطة، وتجهل دوافع المطاردة، وهي- يقيناً- "فكرية" لا جنائية، مردها إلى اختلاف في الرأي؛ وقد يكون محور الخلاف انتماء المواطن إلى "الشيوعية" أو "الإسلامية"، وقد يكون المطارد على مبدأ السلطة إلا أنه اختلف وإياها في تفصيلات استحق عليها الملاحقة!

ويطرح، هنا، هذا التساؤل المشروع؛ لماذا غيبت الدوافع الحقيقية للمطاردة؟ كان ذلك مني استجابة لمقتضيات فكرية وفنية في آن: فأنا- فكرياً- في إيماني بحرية الرأي، حرية أن تتفتح الأزهار كلها، غير معني باتجاه فكري واحد؛ وفنياً، إني إن أضفيت على المواطن المطارد اتجاهاً ما، فإن التأثير الإيجابي للقصة سوف ينحصر في أصحاب هذا الاتجاه، دون ذوي الاتجاهات الفكرية الأخرى المطروحة في الساحة، المتنافسة، فأفقد التأثير الذي أتوخاه في هؤلاء تأثيراً قد ينقلب إلى نقيضه، حتى ليتشفى القارئ بما يحل بهذا المواطن المطارد المختلف عنه في الرأي، فأخسر بذلك ما أنشده من التأييد!

* في قصصك تردد كثيراً كلمة "الوطن"، ممّا يدل على محبتك الكبيرة له، وأنت أيضاً تستعمل كلمة "مواطن" صفة لبعض أبطال قصصك بدلاً من أن تشير إليهم بصفات أخرى، بأسمائهم مثلاً... ما مفهومك للوطن؟ وهل حقق الوطن آمالك؟

** عندما يكون الوطن في خطر، فإن حبه يتقد في الصدور ويتكاتف أبناؤه للدفاع عنه. ووطننا العربي مازال، منذ قرون، يتعرض للأخطار ويخضع لضروب من الشدائد والمحن، من احتلال عسكري واستعمار استيطاني إلى إنشاء دولة غربية في قلب الوطن. وإذا كان المواطن العربي العادي يسمع ويشهد ويتألم، فإن الكاتب يمتلك، بعد السماع والمشاهدة والتألم، الوسيلة التي يستطيع بها أن يعبر عن مشاعر الألم والأمل: الكتابة.

وأحسب أن صورة الوطن "المعتدى عليه" مفتقدة، اليوم، عند الأوروبي، فوطنه مصون وآمن لا يمسه أذى من قبل "أجنبي"، ومن ثم تراجعت عنده المشاعر "الوطنية" (ولا أقول: بادت! لأنها قابلة للاسترجاع إذا ما لاحت في الأفق بوادر خطر)، وحلت محلها عاطفة أخرى، هاجس آخر: الحرية، أن يتمتع الأوروبي بكامل حريته الشخصية والسياسية. ولعل هذا ما يفسر الاستغراب الذي يعتري الأوروبي، وهو يستمع إلى الخطاب العربي المشبع بالوطنية، فيتعجب من هذه النغمة- التي قد يراها "شوفينية"- وهي تتردد على لسان العربي، وكذلك على ألسنة الناس في العالم الثالث.

وينطلق مفهوم الوطن عندي، من حبي للمدينة التي أعيش فيها، مروراً بالدولة التي أستظل رايتها، وانتهاء بالوطن العربي الكبير الذي أنتمي إليه، هذا الذي بتماسكه تقوى الأمة ويتعزز موقفها تجاه ما تتعرض له من اعتداءات عسكرية واقتصادية وثقافية.

ومن المؤسف أن المواطن العربي يعاني من مخاطر قد تقاطرت عليه من جهتين: الخارج والداخل أيضاً؛ إنها العدوان من الخارج والاستبداد في الداخل... أجل، فإن غياب الديمقراطية من واقع المجتمعات العربية ما هو إلا عدوان آخر على الوطن والمواطنين!

وقد اتّخذ حبّ الوطن، عند الإنسان العربي اليوم، صورة لم يألفها الرجل الغربيّ، تلك التي تتمثّل في العمليات الاستشهادية التي يُبدعها المجاهد الفلسطيني، الذي ترى فيه قمة التضحية وذروة الفداء، ويخطئ الغربيُّ كثيراً إذا ما رأى فيه "مهووساً" يضيّع حياته في سبيل ما يُسمّى الوطن!

وفي الداخل، لقد أخفق الحاكم العربي، في علاقته بمواطنيه في أن يؤمن لهم الحماية في مواجهة العدوّ الخارجي، كما عجَز عن تحقيق الكفاية من العيش الكريم ومن بعد ذلك الرفاهية. فمازال الحاكم يعتمد على "الموالين"، مهمشاً الأكفاء الذين تبنى بهم الحضارات. وهكذا جعلت بطلاً لإحدى قصصي، أستاذاً أكاديمياً رفيع المستوى، يعاني من الاضطهاد في وطنه حتى ليعتزم الرحيل عنه، مردداً أمامهم: "عندما يضطهد المواطن في وطنه الحبيب، يكف الوطن عن أن يكون حبيباً. ("البحث عن وطن"، مجلة "العربي"، العدد 452 يوليو 1996؛ وكتابي "آه يا وطني!"، دمشق 1996).

* يلاحظ القارئ أن النزعة الإنسانية تأخذ مساحة كبيرة من قصصك، وذلك حين تصور حياة الفقراء والبسطاء بمحبة، وفي تصويرك أيضاً أوضاع الموظفين والمثقفين... هل أنت اشتراكي؟ فسر لنا ذلك.

** أعتقد أنه ما من ديانة أو فلسفة، في العالم وعبر التاريخ، إلا وفيها قدر كبير من التوجهات الإنسانية (عدا "اليهودية" التي تشجع على قتل الغير). وأما "الاشتراكية"، فهي وليد حديث لا يتجاوز عمره المئة والخمسين عاماً، منذ ابتداء الثورة الصناعية في أوربة وما رافقها من استغلال لطبقة العمال... فالنزعة الإنسانية أعرق وأشمل وأبقى. وليس من شك في أن ذات الأديب والفنان تصدر عن هذه النزعة الحميمة، التي لولاها ما كان هناك أدب أو فن.

من جهتي، تحركت، مذ كنت صغيراً بين الشعبيين والبسطاء، في الحي الذي أسكنه، وفي السوق الذي أرتاده يصحبني إليه أبي كي أساعده في العمل في "سوق المدينة" الشهير بحلب. وهناك التقيت كثيراً بالشغيلة، ابتداء من الحمالين حتى الباعة، مروراً بالمشترين الذين كانوا من أهل الريف والبادية. والحقيقة، أنني ازددت حباً لهؤلاء الناس، منذ غادرتهم إلى الدراسة خارج البلد (القاهرة)، وبالأحرى منذ نويت أن أصبح كاتباً يؤلف القصص والروايات، فكانوا لي منجماً من ذهب، والأصح: منجماً من البشر، أستلهم منه شخوصي القصصية، على غرار ما رأيت الكتاب المصريين الذين قرأت لهم يستلهمون رجل الشارع المصري، عنيت: إبراهيم عبد القادر المازني ويوسف السباعي ومحمود تيمور ونجيب محفوظ... وسواهم.

وغني عن البيان أن الكاتب، في حرصه على أن يكون أدبه مقروءاً، نتوقع منه أن يفيض على شخوص قصصه الحب ويتعامل معهم بصدق، حتى يدخل بهم إلى قلوب قرائه، فإن افتقد الحب والصدق خاب مسعاه.

وأما "التطبيق الاشتراكي" -كما عرفته في ستينات القرن الماضي - فإني أتحفظ تجاهه. ولذلك لم أتأخر في أن أعبر، في سيرتي (التي نشرت في "موسوعة الأدباء العرب المعاصرين" باللغتين العربية والإنكليزية)، عن أني "أؤمن بالاشتراكية التي تخدم المجتمع ولا تعلو عليه، وتتنزه عن أن تكون مجرد شعارات تملق أو مزايدة أو انتقام... وإني أقدس الحرية والعدالة لأنهما جوهر الكرامة الإنسانية، وأكره الفقر والاستعباد لأنهما والكرامة الإنسانية على طرفي نقيض" (المجلد الثاني، ص 701 و702). كتبت هذا في العام 1982..

* لاحظنا أنك، في بعض قصصك، تقدم رجال الأمن لقرائك في صورة الأغبياء... ما تفسير ذلك؟

** لنحدد، أولاً المراد برجل الأمن الذي تعنيه قصصي. إنه، يقيناً، ليس الذي يحفظ أمننا ويحمينا من الأشرار والأعداء. ولكنهم أولئك الذين ينتزعون الأب والأخ والابن، والحفيد أيضا، حيث يخضعونهم لألوان من التعذيب النفسي والجسدي، حتى يقع المعتقل بين أيديهم مغمى عليه أو ميتاً! وليس لأحد أن يظن أن هؤلاء بشر أسوياء.

أجل، إني قدمتهم بصورة الأغبياء، مرة، في قصتي "الصورة والاسم" (ترجمت إلى الفرنسية)، بأن جعلت بطل القصة المطارد يتفلت من قبضتهم بذكائه وحيلته، ثم كان لابد من سقوطه في الأخير تحقيقاً لأهداف القصة!

وفي "العينان في الأفق الشرقي"، يعمد السجان إلى أن يلجئ بطل القصة المثقف (رئيس دائرة الشؤون القانونية في وزارته) إلى أن يقّبل بسطاره (البسطار هو الحذاء الذي يلبسه العسكري)، فلما تأتى له ذلك أخذ يردد منتشياً: "غدوت مواطناً صالحاً... لقد غسل دماغك جيداً!" (نشرت في مجلة "الكاتب" القاهرية، العدد 171، يونيو 1975؛ وكانت قد لبثت عاماً كاملاً عند رئيس تحرير مجلة "الموقف الأدبي" في اتحاد الكتاب بدمشق، دون أن ترى النور).

وفي "الصمت والموت" (ترجمت إلى الروسية)، أخذ الجلادون في تعذيب بطل القصة منذ قبضوا عليه في أول المساء، راغبين في أن يجيبهم بالإيجاب عن سؤالهم من أنه هو من ألقى القنبلة على جريدة الحزب الحاكم، وهو البريء. وبعد منتصف الليل يسقط بين أيديهم ميتاً! ثم يسقط في أيديهم عندما يعثرون، في الصباح، على... الفاعل! واعتذروا لأبيه، بأنهم أخطؤوا في "الظن" (في الاشتباه به)، وبأنهم أخطؤوا في "التقدير" (تقدير قوة تحمله للتعذيب)! ("الألم على نار هادئة"، الطبعة الثالثة، دمشق 2002).

إني إذا ما قدمتهم بصورة الأغبياء وكذلك أجلافاً قد خلت قلوبهم من الرحمة، فذلك أقل ما يمكنني فعله، أنا الكاتب الذي لا يملك ما يجابههم به سوى... القلم، المغموس بدم القلب!

* في قصصك النقدية هذه، رأيناك تبالغ في تصوير ظلم الظالم واضطهاد المضطهدين، فتخرج في ذلك عن المألوف إلى ما هو شديد الغرابة... حدثنا عن ذلك.

** يا عزيزي فيليب! إن الكاتب الملتزم هو، ابتداء، ناقد للحياة، ولولا نقده للخطأ وللغباء لما كان لأدبه معنى، يصبح كالماء لا طعم ولا رائحة.

منذ أمسكت القلم وأنا أقوم بالنقد، في قصص شعبية وعاطفية واجتماعية: أتجه إلى الخطأ فأكشف عنه، وإلى الغباء فأتهكم على أصحابه، حتى إني لأثير أحياناً من ضحك الناس (أضحكتهم كثيراً على "عثمان العطار" بطل روايتي "الطبل"، دمشق 1992!). ولم يكن للسلطة أن تسخط علي في ذلك لأني لا أقترب منها! ولكني سخرت مرة من العاملين المهملين والمرتشين في دوائر القضاء، في قصتي "ذقون في الهواء"، فحكم علي بالحبس عشرة أيام مع وقف التنفيذ! (نشرت في مجلة "الشهر" القاهرية، نوفمبر 1958).

ولكن... (ولابد هنا من كلمة: لكن!) عندما بدأ يسود الأقطار العربية في الخمسينات، وكذلك كثيراً من دول العالم الثالث، حكم "شمولي" (كولونيالي)، لا يرى كل نظام فيه الحق إلا في جانبه، نافياً الآخرين كلّ الآخرين، اهتزّت في أعماقي المشاعر الإنسانية التي صقلتها دراستي للقانون، فكان أن اتجهت، في نقدي، إلى هذا الجانب.

ولقد كان يتعذر علي أن اتخذ، وأنا في هذا الاتجاه، من "الواقعية" أسلوباً في القص، فتجاوزتها إلى عالم من الخيال اجترحته: وهكذا أخذت أسمي أبطال هذه القصص بـ "حروف" بدلاً من الأسماء، وأجردها من رسم المكان وتحديد الزمان، وجعلتهم، هؤلاء الشخوص، يتحركون في عالم متخيل مسكون بالغرابة، هو شيء من "الفانتازيا"!

فأنت حين تبدأ بقراءة إحدى هذه القصص، تسائل نفسك: هل هذا واقعي؟ وتقول: أرى البطل وكأنه يتحرك في حلم، حلم كثيف؛ وبعد ذلك تقول: ولكن هذا يشبه الواقع؛ ثم: إن هذا خيال... وساعة تغلق الكتاب، تحدث نفسك وكأنك وقعت على السر: لقد كان هذا الكاتب يحلم، ولكنه قال من الحقيقة ما يريد. أجل، فإني جعلت أبطالي، ههنا، يسيرون على الخط الفاصل بين الحلم واليقظة، بين الواقع والخيال!

هذا الأسلوب، الذي اضطررت إليه نجاة بنفسي من الوقوع بين براثن السلطة كان علي أن أبالغ فيه. فكما يبالغ كاتب النص المسرحي في رسم شخوص مسرحيته، ويبالغ المخرج في رفع أصوات ممثليه، ويبالغ فني المكياج في تلوين وجوههم، فإني لذلك أبالغ في تصوير مطاردة السلطة للمواطنين الذين أجعلهم أبرياء، وأبالغ فيما يبديه الجلادون نحوهم من القسوة، رغبة مني مشروعة في جعل القراء وإياي في صف المقهورين.

على أني كتبت في نقد الأوضاع قصصاً في الأسلوب "الواقعي"، بدت فيها القسوة مضاعفة، لم يلطفها خيال غرائبي... أذكر على وجه الخصوص: "الصمت والموت" (سبقت الإشارة إليها، في مجلة "الآداب" البيروتية، العدد الرابع الإضافي، نيسان/ إبريل 1973)؛ و"اللقاء الأول بالسيدة المعتصمة"، التي تروي مساعي من سمته القصة "زند النظام" (ينم اسمه على الجهة التي يمثلها) لعقد لقاء مع "السيدة المعتصمة" (ترمز إلى المعارضة المتوارية)، أملاً في التفاهم وتسوية الخلاف بالحوار الديمقراطي، فحسب قول الرائد العظيم "نظام الدولة": "إن القضية الوطنية لا يختلف فيها مواطنان صالحان"... وساعة يجمعهما قريب الطرفين في لقاء خاص في بيته، تقطع رقبة السيدة المعتصمة بضربة من ساطور! (مجلة "البيان" الكويتية، العدد 212، نوفمبر 1983؛ وكتابي "آه يا وطني!").

* عالمك القصصي هذا، المسكون بالغرابة.. هل تعرّفه لنا؟

** بعد اللمحات التعريفية التي تقدمت، يتبين أن "الغرائبية" ليست بدعاً في أدب اليوم. إنها أسلوب لجأ إليه "الرواة" قديماً وكتاب القصص المدونة فيما بعد، مستثيرين الإعجاب عند المتلقين بما يبتدعونه من عوالم خيالية تروق وتخلب الألباب. وقد امتلأ كتاب "ألف ليلة وليلة" بكثير من ذلك، مثلما أغنى بمثله ابن المقفع (من أوائل مثقفي الحضارة العربية الإسلامية الذين دفعوا دمهم ثمناً لأفكارهم الجريئة) كتابه الفريد "كليلة ودمنة" في عصر سبق، مع الاختلاف بين هذين العملين العظيمين في الشخوص (إنسان، حيوان) وفي الأهداف ( اجتماعية، سياسية).

وأرى أن "الغرائبية"، مصطلحاً، يقابل المصطلح الغربي إذا ما جردنا هذا الأخير مما يتبدى في مفهومه من التجليات الخرافية.

وما أحب أن أتوقف عنده في تعريفي هذا، هو الجانب الفكري السياسي في الغرائبية، لا تلك النزعة التي تحدو الكاتب على أن يتفنن في رسم عوامل خيالية خلابة بعيداً عن النقد السياسي.

أقول: في الستينات ظهر في الأدب في سوريا اتجاه أدبي قصد به أصحابه أن يحدثوا تجديداً في كتابة القصة بخلق عوالم يتجاوزون بها الأساليب السائدة في القص والحكي. كانت أهدافهم ففّيّة (ندر فيها النقد السياسي) وسمَّوا اتجاههم هذا "الحداثة" وأطلقوا على ممارسه صفة "كاتب حداثي" هذا الاتجاه ما كان له أن يشكل مدرسة فنية ما، لأنه لم يَعْدُ أن يكون نزعات شتى كلها تجريب في تجريب، وكان الأصح أن يوصف اتجاههم بـ"التجريبية"... ثم إن صوت هذا الاتجاه خفت وجفت ينابيعه!

في هذا الصدد أقول إن دوافع أولئك إلى ممارسة هذا الأسلوب كانت رغبات عندهم في أن يظهروا مجددين غير اتباعيين، فلما همدت الفورة همدوا. وأما اتجاهي نحو الغرائبية، فكان بدافع "الحاجة" (لا "الرغبة" في تجديد أو تحديث).

فإني مازلت وفياً للواقعية الشفيفة، حريصاً على أن يصل خطابي عبرها إلى الجماهير العريضة. ولما كان يتعذر عليّ اتخاذ هذا الأسلوب في انتقادي للأوضاع، فقد اتجهت إلى الغرائبية فهي عندي وسيلة لا غاية.

وتفيدنا الإشارة هنا، إلى ما قاله الناقد السوري "الدكتور سمر روحي الفيصل" من أن "الغرائبية" أسلوب قصٍّ لا يزدهر في العالم الديمقراطي ولا يعيش في مناخ حرية التعبير والتفكير بل يزدهر كلما زادت الديمقراطية هزالاً، ويتألق كلما انحسر حق المبدع في التعبير ولهذا السبب عرفت الآداب، الأجنبية والعربية، هذا الأسلوبَ الغرائبي في أزمنة الضيق والتضييق وحدها، وشهدت في الأزمنة نفسها ترسيخه وتنويعه ونقله من المحلية إلى الإنسانية".

ومع ما في هذا الرأي من فهم للأدب وللحياة، فإني أزيد عليه بأن القارئ - الذي يعيش تحت خيمات الحكم ا لشمولي-يجد في هذا الأسلوب ما يعبر عن واقعه، ويرى فيه كذلك إطلالة على غد يحمل نسمات الأمل ونسمات الحياة وأضيف أن قارئاً في جانب ما من الكون، من المستظلين نعمة الديمقراطية، قد يشوقه هذا اللون من الأدب، لأنه يطلعه على معاناة أولئك الذين يعيشون على الشاطئ الآخر من الكون. وذلك ما وقع لناشر فرنسي اتفق له أن قرأ بالفرنسية إحدى قصصي الغرائبية هذه "الصورة والاسم" فأعلن أن هذا مما يروق المثقف الفرنسي، وقرر ترجمة كتاب من ذلك إلى الفرنسية.. فأكون بذلك قد وفقت في أن أنقل هذا الأدب "من المحلية إلى الإنسانية"!

* هل شاركك في كتابة القصة بأسلوب "الغرائبية" كتاب سوريون؟ فإن كان ذلك، فما الفرق في المعالجة بينك وبينهم؟

** ينبغي أن أبيّن، أولاً، أني (بصفتي كاتباً قصصياً سوريّاً من سنّ معينة) أنتمي إلى ما نُسميه "جيل الخمسينات" (ظهرتُ كاتباً في أواسط هذا العقد) وقد انتظم في هذا الجيل نحو ثلاثين كاتباً. وأحسست أن أبرز من كتب في الغرائبية في سورية ثلاثة، ثانيهما ظهر في أواخر الخمسينيات، وظهر الثالث في أوائل العقد الذي يليه. وأعترف بأنّ هذين الزميلين (وأُحجم عن ذكر اسميهما) قد سبقاني إلى ممارسة هذا الأسلوب وبه تقريباً عُرفا.

وفي محاولتي تبيان الفرق في المعالجة بيني وبينهما، لابدّ هنا من تحديد موقف كلّ منّا –نحن الثلاثة- من السلطة فالاثنان يُعدّان من المؤيّدين (وليس في هذا انتقاص لهما). كما أنه ليس لأحد أن يظن أني منهم. وفي توضيح الأمر أقول: إنّ السلطة احتضنت أولهما طوال الستينات والسبعينات لدواع ما، قبل أن يغادر إلى الغرب مهاجراً باختياره. وأما الثاني، فقد تقرّب إلى السلطة في مطالع السبعينيات، فاحتضنته، وظللتُ، أنا الثالث، أرقب، معتزلاً ومعزولاً!

كتب الاثنان في الغرائبية، ولم أكتب فيها. وقليلاً ما نقدا الأوضاع في "غرائبيتهما" ولم يكن متاحاً لي أن أمارس النقد في "واقعيتي" المباشرة. تقبّلت السلطة نقدهما على قلّته، فهو صادر عن "أصحاب" وإنّ في شيوع هذا اللون من الأدب لشاهداً على مناخ حرية به يحتجون، فلما ثقلت الوطأة عليّ أنا، توسّلتُ بالغرائبية، تعبيراً عن هواجسي وتنفيساً عمّا أعاني، فلم يرحّبوا بي، وجدوا أدبي فظاً غليظاً، لأنه –في تفسيري- آتٍ من "الطرف الآخر" وأوصدوا دوني الأبواب، فأنا لا أدخلها إلا والباب موارب! غير بعيد من اليوم، بعد أن رُشّحت إحدى قصصي للنشر في مجلة شهرية، سُحبت وهي في المطبعة من قبل من هو فوق رئيس التحرير، لأنهم وجدوها فظّة، وحيل بينها وبين أن تكتحل عيناها بالنور في أحضان مجلة في وطني.

أقدّم القصص إلى الدوريات فيرفضون نشرها: "أنت تتجاوز الحدود!" وقد تجاوزت الحدود فعلاً، بأن بعثت بالقصص إلى دوريات وراء حدود وطني الصغير، بيروت، القاهرة، الكويت... وإنّ من أجمل ما كتبت في ذلك وأقواه، ظهر في مجلة "العربي" الذائعة الصيت وفي مجلة "البيان" (عن رابطة الأدباء بالكويت) والكويت هم صنّفوها بلداً "محافظاً" ولكنّا نراه يفتح نوافذه غير هيّاب على ما يهبّ عليه من عليل الأنسام.

في فروق المعالجة، أستطيع القول (ولعلّ في هذا استرسالاً لا يُستحب من قاصّ بتحليل أدب نفسه) أني في هذا الأسلوب القصصي لم أتخلّ عن خصائصي في كتابة القصة الواقعية.. فأنت، حين تقرأ قصصي الغرائبية هذه، تجد فيها –وأستعير هنا قولاً لأحد النقّاد- قصة واضحة ذات حكاية، ولكنك تقرأ حكاية لا تستطيع تعليل منطق حوادثها، لأن لها دلالاتها السياسية ضمن منطلقها الغرائبي.

أضرب لذلك مثلاً: قصتي "الأول" (مجلة العربي العدد 301، ديسمبر 1983): مواطن، خرّيج كلية الطب، نابغ، معدّله العام 99.99% يؤدي امتحان "الثقافة العامة" (امتحان شفوي، يديره ممتحن صارم) ينجح "س" وينال عشرة على عشرة، فيُخضعه الممتحن لامتحان آخر تعسّفي، ينجح فيه بأن ينال أيضاً عشرة على عشرة، ثم يخضع لامتحان رابع وخامس.. وبدلاً من أن يُكتب له النجاح أخيراً بتفوّق، يُعلمه الممتحن أنه خسر الامتحان والمؤهّل، فالخمسون درجة التي حصدها قد تآكل معدّله العام بمقدارها حتى أصبح 49.99% لماذا؟.. لأنّ "تقارير الأمن الطلابي التي وردت إلينا من جامعتك، تؤكد كلها أنك لم تُشاهد يوماً وأنت تسير في مسيرة، أو تهتف مع الهاتفين، أو تصفّق مع المصفّقين"! (كتابي "اعترافات ناس طيبين"، الطبعة الثانية، دمشق 2002).

إنها قصة ذات حكاية، ولكنها حكاية لا تعليل منطقياً لحوادثها! وغرائبيتها تشجب، بجهارة الصوت، انتهاك مبدأ تكافؤ الفرص، قصة استلهمتها عند قيامي –وأنا مدير في وزارة التعليم العالي- بمهمة امتحان المرشحين لشغل وظيفة معيد في الجامعات، في مادة سميناها "المقدرة في اللغة العربية".

* ما تزال تذكر أنك تكتب عن العالم الثالث.. ولكن ما تتضمنه قصصك هذه يؤكد للقارئ أنك تتحدث عما يجري في العالم العربي.

** يا عزيزي، الكل متشابه! إن ما يقع في وطني الصغير الحبيب يقع مثله وأكثر منه في بعض الأقطار العربية، وما يقع في أقطارنا العربية يقع مثله، على نحو أو آخر، في الدول المغلوبة المقهورة!

ففي كل دولة من دول العالم الثالث، زعيم أوحد، أفهم، أعلم، أعظم، أكرم، ملهم، محنّك، خالد.. وقادر على محو مخالفيه من خريطة الحياة.. إنه الصوت الوحيد الحقّ!

* هل عانيت، في نشر مؤلفاتك في بلدك من تحيّز السلطة ضدك؟

** عندما بدأت حركة النشر في سورية بالازدهار في سنوات السبعينيات، تاقت نفسي (وأنا الذي ظللت أنشر نتاجي الأدبي في بيروت والقاهرة) إلى أن أرى لي، في رياض النشر في وطني، زهرة ولو واحدة!.

قدّمتُ مرة، إلى وزارة الثقافة مخطوطتي "رحلة حنان" (قصصها ليست غرائبية) وما أسرع ما ردّت إليّ بالبريد المسجّل مع التمنيات بحظّ أوفر في المرات القادمة! فوجهتها إلى أعرق دار للنشر في الوطن العربي: دار المعارف بمصر، فظهرت في سلسلة "اقرأ" (العدد 403، أكتوبر 1975، طبعتها الثانية، دمشق 2002).

وقدمتُ، في مرة أخرى، إلى اتحاد الكتّاب العرب مخطوطتي "حزن حتى الموت" فلبثت عندهم عاماً وبعض العام قبل أن يعتذروا لي عن عدم النشر (وضاعت المخطوطة، في أدراج مكاتبهم) وبنسخة أخرى ذهبتُ إلى بيروت، حيث نشرتْها لي "الأهلية للنشر والتوزيع" فوراً، وتكررت طباعتها بعد ذلك مرتين (والرابعة، دمشق 2002) وقد تُرجمت أربع من قصصها إلى الفرنسية والألمانية والأرمنية والألبانية!

وفي ذلك أقول متندّراً أنه كان يملك، سعيداً، في كل من هاتين المؤسستين الثقافيتين الكبيرتين: روائي نابغ في الوزارة (ح.م) وقاصّ نابغ في الاتحاد (ز. ت) وما كان يرضى أيّ من هذين النابغتين أن يدخلني في الملكوت الذي يرى نفسه السيد الأوحد فيه! بدا أنهما لم يكونا يؤمنان بـ "تعايش النابغتين!"، بل بـ "تصارعهم"... وا أسفاه!

وليس لي أن أدّعي أن "السلطة" في مستوياتها العليا، تتحيّز ضدّي فهذه غير معنيّة بذلك ألبتة، ولكن المعنيين كانوا "زملاء" لنا، من "مثقفين غير مثقفين" كتّاباً يفتقدون حسن النزاهة والعدل، قد أخذوا على عاتقهم أن يقوموا بدور الحارس "غير الأمين" على أبواب السلطة!

* هل سببت لك جرأتك في نقد الأوضاع في قصصك، متاعب مع السلطة في بلدك، أو مع الأنظمة العربية الأخرى؟

** أقول: إنّ هناك "هامشاً" من الحرية، جربتُ على التحرّك في نطاقه، وأعترف بأني قرأت في المنتديات الثقافية (المراكز التابعة لوزارة الثقافة أو لفروع الاتحاد، في دمشق والمحافظات) كثيراً من هذه القصص. مرة قال لي الأديب جورج سالم –رحمه الله- في فرع الاتحاد بحلب، بعد أن قدّمت للجمهور قصتي "الصمت والموت" _ربيع 1973): "هذا أجرأ ما قُرئ عندنا!" ومرة قالت لي سيدة، بعد أن استمعت إليّ في قصتي "العينان في الأفق الشرقي": "لقد ظننت أنهم، بعد أن تنزل عن المنبر، سوف يضعون القيود في يديك".

ظللت أعرف "حدودي"! ولكن بدا أن بعض "العيون" التي تلاحقنا هنا وهناك، لا تعرف حدودها! فقُبيل نهاية اللقاء، الذي جرى بيني وبين الطلاب في "مدرج المتنبي" بجامعة حلب (مساء الاثنين 22 كانون الأول/ ديسمبر 1980)، طُلب مني أن أقدم لهم قصة، فقرأت "الأشباح" بطلها يموت بين أيدي جلاديه، فتتحول روحه إلى شبح، ينزل على رؤوسهم بهراوته، ثم يُتاح له أن يتعرّف على أشباح آخرين، فيؤرّقوا الجلادين في البلاد بهراواتهم.. يقول بطل القصة في آخرها: "نحن الأشباح نفعل كذا وكذا.. ولكن أليس على الأحياء أن يتحركوا؟!" (نُشرت في مجلة "الثقافة العربية" بنغازي، ديسمبر 1981، ثم ضمّتها مجموعتي "آه يا وطني" تُرجمت إلى اللغة الصربو – كرواتية، ونُشرت في بلغراد بكتاب ضمّ مختارات من القصص العربية).

أقول: طلاب، كان موكولاً إليهم المراقبة، أخبروا بما سمعوا، وبدلاً من أن أتوجّه، ذلك المساء، برفقة عميد الكلية وعدد من الأساتذة، إلى وليمة عشاء، اقتادني طلاب من "اتحاد الطلبة" في الجامعة (أحدهم ابن لصديق لي) إلى جهة أمنية ما، حيث أُلقيت في زنزانة، وبعدها ساقوني إلى العاصمة، ليُلقوا بي في زنزانة منفردة، ومن حسن حظي أني وقعت في أيدي أمنيين تابعين لوزارة الداخلية.

الطريف أني، وأنا في تلك الزنزانة الباردة (أنام فوق البلاط على بطانية واحدة مثقلة بالأوساخ وألتحف بأخرى، فكأنهم يريدون لـ "سجين الرأي" أن يموت من القهر والبرد والجراثيم) استوحيت قصة، كتبتها: "بدر الزمان" حكاية أسطورية للصغار والكبار. ثم إن صديقي رئيس تحرير مجلة "المعرفة" (التي تصدر عن وزارة الثقافة) تجرأ ونشرها على طولها في المجلة (العدد 327، كانون الأول/ ديسمبر 1990)، فمنحني بذلك مشروعية أن أصدرها بعدئذ في كتاب (دمشق 1992)، ثم كان أن صدرت في كتاب بالإسبانية (برشلونة 1999).

ولم تقع لي قط متاعب مع السلطات في الوطن العربي، على العكس من ذلك، إني أجد أن أدبي مرحّب به في كل مكان. وأما وسائل الإعلام العربية، المكتوبة والمسموعة والمرئية، فهي أكثر ترحيباً.

* هل يُعبر المثقف العربي، اليوم، عن أماني الجماهير ويمثل طموحاتهم؟ أم أن هناك انفصالاً بينه وبينهم؟

** ليس المثقف العربي "نموذجاً" واحداً يستجمع الصفات كلها، إن المثقفين تتوزّعهم، في كل مكان وزمان، أفكار ومشاعر وأمزجة شتى: فمنهم من آمن بحرية الفكر وجد بحثاً عن الحقيقة، ومنهم نقيضه الذي "يأكل خبز السلطان ويضرب بسيفه" وبين هؤلاء وأولئك مراتب تميل مبتعدة عن الوسط إلى هنا أو إلى هنالك.

وقد رأينا، في زمن الناس هذا، مثقفين من هذه المراتب كلها: منهم من ذاب عشقاً في الحرية حتى السجن الممتد والموت، ومنهم من ارتمى في حضن السلطة، يرضع ثدييها، ثم يدوس بنعله بطون المثقفين حتى إن كانوا من أصدقائه، وهذا هو من قصم العُرى بينه وبين المثقفين، ومن ثم بينه وبين الجماهير.

من ناحيتي، ليس لأحد أن يظن أنه يمكن أن أنفصل، لحظة واحدة، عن الناس، الذين أحببتهم متعبين يُحصّلون بالجهد كفاف يومهم، وأطفالاً أحاول أن أمسح الدمعة عن وجوههم، ونساء قد أضناهنّ العناء والضجر والخوف، ورجالاً قد أصلَتْ الظلم عليهم سيفه ترهيباً وتعذيباً وتقتيلاً.. إن المداد، الذي سفحته كاتباً على مدى خمسين عاماً، هو الشاهد.

* أستاذ فاضل السباعي سؤال أخير: أنت، منذ خمسين عاماً، تكتب القصة والرواية، وقد انعطفت في منتصف هذه المسيرة، نحو التاريخ، الأندلسي خاصة، فكتبت فيه دراسات وبحوثاً قدمتها في مؤتمرات متخصصة.. ما تقول في ذلك؟

** يساورني اعتقاد بأن المثقف العربي، الذي قرأ الجاحظ والمتنبي والمعرّي وابن زيدون وأحمد شوقي ونزار قباني، لابدّ من أن يحبّ لغته العربية وتاريخه العربي، ويزداد يوماً بعد يوم إحساساً بالانتماء إلى الأمة التي أنجبته.

وقد أكببت، في هنيهة من عمري، على تاريخ المغرب والأندلس، وكتبت فيه سير الفاتحين، فلما قرأت مصنّفاً في الطب الأندلسي، هو "كتاب التيسير في المداواة والتدبير" ازددت حبّاً للتاريخ، وللتاريخ الأندلسي خاصة، ولمؤلف هذا الكتاب الطبيب الوزير "عبد الملك بن زُهر الإشبيلي" الذي قضى مع علمه ومنزلته، في السجن –ولدواع سياسية- عدداً من السنين، كان فيها يداوي زملاءه السجناء، فلما تحرّر ألف كتابه هذا، الذي تُرجم في الأندلس إلى اللاتينية وغدا مرجعاً يدرسه طلاب الجامعات في فرنسا. ولقد أثرت في سيرة هذا الطبيب السجين، حتى إني هممت أن أؤلّف كتاباً حول الأطباء الذين امتحنوا من قبل السلاطين والأمراء، لولا أن ثناني عن عزمي هذا صديقي الباحث الغيور "عمر رضا كحّالة" وقد كانت تجمعنا في أصائل الصيف، جلسات في "حديقة ابن سينا" المطلة على "شارع أبو رمانة" بدمشق طيّب الله ثراه.

في دراستي للتاريخ الأندلسي، عرفت مدى ما اتّسم به ذلك التلاقي الأممي من التسامح، ما بين عرب قد جاؤوا حين الفتح وبعده، ومغاربة ظلّوا يتواردون إلى الأندلس، وكان أكثر من تكون منهم نسيج المجتمع الأندلسي هم ذوو الأصول الإسبانية، أو أبناء شبه الجزيرة الإيبيرية، معتنقو الإسلام باختيارهم جيلاً بعد جيل.. ومن هنا كان بناء هذه الحضارة في الآداب والعلوم والفنون، التي أقول فيها: إنّ العقول التي أنجبتها كانت أندلسية، من الأقوام الثلاثة خلال القرون الثمانية من عمر الإسلام هناك، أبدعوها، وما كان لهم أن يبدعوها لولا الثقافة الإسلامية.. ويصبح وهماً قول القائلين بأنّ مبدعيها هم "الإسبان" (ذوو الأصول الإيبيرية)! ولهم أقول: إن كانوا إياهم وحدهم فلمَ لم ينتج الإسبان في ممالكهم المسيحية في الشمال، في الحقبة ذاتها، حضارة موازية، أو أية حضارة؟ ولمَ لم يُتح للإسبان أن ينتجوا قبل الفتح الإسلامي حضارة ما؟ بل لمَ عجز الإسبان، بعد سقوط غرناطة، عن الاستمرار في الإبداع الحضاري، وإنهم ما زالوا يعيشون على ما تبقى لهم من أوابد تلك الحضارة الإسلامية الزاهرة؟

ذلك بعض ما حبّب إليّ دراسة التاريخ الأندلسي، وما خرجتُ به بعد الدراسة من أطروحة، بثثت أفكارها في ثنايا كتاب شيخ المستشرقين الإسبان المعاصرين البروفيسور "خوان فيرنيت" يوم نشرت ترجمته إلى العربية في مجلد ضخم حمل عنوان "فضل الأندلس على ثقافة الغرب" (دمشق 1997).