شريف الراس

حوار مع الأديب العربي

شريف الراس

أجرى الحوار: أحمد رمضان

"أجرى الحوار في شهر نيسان 1989 في بغداد، ولم يُنشر إلا الآن لظروف..."

س1: أصدرت مؤخراً روايتيك "طاحون الشياطين" و"الورطة" وقد اعتبر البعض هاتين الروايتين يعبران عن اتجاه جديد لك في الكتابة والفكر.. هي تؤيد مثل هذا الاعتقاد؟

ج1: تريد أن تقول إنني كنت كاتباً اشتراكياً أو داعية قومياً، وأصبحت كاتباً دينياً أو داعية إسلامياً. هذا غير صحيح. هذه الـ "كنت" و "أصبحت" غير صحيحة. إننا نضيّع أنفسنا في الكليشيهات والتصنيفات.. وبدلاً من أن ننظر إلى سلوك الشخص وقماشته وفعالياته نضيّع أنفسنا في قيود "التصنيف" وفي البحث عن مدى مطابقته مع مواصفات ذلك التصنيف.

خذ مثلاً أولئك النخبة من أدباء فرنسا ومثقفيها وفنانيها، الذين نزلوا إلى شوارع باريس يوزعون المنشورات ويحثون الناس على التظاهر ضد مرتكبي مجزرة لبنان الأليمة، وإعلان الغضب عليهم، والهتاف بلعنهم، وإحراق أعلامهم، أقول: هل أولئك النخبة الفرنسيون الشرفاء عرب أو مسلمون؟ الجواب قطعاً: لا..

حسناً.. أنا أصنّفهم في أشرف مكانة من موقع الأدباء العرب والمسلمين.. فالمهم يا أخي هو الموقف لا اللافتات ولا الشعارات ولا التصنيفات..

خذ مثلاً آخر ذلك الإنسان المدعو محمد مهدي الجواهري.. كثيرون يصنفونه على أنه أعظم شاعر عربي معاصر..

كيف يكون شاعراً -أساساً- من يقف مع المعتدين على أمته ضد أطفال أمته. وضد حريتها وكرامتها وتراثها ودينها..

مثل هذا الرجل ، في شرعي، ليس أديباً.. وإلا فهل لك أن تخبرني لماذا سمى العرب الأدب "أدباً"؟..

لذلك فإنني عندما كتبت طاحون الشياطين، والورطة، وغيرهما من الروايات التي ترى في الإسلام العظيم سبيل الخلاص الأمثل لتحقيق حرية الإنسان العربي وحفظ كرامته وضمان عزته، وتوفير الشروط السليمة لتقدمه ونهضته، لم أكن كاتباً جديداً أو منعطفاً 180 درجة عما كنت عليه طول حياتي.. فأنا أنا لم أتغير: انحياز مطلق مع المظلومين ضد الظالمين.. انحياز مطلق مع الحرية ضد الطغيان والدكتاتورية والهمجية..

لست أنا الذي تغيّر.. الظروف والشخصيات هي التي تغيرت..

وإلا تعال وخبرني: عندما كنت في طليعة الكتاب القوميين العروبيين، كنت أجرأ وأشجع من تصدى لطغيان عبد الناصر، عندما كان اسم هذا الطاغية المتألّه يثير الرعب في القلوب، وهو في أوج سلطانه وجبروته.. إذن أما كان الأجدر بهواة التصنيفات أن يضعوني في خانة "الكاتب الإسلامي"؟

أم أن الكتاب الإسلاميين هم الذين ينشرون اليوم، وعلى استحياء، شتائم ضد ذلك الطاغية الذي لم يبق منه شيء، حتى ولا الشبح، ولا الوهم.

س2: أنت رجل متعدد المواهب والأعمال، ولم تحصر نفسك في اتجاه كتابي واحد، انطلقت في الكتابة الساخرة ومررت بأدب الأطفال وعملت بالكتابة السياسية، ومارست الكتابة التلفزيونية والإذاعية.. وأخيراً العمل الروائي الطويل.. ولكن السؤال كيف يصنّف شريف الراس نفسه؟..

ج2: أنا أصنّف نفسي "صاحب قضية" فقط.

فإن أتيح لي أن أعبّر عن قضيتي بأسلوب الكتابة على الحيطان كتبت على الحيطان. المهم أن لا تخبو جذوة الإيمان والمروءة والحرية والعزة في نفوس أبناء أمتي.. سمّها أمة عربية أو أمة إسلامية أو أمّة سنسكريتية فهذا لا يهمني. أنا وضعت أبناء اليونان على العين والرأس يوم أن كان لهم ذلك الموقف الرائع المشرف إبان محنة أهلي الفلسطينيين في طرابلس الشام.. يوم أن كانت مدفعية الصهاينة تحصدهم من البحر ومدفعية الآخرين تحصدهم من البر، وهم محاصرون تحت كابوس الموت، ونحن -عرباً ومسلمين- واقفون نتفرج عليهم بمنتهى البلادة والسكون والخنزرة.. يومها -لن ننسى هذا- جاءت سفن يونانية فتبنّتهم واحتضنتهم وأنقذتهم. فهل أضع اليونانيين خارج حدود ما أسميه "أمتي"؟

ليس هذا موضوع السؤال.

موضوع السؤال هو أن الذي يصنع مواقف الإنسان هو المعلومات.. أنت تتعاطف مع فلان أو ضده بناء على ما يصل إليك من معلومات عنه.. فاليونانيون إنما اتخذوا ذلك الموقف الشهم الإنساني النبيل لأن معلوماتهم عن الفلسطيني المظلوم جعلتهم ينحازون إليه بحماسة وإيمان وسعادة.

 هذا ما أردت قوله عندما صنّفت نفسي بأنني "صاحب قضية". شعبي مظلوم، مسحوق، مضطهد، محروم من أبسط حقوق الإنسان.. أبناء مدينتي ذبح منهم أربعون ألف محمد وخالد وعائشة وخديجة وعمر وعبد العزيز.. كيف يمكن أن أنساهم لحظة واحدة.. ووجودهم الضاغط في نفسي هو الذي يشرّف كوني إنساناً حقيقياً، وإن واجبي ومبرر حياتي هو أن أجعلهم حاضرين في ضمائر الناس، أن أعرض مأساتهم. أن أجعل استشهادهم محور تفكير كل إنسان شريف..

بعد ذلك لا تهم الوسيلة..

توفرت الإذاعة فأنا أعبر عن قضيتي بالأسلوب الإذاعي.

توفر التلفزيون فأنا كاتب تلفزيوني.

ولمعلوماتك -فأنا لم أتعاط الكتابة بالأسلوب الروائي يوماً قط.. الرواية تتطلب نفساً طويلاً. وأنا دائماً مستعجل. نفسي قصير. هول المحن المتلاحقة يرغمك على أن تقول بسرعة وتنتقل لإثارة جرح اليومي التالي، وهو جرح أشد إيلاماً ووجعاً ونزيفاً. نحن أبناء هذا الجيل لم نشهد في حياتنا يوماً أبيض قط.. وفي سلسلة المآسي والمحن المتلاحقة يأتينا كل يوم بمحنة أبشع من المحنة التي كنا مشغولين بلعن مرتكبيها أمس.. ربما كان هذا سبب ابتلائي بالنفس القصير..

لكنني، بعد مذبحة مدينتي حماة. وجدت أن فن الرواية هو الأفضل والأجدى والأكثر تأثيراً في إيصال ما أريد أن أقوله إلى قلوب الناس وعقولهم وضمائرهم. فكتبت الرواية. الأحرى أن أقول: حاولت.

عندما كتبت طاحون الشياطين مارست هذا اللون الصعب من الفنون الأدبية (الرواية) لأول مرة في حياتي.. أتدري ماذا اكتشفت؟..

اكتشفت أن الذين يقولون إن فن الرواية فن صعب، أو أنه من نوع السهل المتمنع.كذابون.. لأن "الرواية" التي يتحدثون عنها عبارة عن مقولات وأوهام وتركيبات وتلفيقات لا علاقة لها بالإنسان الحقيقي.. لذلك تخرج نتاجاتهم قميئة ممجوجة سخيفة، فيقولون إن فن الرواية صعب..

بينما الكاتب صاحب القضية، المؤمن، الصادق، العاشق أمته، المعجون توقاً لكرامة الإنسان وحريته، الشاعر بمحن الناس الحقيقيين الفقراء والمسحوقين والمذبوحين وأيتام المجازر، الكاتب الذي يكتب عن هؤلاء أنا واثق أن "إيمانه" هو الذي يجعل القلم في يده يكتب أشرف أدب وأصدقه وأقدره على الخلود..

من عشق وطنه "الروسيا" كتب تولستوي رائعته الخالدة: الحرب والسلام.. وإذا كان ديستويفسكي وسيظل معجزة متميزة بين أعظم من كتب الروايات في الدنيا، فذلك لأنه لم يؤلف رواياته لتصوير أوهام أو شخصيات أفلام كارتون.. بل لأنه كتب عن أشخاص حقيقيين..

أعود فأقول: ليس المهم أن تختار طريقة التعبير: إذاعة أو صحافة أو تلفزيوناً أو شعراً أو رواية..إلخ.. بل المهم أن يكون لديك ما تريد التعبير عنه، وأن تكون صادقاً شجاعاً مقداماً في تعبيرك عنه. وآنذاك نجاحك مضمون..

قبل أيام سمعت أن الكاتب المسرحي السويسري المشهور "دورينمات" نال جائزة أحسن كاتب مقالة صحفية في ألمانيا.. فأين فن المسرحية من فن المقالة الصحفية؟ هذا دليل آخر على أن "العبقرية لا تتجزأ" كما يقولون.

س3: لنتحدث عن أدب الأطفال.. خاصة أن التجربة الإسلامية فيه محدودة.. أو لنقل جديدة.. ما هي باعتقادك الضوابط والسبل التي يمكن أن تؤدي إلى نجاح التجربة الإسلامية في مجال مخاطبة الطفل سواء من خلال المجلة أو الفيديو أو القصة أو غير ذلك.

ج3: كذب.

لا يوجد الآن شيء اسمه أدب أطفال إسلامي.

كل ما أغرقوا به الأسواق من الأكداس الهائلة من كتب الأطفال، التي صبغوا على غلافاتها كلمة "إسلام" صبغاً انتهازياً تجارياً سخيفاً، ليست من أدب الأطفال كما أن الإسلام العظيم يسبقها بمسافة زمنية تزيد على مائة سنة ضوئية.

إن هذه المليارات من الكتب السخيفة التي أغرقوا بها الأسواق ليست أدب أطفال إسلامياً، وإنما هي استغلال لئيم وغدار لظاهرة الصحوة الدينية التي تشهدها مجتمعات وطننا قاطبة. كما أن هذه الكتب لا تسهم في خلق هذه الصحوة أو توطيدها أو ترسيخ أسسها.. بدليل هذا الموقف المخزي والمفجع الذي نراه منذ قيام الانتفاضة أو ثورة أطفال الحجارة في فلسطين..

خبّرني يا أخي: بماذا يهتف الطفل الفلسطيني وهو يهجم على الموت أسداً حقيقياً؟ يهتف "الله أكبر والعزة للإسلام".

أفتريد أكثر من هذا؟

إذن فأين هو التجاوب الذي كان ينبغي أن تسفر عنه قراءات أطفالنا لكتب التلفيق السخيف الذي يسمونه أدب أطفال إسلامياً؟

إن الكلمة الصادقة هي التي تفعل المستحيل.. تقلب المجتمع.. تخلق الإنسان الجديد.

يقولون لك: إن البلاد السكندنافية. أرقى مجتمع في العالم المعاصر.. قبل 200 سنة فقط، كان أولئك السكان سليلي "الفايكنج"  أي أشد العقليات همجية وتخلفاً. فما الذي "قلبهم"؟

أنا أزعم أن الكاتبين المسرحيين أبسن وستريندبرغ وأمثالهما من الأدباء الصادقين هم الذين صنعوا ذلك الانقلاب السلوكي من أقصى الهمجية إلى أقصى الحضارة. ثم ما الذي يدعونا لأن نضرب الأمثال عن الشعوب البعيدة.

لنأخذ أعظم واقعة انقلابية في تاريخ البشرية: الإسلام.

تعال نطلق كلمة "المعجزة" على الفترة الممتدة من يوم هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، إلى يوم وفاة عمر بن عبد العزيز..

إنها سنوات قليلة جداً بمقياس الزمن وبمقياس الوسائل الإعلامية المتاحة كالإذاعة والتلفزيون والصحافة والاتصالات الهاتفية والبرقية.. لم يكن لديهم شيء من ذلك يومذاك. ومع ذلك فقد تحققت تلك المعجزة غير المعقولة.. هل لك أن تخبرني عن "السبب" أرجوك؟ هل كان السر السحري غير الكلمة الصادقة التي كانت تنبع من قلوب مؤمنة نقية طاهرة؟!

نعم إن الكلمة الصادقة هي التي تصنع المستحيل..

والآن تعال ابحث معي عن "الكلمة الصادقة" في تلك الأكداس الهائلة مما يسمونه أدب أطفال إسلامياً. وريثما تضيّع وقتك هدراً في البحث دعني أعرض هذا الافتراض.

لنفرض أن طفلاً فرنسياً مثلاً كان يمشي مع أبيه في شارع الشانزيليزيه بباريس. جاء شرطي واستوقف أباه واعتقله. ما يكون موقف الطفل الفرنسي؟

الجواب بمنتهى البساطة: أنه سيعترض على ذلك. وسيقول للشرطي: ليس من حقك أن تحجز حرية أبي.. هات ورقة من النائب العام.

إن عقل هذا الطفل هو حصيلة كتب الأطفال الفرنسية.

خذ الوضعية ذاتها في أي بلد من بلدان العالم الثالث، وخبرني ماذا يكون موقف الطفل؟

الجواب: إنه ينكمش حزيناً خائفاً ويبكي.. وربما كان أقصى ما يفعله أن يقول للمعتدين على حرية أبيه: الله ينتقم منكم.

ذلك أن الطفل ذاته نسي كلمة "حرية".

هذه الوقائع كلها سيحاسب عليها أقطاب عصابة كتب الأطفال العرب والمسلمون. سيحاسبون عليها حساباً عسيراً يوم القيامة أو يوم يتاح لهذه الأمة أن تحظى بصحافة حرة شريفة ليست من قماشة الوضع العام ذاته.

والتهمة: أنهم هم الذين صنعوا هذا الطفل العربي المسلم الخنوع، الخائف، الذي يرى أن من الطبيعي أن يقف منذ الفجر في البرد الشديد، على باب الفرن حتى يحين دوره في شراء الخبز ولو بعد ساعات.

الطفل الذي يرى من الطبيعي أن "يسكن" مع أهله في مقبرة أكبر عاصمة إسلامية، ويقبل ويسكت ويرضى ويخنع.

الطفل الذي عليه أن يستسلم لما هو عام وشمولي من تمجيد للطاغية الذي يذبح زبانيته أباه ويبقرون بطن أمه أمام عينيه.

الطفل الذي يخبرك عن "الكبسة" التي اعتقل فيها أهل "النظام" جيرانهم نساء ورجالاً كما لو أنه يخبرك عن أن جارتهم اشترت سلة تين مثلاً.

هؤلاء الأطفال الحقيقيون أين هم في كتب الأطفال!

إنني أتحدى.

والكتب التي تغذي نفوس الأطفال بقيم الحق والحرية والعدل والمساواة والعزة والكرامة.. أين هي؟..

إنني أتحدى..

وسبب كل ذلك أن الناشرين تجار وليسوا أصحاب قضية أبداً.

إن ناشر ثقافة الأطفال. كتباً أو إذاعة أو تلفزيوناً - ما لم يكن شاعراً بأنه الشخص الثالث مع الشهيد السيد قطب والشهيد مروان حديد فخير له أن يتاجر بأي عمل آخر. إن "الثقافة" في الإسلام بشكل خاص لها معنى خاص، ومواصفات خاصة. أسد بن الفرات، فاتح صقلية وقائد جيش المسلمين البحري المنتصر، كان رجل ثقافة. كان قاضياً في القيروان، وكان مؤلف كتب في الفقه المالكي، قضى سنوات شبابه سائحاً بين مدارس وعلماء بغداد ودمشق والقدس والمدينة ومكة واهباً روحه كلها للفقه واللغة والنحو والشعر والأدب والتاريخ. كان نموذجاً للمثقف المسلم، ومكانته الثقافية الرفيعة هي التي جعلت المجتمع يختاره يومذاك ليكون قائد جيش الفتح. واستشهد البطل في المعركة. لكنه كسب الدنيا والآخرة..

وأسد بن الفرات ليس بيضة الديك في تاريخنا.

كل الرجال العظام في تاريخنا الإسلامي. الذين تنطبق عليهم مواصفات الطليعة الثقافية، كانوا مجاهدين. لأن "الثقافة" لم تكن "فنتازيا"، بل كانت عنصراً من عناصر الجهاد أو سبيلاً لخلق الإنسان المجاهد بصبغه أرقى صبغة للإنسان الكامل في الإسلام.

هل هناك أعظم "ثقافياً" من شخصية الخليل بن أحمد الفراهيدي؟

هل تصدق أن هذا العبقري المذهل في عطاءاته الثقافية الخالدة كان "يزكي" عن كل سنة ثقافة بسنة مشاركة في الجهاد.. جهاد ماذا.. جهاد ضد الظلم والجهل والانحراف عن القيم السماوية.. وبما أن المجتمع في زمنه كان إسلامياً، إذن فليحمل سيفه وليسافر مع الجيوش التي كانت تتوجه إلى بلاد الروم ليلاحق الظلم هناك، ليشارك في شرف تحرير الإنسان هناك.

فأين هذا من أصحاب رسالة ثقافة الأطفال عندنا اليوم؟.

إننا لا نعرفهم ولكننا نعرف نتاجاتهم السخيفة والتي يجب أن تكون سخيفة. لأن الإناء ينضح بما فيه. ولأن الأعمال بالنيات. وفرق كبير بين داعية إسلامي من وزن العز بن عبد السلام وبين داعية همّه تبريد الأرض تحت قدمي السلطان، لينعم بالراتب والبيت والسيارة والفيديو، ويعلق في صدر بيته آية "هذا من فضل ربي" ويؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويحفظ كل أحاديث سيدتنا عائشة رضي الله عنها التي تخبرنا بفقر الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وخبز الشعير، والنار التي لم تكن توقد تحت قدر طعام في بيته شهرين أحياناً.. يحدثك عن كل هذا وهو يتجشأ بعد أن كادت معدته تتمزق لكثرة ما أكل من خروف محشي كان واحداً من خمسة وخمسين خروفاً محشياً فرشها على مائدة عرس ابنه. وعندما انتهى العرس وجاءه الخدم ليخبروه بأن الضيوف لم يأكلوا إلا خمسة خرفان فقط، وأن في الجوار أناساً فقراء جائعين فهل تأمر بأن ننقل الخمسين خروفاً إليهم غضب وهددهم بالويل والثبور إن فعلوا ذلك. حتى لا يعتاد أولئك على مثل هذا الطعام فتفسد أذواقهم وتتغير طباعهم.

إن الضوابط التي وضعها هؤلاء الناشرون المجرمون بحق دينهم ضوابط تبعث على الضحك ويمكن تلخيصها بالبنود التالية:

1 - يجب أن تتصور بأن الطفل العربي المسلم، الذي ستوجه إليه نتاجك، حمار وبليد وأبله.

2 - يجب أن يمتاز نتاجك بالسخف والبشاعة والتلفيق، سواء في النص أو الرسوم التزيينية أو اللغة أو الشكل الفني المطبوع.

3 - نقطع يدك إذا تناولت في ما تكتبه أية قضية تشغل بال الأطفال أو تهمهم أو ترد على أي سؤال من الأسئلة التي تقض مضاجعهم.

4 - يجب أن تتمسك بشعار التحجر.

س4: حسب معلوماتي.. فإن آخر عمل لك في مجال العمل التلفزيوني هو برنامج (كلمة من القرآن) وسبقه (أحلى الكلام).. ماذا أردت أن تقول في هذين البرنامجين؟

ج4: يا سيدي إن التلفزيون أخطر جهاز إعلام في تاريخ البشرية إطلاقاً.

لكننا -نحن العرب المسلمين- استخدمنا هذا السلاح الخطير بنفس الطريقة التي استخدمنا فيها أياً من الأسلحة الأخرى التي وصلت إلى أيدينا. أعني أننا استخدمناه بالمقلوب تماماً، وبتخطيط ومنهج وإخلاص مع الأسف الشديد.

وإلا فخبرني عن وسطي عدد الساعات التي نبث بها مسلسلات أميركية، وخبرني عن عدد الساعات التي -بالمقابل- نحدث فيها إنساننا عن واقعه، عن بلده، عن اقتصاده، عن أرضه..

لا تزعج نفسك.. يكفيك أن تنزل إلى أي تجمع يضم عدداً من الفتيان الناشئة الأحداث.. سترى أنهم لا يعرفون شيئاً عن مدن ومجتمعات وطنهم العربي والإسلامي، وهم في الوقت ذاته مستعدون لأن يخبروك بمعلومات كثيرة عن مدن أمريكا، وعادات أهل أمريكا.. إلخ.

أما برنامجي التلفزيوني "أحلى الكلام" فإنني سعيد جداً بأن عرضه أسفر عن نجاحي في تحقيق ما كنت أريد أن أقوله فيه، ودليلي مبلغ ما لقيه من تجاوب المشاهدين معه، ورضاهم عنه.. وإنني سعيد غاية السعادة إذ أرى بلداناً إسلامية بعيدة جداً (من حيث الجغرافيا) كماليزيا مثلاً تطلب حلقات هذا البرنامج وتعرضها. وأن هذه الواقعة تعبر عن هدف البرنامج.

وبهذه المناسبة فإنني أريد أن أقول بملء الفم: إننا نحن العرب مسؤولون مسؤولية يحاسبنا عليها الله سبحانه وتعالى بإعراضنا المفجع والمخزي عن تلبية طلب إخواننا مسلمي الشعوب الأخرى الذين يرغبون بشدة وإخلاص في نشر لغة القرآن في مجتمعاتهم.

إن إخواننا المسلمين في الباكستان وأفغانستان وأندونيسيا ونيجيرا والسنغال وكل ديار الإسلام بحّت أصواتهم وهم يناشدوننا العمل على مساعدتهم في نشر اللغة العربية عندهم. إنهم جميعاً يتمنون بأن تصبح لغة القرآن لغة الدولة الرسمية عند كل منهم.. ومع ذلك فإنني أرجوك أن تدلّني على أية "تلبية" قد تحققت مثلاً.

إن التلفزيون يمكن أن يلعب دوراً أساسياً وخطيراً جداً في تحقيق هذه الرغبة الشريفة. إنني أحب أن أذكر المسؤولين عن هذا التقصير الإجرامي الكبير بالحروب السرية والعلنية التي كانت تقوم بين فرنسا وإنكلترا نتيجة مضاعفات السباق لنشر اللغة الفرنسية هنا أو نشر اللغة الإنكليزية هناك..

وإذا كانت هذه الواقعة تكشف عن دوافع وخوافٍ وأهداف سياسية واقتصادية وثقافية بالنسبة للناطقين بتينك اللغتين.. فإن وضعيتنا أهم وأسمى من ذلك بكثير.. فنحن ملزمون بنشر اللغة العربية للوفاء بإلزام ديني شريف.

فأين نحن الآن في مضمار هذا السباق؟

أرجوك أن تدلني على الجواب في سجلات منظمة اتحاد الإذاعات الإسلامية.

س5: الإعلام الإسلامي يشغل جزءاً من تفكيرك، وقد قدمت في كثير من اللقاءات مقترحات قيمة للنهوض بالعمل الإعلامي الإسلامي.. هل يمكن أن نعيد طرح مثل هذه المقترحات؟.

ج5: لا يوجد إعلام إسلامي.

توجد عشرات التلفزيونات والإذاعات الإسلامية، ومئات المجلات الإسلامية وآلاف الصحف الإسلامية.. ومع ذلك فإنه لا يوجد إعلام إسلامي.

ودعني أوضح لك قصدي بمثال.

لقد مرّ على الحرب العالمية الثانية 45 سنة.

خلال تلك الحرب احتل الهتلريون بلاد اليونان.

في إحدى القرى النائية في جبال اليونان كانت تعيش أسرة يهودية.. عندما احتل الألمان البلاد وصلوا إلى تلك الأسرة واضطهدوها.

هذه الواقعة البسيطة يذكرها الإعلام الصهيوني بعد مرور 45 سنة فأنتج عنها فيلماً هزّ الضمير الأوروبي والأميركي..

هذا اسمه: إعلام.

انتقل بنا إلى الصفحة الثانية، الصفحة المقابلة، الصفحة السوداء والمخزية والمقرفة. وأترك لك أن تخبرني عن إعلامنا الإسلامي في أوربا وأمريكا بخصوص المآسي المذهلة التي يرتكبها الصهاينة يومياً في قدسنا وفي فلسطيننا.

بل أين اضطهاد أسرة صهيونية واحدة فقط في مجاهل جبال اليونان وقبل 45 سنة من ذبح أكثر من أربعين ألف إنسان مسلم في مدينة عريقة بإسلامها اسمها (حماة) وخلال أسبوع واحد وفي هذا العصر عصر الاتصالات السريعة والمباشرة.. أين هو الإعلام الإسلامي عن هذه المجزرة الوحشية الفريدة في همجية مرتكبيها؟

تفضل ودلني على ما كتب ونشر في أجهزة ما تظنه إعلاماً إسلامياً حول هذه الفاجعة.. ستجد: لا شيء.

إنني لا أريد أن أثير هياج المنتفعين من "أمركة الإسلام" فأحدثك عن مواصفات الإعلام الذي تفرزه الإذاعات والصحف والمجلات والتلفزيونات الصابغة نفسها كذباً بشعار الإسلام، فهؤلاء نترك أمرهم لله تعالى الذي لا تغفل له عين. ولكنني أريد أن أتساءل: ماذا أصاب الإعلاميين الإسلاميين الأحرار غير المرتبطين بالأنظمة والأجهزة.. أين هم الشعراء والأدباء والروائيون وكتاب السيناريوهات المسلمون الذي يعانون من التشرد والجوع والرعب الأمني لأنهم بمحافظتهم على دينهم وحريتهم وكرامتهم وأصالتهم- حرموا من مظلة الأنظمة وخيمة التأمرك الذي يصب في خدمة الصمت لصالح الصهيونية..

س6: ألا تعتقد مثلاً أن عقد مؤتمر لمسؤولي وسائل الإعلام الإسلامية يمكن أن يحل كثيراً من الاشكالات؟.

ج6: لا فائدة من عقد مؤتمر لمسؤولي أجهزة الإعلام الإسلامية. فهؤلاء يعرفون أين مكمن الداء أكثر مني ومنك.

إن عدد نفوس أعدائنا الصهاينة ثلاثة ملايين فرد فقط، مقابل أكثر من مائتي مليون عربي وأكثر من ألف مليون مسلم..

وإن عدد أفراد الجاليات العربية والإسلامية في أوروبا وأمريكا مائة ضعف أكثر من عدد أفراد الجالية الصهيونية.

وإن عدد خبرائنا الإعلاميين وأدبائنا ومثقفينا وفنانينا أكثر ألف مرة من نظرائهم في الطرف الآخر..

وإن ثرواتنا المالية أكثر بمليارات المرات من ثرواتهم.

ومع ذلك فإن ما تسميه إعلامنا الإسلامي لا يني يذكرنا في الليل والنهار بأن أولئك الصهاينة يسيطرون على الإعلام العالمي.

لماذا؟

سلهم فهم يجيبونك. لأنهم يعرفون الجواب الصحيح.

أما إن شئت أن نخرج بالإعلام الإسلامي مما هو فيه فليس السبيل عقد مؤتمرات وندوات، وإنما السبيل هو الحرية. ولا يصنع الحرية إلا رجال أحرار.

وطالما أن الكبار الكبار ممن يسمون أنفسهم إعلاميين إسلاميين مشغولون بكتابة المقالات التي تستدر الدموع على أوضاع المسلمين في الاتحاد السوفياتي، وعيونهم قد عميت عن رؤية مذابح المسلمين في مدنهم نفسها، فلا تنتظر أن يكون هناك إعلام إسلامي حقيقي.

وأين تقع رابطة الأدب الإسلامي رحم الله والديك.

إنني لا أسأل عن موقعها الجغرافي وإنما أتساءل عن وجودها في ساحة النشاط الأدبي الفعلي المؤثر في حياة الأمة، خصوصاً في هذه الفترة المترعة بالفواجع التي أصغر فاجعة فيها لو شعر بها الحجر الصوان لاهتز وقال شعراً أو رواية أو فيلماً.

فأين هي هذه الرابطة!.. وهي تربط من بمن؟.. ولماذا تربطهم؟..

وإن كان تكوينها تنظيماً نقابياً مهنياً صرفاً، أي لا دعوى لأعضائها بمآسي الناس المسلمين بل إن همها هو الدفاع عن الأدباء المسلمين وحفظ حقوقهم والذود عن كراماتهم.. فأين ومتى سمعنا أن الرابطة حركت ساكناً حيال آلاف الشعراء والأدباء والمثقفين والإعلاميين المسلمين الذين تغص بهم سجون الطغاة المستبدين الهمجيين!

هات دلنا على "فعالية" واحدة من هذا النوع.

ثم انتقل بعد ذلك إلى الواقع في الطرف الآخر.. لو أن مصحح أحرف ماركسي في جريدة شيوعية اعتقل مثلاً، فماذا يحدث؟ وكم ألف مقالة تتحدث عن محنته ومأساته!! وكم كتاباً ومهرجاناً ومسيرة وعريضة. وكم فعالية تصوّر للناس أنه عبقري زمانه وأن الإنسانية متهمة بالهمجية ما لم تناضل للإفراج عنه.

يا صديقي إن الناس الطيبين الذين تنادوا إلى تأسيس رابطة الأدب الإسلامي ما هم إلا أناس طيبون لا أكثر ولا أقل.. فالروابط لا تصنع أدباء.. والأدباء الحقيقيون ليسوا بحاجة إلا روابط أو تنظيمات ليكونوا أدباء.

الأديب يصنعه قلمه وجهاده وكفاحه وإيمانه بواجبه حيال أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن الطريف والمفجع معاً أن هؤلاء الذين صنعوا تشكيلة رابطة الأدب الإسلامي الوهمية التلفيقية العنكبوتية لم يفطنوا إلى "منافع" التشكيلات النقابية، كالروابط والاتحادات إلا بعد أن صارت هذه الروابط مثار سخرية واستخفاف من الناس.

فالأمة، قبل نشوء الروابط والاتحادات النقابية كانت بخير.

فقبل إنشاء اتحاد الأدباء العرب مثلاً كان عندنا في وطننا العربي أدباء حقيقيون، وكانت للأديب قيمة ووزن واحترام وهيبة.

وبعد إنشاء 22 اتحاداً قطرياً للأدباء، واتحاداً قومياً أعلى لهم، اختفى الأدب من الساحة وتحول أعضاء هذه التشكيلات العجيبة إلى موظفين مخصيين، قد يكون موظفو دوائر السجل العقاري أكثر منهم شجاعة وحرية واهتماماً بقضايا الأمة.

لقد صار الأدباء المنتمون إلى روابط كتبة مربوطين بأنظمة. لم يعد همهم هم الأديب الحقيقي وهو الناس، وإما همهم إرضاء صاحب النظام.

أما عن سؤالك عن آفاق الأدب الإسلامي المعاصر فلا جواب عليه. لأنه كيف يمكن تقييم نتاج غير موجود. فنحن بعد أن فقدنا علي أحمد باكثير وسيد قطب لم يبق عندنا أدباء ينظرون إلى الحياة من خلال المنظور الإسلامي.. اللهم إلا إذا كنت تعد ما يكتب في الصحف والمجلات من "بضاعة إسلامية" أدباً.

تفضل ودلني على كاتب إسلامي واحد يعطيك ما يعادل صفحة واحدة من عيار آلاف الصفحات الرائعة التي أعطانا إياها مصطفى صادق الرافعي مثلاً.

إن الإسلام نظام حياة رائع وكامل.. دلّني على الأديب المعاصر الذي يبدع شعراً حقيقياً ورواية حقيقية ومسرحية حقيقية تعبر عن هذا النظام السامي النفيس وتطلعاته ونظراته الرفيعة إلى الإنسان الحر العزيز الذي كرّمه الله.

هذا -عدم المؤاخذة- إذا استثنينا الأديب المسلم الحقيقي رجاء جارودي. ومن حسن الحظ، بل من الطبيعي بالنسبة لمثقف كبير مثله، أن لا يكون عضواً في رابطة.