في حوار صحفي، محمد سعيد الريحاني

في حوار صحفي، محمد سعيد الريحاني

" للأدب خريطته وجُغْرَافيَتهُ

تماماً كَمَا للأرْز جُغْرَافيَتهُ وَللْقمْح جُغْرَافيَتهُ "

أجرت الحوار الإعلامية الأمريكية ياسمين صلاح الدين  آغا

القصر الكبير/المغربتشيكاغو/الولايات المتحدة

سؤال: لعل السؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهني هو كيف يرى محمد سعيد الريحاني علاقة المثقف بالسلطة، و علاقة السلطة بالمثقف ضمن لعبة القط و الفأر التاريخية بينهما؟

جواب: العلاقة بين السلطة والثقافة هي علاقة يحكمها التأرجح أكثر مما يحكمها التوازن. ولدلك، فهي إما علاقة مُهادنة ظرفية يتحكم فيها التكتل الداخلي ضد الخطر الخارجي كما هو الحال في الوطن العربي أو علاقة توتر مضمر تتحكم فيه إرادة ولاية المثقف على السياسي أو العكس أو هي علاقة توتر علني يسبق العاصفة كما كان الحال قبل الثورات الإنسانية الناجحة الفرنسية والروسية والإيرانية...

وعلى خلفية هده الثنائية، السلطة والثقافة، يمكن فهم ثنائيات أخرى لعلاقات أخرى كعلاقة الرجل والمرأة إذ يطيب لي دائما أن أُشَبّهَ الثقافة والحرية بالمرأة بينما يبقى للرجل السلطة والنظام. ولقد عبر عن دلك لا شعور الأزمنة الخوالي فقد قال نابوليون بونابارت الذي كان يصفه أتباعه ومعارضوه ب"العظيم" بأن "الأدب صناعة النساء" أي أن الرجل عليه أن يبدع في الأمور التي تحتاج إلى عضلات مفتولة بدل السعي وراء ثقافة واسعة لفرض الأمر الواقع وتوسيع النفوذ بدل توسيع الخيال والمعارف...

سؤال: كيف تنظر إلى واقع المثقف في الوطن العربي إزاء علاقاته المتشعبة مع السلطة فكريا و سياسيا؟

جواب: واقع المثقف العربي، كما أراه، واقع مُتَشَظّ يعكس تشظيته وتشتته وحيرته وعدم قدرته على حسم قراراته ووقوفه في مفترق طرق بين خمس اتجاهات: أولها، "التحدي" والانتصار للكلمة الحق والطريق الحق والفعل الحق عبر اختيار دور "الأسَدوثانيها، "المخادعة والمراوغة" من خلال الاستمرار في نشاطه الثقافي لكن عبر القبول بدور "السَّعْدَان" والاكتفاء بالتلميح والترميز؛ وثالثها، "الهروب" من خلال اللجوء إلى الاحتفال بالشكل والخوف من المضمون وإعلان النوايا عبر القبول بدور "الحرْبَاء وَرَابعُها، "التقرب" من السلطة السياسية وقبول لعب دور "كلب الحراسة" من خلال قبول المكافآت المادية والرمزية لقاء تصفية الرفاق؛ وخامسها، "الانبطاح" المطلق وقبول لعب دور "المُهَرّج" في لحظات اكتئاب السُّلْطَة وَغُمّتها...

سؤال: كيف تفسر قدرة المثقف على انتقاد السلطة داخل النص الأدبي و عجزه عن انتقادها خارجه؟

جواب: يؤسفني كثيراً رؤية الكاتب العربي يركز كل جهوده على انتقاد السلطة داخل نصوصه الأدبية من خلال خلخلة اللغة وتكسير السرد وقلب الصور بينما هو على أرض الواقع لا يستطيع إصدار بيان واحد حول ما يجري حوله من أزمات هي ذات الأزمات المتخيلة في نصوصه. إنه عجز غير مبرر واختيار غير سليم إذا ما مَوْضَعْنَاهُ في السياقين الإنساني والعربي على السواء.

فعلى المستوى العربي، ومع خروج أغلب الدول العربية من الاستعمار الأجنبي في النصف الثاني من القرن العشرين متخلفة على كافة الأصعدة ومقيدة بحدود جغرافية مفروضة  واتفاقيات من موقع ضعف مع المعمر، لا زال الوقت مبكرا للمثقف العربي ليلتحق ب "ما بعد الحداثة" وينأى بنفسه عن المساهمة في التغيير المجتمعي العام.

أما على المستوى الإنساني، فقد دلت تجارب الدول التي سبقتنا إلى سلم التطور، الغرب نموذجا، من خلال  تنقلها عبر الحلقات الثلاث في رحلة التطور الحضاري (حلقة التقليد  وحلقة الحداثة وحلقة ما بعد الحداثة) على أن وصولها لمرحلة ما بعد الحداثة التي يعيشها الغرب اليوم مر عبر الخطوات الخمس للمرحلة السابقة لها، مرحلة الحداثة، التي دامت خمسمئة سنة. وهده الخطوات الخمس هي: الإحياء الدي دام قرنين من الزمن ومهد لظهور عصر النهضة الأوروبية، وطباعة كنوز التراث الإغريقي الذي وصل للتو من القسطنطينية بعد سقوطها في يد العثمانيين في نهاية القرن السادس عشر، ثم الإصلاح مع المصلح الديني البروتستانتي مارتن لوتر كينغ عند بداية القرن السابع عشر، والتنوير قبيل الثورة الفرنسية عند نهاية القرن الثامن عشر، فالبرامج السياسية مع الثورة الصناعية عند نهاية القرن التاسع عشر.

ولكل دلك، فقد كانَ هَمُّ "المدرسة الحائية مدرسة القصة الغدوية التي أُعْلنَ عن ميلادها قبل أسابيع قليلة في المغرب،  هو "مصالحة الشكل والمضمون"،  "مصالحة القول والفعل" و"مصالحة التنظير والممارسة" في محاولة اجتهادية على المستوى الإبداعي الأدبي تهدف إلى اختصار التاريخ دون القفز على حلقاته من خلال الاستفادة من أنوار فلسفة الحداثة (مركزية الإنسان وتحريره وتحرره) وأنوار فلسفة ما بعد الحداثة (المؤسسية، اللاعقل).

سؤال: ثمة من يقول أنه ليس هنالك مثقف بالمعنى الخالص للكلمة طالما بمجرد وصول المثقف إلى السلطة يتحول إلى ديكتاتوري يدافع عن السلطة أكثر من دفاعه عن الثقافة. ما رأيك؟

جواب: في البداية لا بد من تدقيق في المفهوم. فلا علاقة للمثقف بالمتعلم الذي حصد الشهادات العلمية وصار كل هَمّه هو دخول سوق الشغل إن كان خارجه أو الترقية المهنية إن كان نشيطا مهنيا،  ولا علاقة للمثقف بالموظف الذي يشتغل في قطاع التربية آو الثقافة ولا يجمعه بالثقافة غير المهنة والراتب الشهري...

إن المثقف ليس موظفا أو أجيرا، إنه "فاعل حر ومتحرر من كل السلط غير الثقافية". ولأن نشاط المثقف لا يربطه بأي راتب شهري يَسْحب منه حريته ويُحيله إلى مجرد "كائن شهري"، فهو "متطوع" بالضرورة. 

وإذا كان التطوع والحرية هما ما يميز المثقف في كل مكان وزمان، آنئذ ينتفي الشك في صدق نواياه ونبل مقاصده رغم أن قسوته، عند تسلمه السلطة عقب الثورة،  تكون تحت دافع تحقيق تنظيراته كما كان الحال مع قائد الثورة البولشفية فلاديمير إليتش لينين وقائد الثورة الصينية ماو تسي تونغ وغيرهما من المعنيين ضمنيا بالسؤال. ولكن ثمة نماذج أخرى مختلفة لمثقفين آخرين سلكوا طرقا مختلفة عن طريق الاتهام  الوارد في السؤال كالمحرر البوليفي سيمون بوليفار ومحرر الزنوج الأمريكان أبراهام لينكولن  والفاروق عمر بن الخطاب والإمام علي بن أبي طالب وغيرهم.

سؤال: و ماذا عن المثقف المغربي إزاء المحظورات التي لا يحق تجاوزها: الجنس والدين والسياسة؟

جواب: في البداية طالت الرقابة أعمال الكاتب الروائي المغربي محمد شكري (عن روايته "الخبز الحافي") والباحثة المغربية في القضايا النسائية فاطمة المرنيسي (عن كتابها "الحريم السياسي: النبي والنساء") والروائي والناقد المغربي عبد القادر الشاوي(عن روايته "كان وأخواتها")...

فقد كانت الرقابة تتحرك تحت ضغط  الثالوث المقدس (الجنس والدين والسياسة) لكنها لم تكن رقابة أحادية الجانب وإنما كانت  رقابة ثنائية في هويتها ومزدوجة في قوتها: رقابة نظامية تقودها الدولة ورقابة جماهيرية يقودها علماء الدين والقوى السياسية المحافظة.

أما الآن، فالأمر مختلف في المغرب.  فالكتب لا تتعرض للمصادرة ولا للرقابة. وإذا ما كانت بعض الإنتاجات الثقافية المغربية تبدو للبعض غير حرة أو انبطاحية أو تهريجية فلأن كاتبها، بكل بساطة، اختار دلك الطريق.

سؤال: دعني أسألك عن الآليات التي يحتاج إليها المثقف العربي ليقود الفكر البناء و ليس ليقتاد نحو الفكر الجاهز؟

جواب: الفكر البناء هو مشروع فكر عربي قادم لا بد له من ان يمر عبر خطوات منهجية تجعل من خروجه للوجود ضرورة ثقافية وتاريخية. وربما يمكن إجمال هده الخطوات في خمس مراحل: أولُها ضرورة فهم الواقع العربي، وثانيها رصد مكامن الخلل في هدا الواقع، وثالثُها رسم صورة لما ينبغي فعله، ورابعُها تحديد الأدوات اللازمة لإنجاز هدا المشروع وتحديد التحالفات الكفيلة بإنجاحه، وخامسُها وأخيرها تقييم المسار وتقويمه.

سؤال: ما يعاني منه المثقف حاليا هو الصدام القائم بينه و بين الدين. هل الدين يتعارض مع ثقافة الجدال المطلق الذي ينادي به المفكرون مثلا؟

جواب: قد يكون هناك منظور محدد للدين كما قد يكون هناك قراءة خاصة للدين وفهم معين للدين. لكن الثابت هو أن هده القراءات المحددة للدين لا تلزم الجميع، مريدين وخصوما، كما أنها لا تقف نقيضا مطلقا لباقي القراءات مادام "التعايش" و"التكامل" هو قانون البقاء على الأرض. لدلك، فحين يحضر منطق الصراع يتعارض الدين والثقافة كما كان الحال مع فلسفات الحداثة حيث كان يقف العقل والإنسان والحرية الفردية في تقابل مع الدين.

أما حين ينتفي الصدام، يتعايش الدين والثقافة كما في زمن فلسفات ما بعد الحداثة حيث ينتفي العقل والإنسان والحرية الفردية لفائدة "المؤسسية" لدرجة تكاد تكون معها "الصوفية" رديفة لثقافة ما بعد الحداثة. بل إن أحد رواد الثقافة الفرنسي أندري مالرو قال مرة أن "القرن الواحد العشرين سيكون قرن عودة الدين".

سؤال: ثمة كتب منعت بسبب تهمة "الإساءة للذات الإلهية" و كتاب قتلوا بسبب نص أو كتاب.. متى يتحول المثقف إلى أداة اجتماعية بمعناها التغييري؟

جواب: المثقف هو دائما أداة وليس غاية ولا أدل على دلك من وضعيته الحالية من تواضع وضعه الاجتماعي  وقبوله بالحياة في الظل وعدم شكواه عن ضياع حقوق ملكيته الفكرية وعدم احتجاجه عن حرمانه من الوضع الاعتباري الذي يستحقه وتعوده على عزلته في وطنه وعلى فقره وحاجته... ومع دلك فلا احد يستطيع إيقافه عن سعيه نحو التوق للإصلاح والتنوير لهدا السبب البسيط: إن قوة المثقف هي قوة تتجاوزه وهو نفسه لا يعرف منبعها ولا حجم صبيبها.

في البداية، كان اسم هده القوة غير المفهومة التي تعبر عن نفسها من خلال المثقف "القبيلة" ولدلك كانت كل المواهب الخارقة تعزى لهده القوة فكان "شاعر القبيلة" و"فارس القبيلة" وغيرهما؛ ثم تعقلن المفهوم أكثر بعد دلك مع فلسفات الحداثة، إذ صارت تلك القوة غير المفهومة التي تعبر عن نفسها من خلال المثقف هي قوة "الطبقة الاجتماعية" فصار معها المثقف إما "عُضْوياً" أو "بورجوازياً"؛ ثم صارت هده القوة الضاربة بعد دلك هي "اللاشعور" بنوعيه الفردي والجمعي؛ إلى أن توسع المفهوم في زمننا الراهن بشكل نهائي مع فلسفات ما بعد الحداثة التي نسبت فيه تلك القوة الملغزة التي تبدع كل هده الثقافات والفنون على الأرض إلى "الكون" ذاته.  

الدوائر الأربع المفسرة للقوة الخلاقة للثقافة والفنون عبر التنقل بين "القبيلة" و"الطبقة الاجتماعية" و"اللاشعور" و"الكون" كلها تنطلق من زاوية ثابتة وهي أن المثقف أداة تعبر من خلاله الثقافة عن نفسها وترتقي بنفسها من خلاله أو هو (أي المثقف)، بعبارة فريديريك نيثشه، مُجَرَّد جسْر تعبر  على ظهره الطبيعة من الإنسان إلى الإنسان الأعلى.

سؤال: لننتقل إلى سؤال آخر. كيف ينظر محمد سعيد الريحاني إلى واقع النص المكتوب في الوطن العربي؟

جواب: يعيش النص العربي المكتوب حاليا فترة انفراج ملموس نتيجة الحرية والتواصل اللامحدود عبر الانترنت والنشر الإلكتروني الذي خلخل سلطة القبيلة والحزب المسيطرة على الثقافة الورقية والنشر الورقي على أرض الواقع.

وبفضل هده الحرية الجديدة على الثقافة العربية، بدأ نوع جديد من التواصل العلني يعم الأوساط الثقافية والإبداعية على السواء: التواصل فوق ظهر الرقيب، وفوق ظهر السياسي، وفوق ظهر كل السلط الأخرى...

كما صارت المسافات اقرب وصار التواصل أسرع وصار التنسيق أكثر نجاعة وتبلورت من خلال الإنترنت إرهاصات أول مدرسة قصصية في تاريخ الأدب العربي، "المدرسة الحائية"، مدرسة القصة العربية الغدوية.

سؤال: هل صحيح أن الرواية تسببت في تراجع الشعر؟

جواب: القارئُ النَّهمُ للأعمال الموسعة لآفاق الدراسة والبحث العلمي والمتتبع العاشق للإصدارات الجديدة والجادة في حقل العلوم الإنسانية سيكون سباقاً لقراءة كُتُب من طينة  "الجغرافيا الثقافية" Cultural Geography للباحث مايك كرانغ Mike Crang  الصادر سنة 1998، وكتاب "الجغرافيا السياسية"Political Geography  للباحثان بيتر تايلر وكولن فلينتPeter G. Taylor & Collin Flint   الصادر سنة 2000 ، وكتاب "جغرافيا الفكر"The Geography of Thought  للباحث ريتشارد نيسبت Richard E. Nisbett الصادر سنة 2004 في طبعته الرابعة...

وإذا كان بالإمكان الحديث عن جغرافيات ثقافية وفكرية وسياسية، فبالإمكان أيضا الحديث عن "جغرافيا أدبية" و"جغرافيا نقدية" و"جغرافيا إبداعية". وعلى هده الخلفية بالذات، اشتغلتُ لمدة ثلاث سنوات على إنجاز "الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة" في ثلاث سنوات 2006 و2007 و2008 وهي أنطلوجيا موزعة على ثلاثة أجزاء: الجزء الأول كان "أنطولوجيا الحلم" سنة 2006 والجزء الثاني كان "أنطولوجيا الحب" سنة 2007 و الجزء الثالث كان "أنطولوجيا الحرية" سنة 2008.

ولقد كانت الغاية من إعداد هده الأنطولولجيا،"الحاءات الثلاث: أنطولوجيا القصة المغربية الجديدة"،  التي قَدّمْتُهَاْ منذ البداية كمشروع سردي إبداعي وتنظيري يَتَقَصَّدُ تحقيق ثلاث غايات أولها  التعريف بالقصة القصيرة المغربية عالميا؛ وثانيها التعبئة بين أوساط المبدعات والمبدعين المغاربة لجعل المغرب يحتل مكانته الأدبية كعاصمة للقصة القصيرة في المغرب العربي إلى جانب الجزائر عاصمة الرواية وتونس عاصمة الشعر؛ وثالثها التأسيس ل"المدرسة الحائية" التي أعلن قبل أسابيع عن ميلادها من خلال بيانات أدبية، "مدرسة" قادمة للقصة القصيرة الغدوية عبر هدم آخر قلاع العتمة  في الإبداع المغربي  (الحلم والحب والحرية) واعتماد هده "الحاءات الثلاث" مادة للحكي الغدوي التي بدونها لا يكون الإبداع إبداعا.

إن الأجناس الأدبية لا تموت ولا تنقرض: لا الملحمة الشعرية ولا المسرح الشعري ولا أي جنس أدبي آخر ولكنها تتراجع لفائدة جنس أدبي مُعين هنا وتتقدم على جنس أدبي آخر هناك. ففي المغرب، يتقدم جنس القصة القصيرة حاليا باقي الأجناس الأدبية تماما كما تتقدم الرواية حاليا في الجزائر باقي الأجناس الأخرى وكما يتقدم الشعر باقي الأجناس الأدبية في تونس...

إن ما يحدث هو هيمنة جنس أدبي في جغرافيا معينة وليس اكتساحا للعالم ولثقافات العالم ولأجناس تعبير العالمين...

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الشعر لا زال فاعلاً ولازال مسموعاً والحاجة إليه لازالت وستبقى ملحةً. فللأدب خريطته وجُغْرَافيَتَهُ تماما كما للأرْز جُغْرَافيَتَهُ وَللْقمْح جُغْرَافيَتَهُ وللموز جُغرافيته وَللْبُنّ جُغرافيته...