حوار غير صحفي مع الدكتور جابر قميحة 3

حوار غير صحفي مع الدكتور جابر قميحة

(الحلقة الثالثة)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

حوار: أشرف إبراهيم حجاج -إعلامي –القاهرة

[email protected]

[email protected]

دكتور جابر: فهمنا من حديثك السايق أنك تعتز اعتزازا خاصا ببلدك المنزلة .

الدكتور جابر : هذا أمر طبيعي ؛ فالمنزلة هي وطني الثاني بعد وطني الأم وهو مصر ، وقد قال شوقي :

وطني لو شغلت بالخلد عنه          نازعتني إليه في الخلد نفسي

أما الوطن المباشر أو اللصيق ، أو الأول فهو الأسرة . وهناك بيت فسره النقاد بأوسع من مضمونه المقصود وهو قول ابن الرومي :

ولي وطن آليت ألا أبيعه         وألا أري غيري له الدهرَ مالكا

   فقد فسر النقاد كلمة وطن بالمفهوم الذي نعرفه الآن ، بينما يقصد ابن الرومي بالوطن  بيته الذي كان يملكه واغتصبه منه معتد ظالم في قصة معروفة في تاريخ ابن الرومي .

س :  تحدثت يوم الإثنين الماضي ( 9/3/2009 ) في برنامج ( يارب ) بقناة (الصحة والجمال ) عن أثر المنزلة في شخصيتك . وهذا يجعلنا نسأل عن مدى تأثير البيئة على شخصية الإنسان . يا ليتنا نسمع توضيحا لهذه النقطة ؟

ج  لكي أوفر وقتك ووقتي أسوق  قصة مشهورة تدل على أثر البيئة ، والوسط الذي يعيش فيه الإنسان على شخصيته وطبيعته النفسية ، وعطائه الفني وخلاصتها :    ;

 وهي قصة علي بن الجهم مع الخليفة المتوكل :

فيحكى أنه كان بدوياً جافياً ، فقدم على المتوكل العباسي ، فأنشده قصيدة ، منها :

أنت كالكلب في حفاظك للود       د وكالتيس في قِراع الخطوب

أنت كالدلو ، لا عدمناك دلواً       من  كبار  الدلا  كثير الذنوب

فعرف المتوكل حسن مقصده وخشونة لفظه ، وأنه ما رأى سوى ما شبهه به ، لعدم المخالطة وملازمة البادية ، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة ، فيها بستان حسن ، يتخلله نسيم لطيف يغذّي الأرواح ، والجسر قريب منه ، فكان يرى حركة الناس ولطافة الحضر ، فأقام ستة أشهر على ذلك ، والأدباء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته ، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده ، فحضر وأنشد:    

عيون المها بين الرصافة والجسر        جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

فقال المتوكل : لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.

س : قطعا هناك مدن أخرى شدت نظركم ، أو ارتبطت بها طرائف معينة ، وقد يكون لها أثر في توجهاتك . هل من الممكن أن تذكر لنا بعض هذه المدن ؟

ج  هناك مقولة " منزلاوية " ،  نسبة إلى المنزلة  وقد ترقى إلى مستوى المثل ،  وهي " المنازلة أولاد عم الدمايطة ، وأولاد خال الفراسكة " أي أن أهل المنزلة هم أولاد عم أهل دمياط ، وأولاد خال أهل فارسكور ، وهذا يبين قوة الصلة بين هذه المدن الثلاث وخاصة دمياط التى تشتهر بصناعة الأثاث ، وتأتي المنزلة في المرتبة الثانية من هذه الصناعة ، كما يعرف عن أهل دمياط بالحكمة والاعتدال في النفقات ، وتدبير المعيشة على وجهها السديد . وقد يفهم بعضهم هذه الصفة خطأ فيتهمونهم بالبخل ، وهم من أبعد الناس عنه .

وأذكر بالفخر والحب والاعتزاز مدينة المطرية وهي ألصق البلاد بالمنزلة ، وقد تلقيت سنتين من التعليم الثانوي في مدرسة أحمد ماهر بالمطرية ، وهي كانت منفذا للإخوة الفدائيين لضرب الإنجليز ومن هؤلاء على صديق ، ويوسف علي يوسف وغيرهما من شباب الإخوان المجاهدين . وما زلت أعتبرها بلدي الثاني بعد المنزلة مباشرة .

أما القاهرة فهي مدينة التعليم الجامعي وعاصمة انطلاق الدعوة الإسلامية . والحديث فيها يطول .

 س : قد يكون هذا مفهوما عند كثيرين ، ولكن أريد أن تحدثنا ولو حديثا سريعا عن  مشاهداتك وانطباعاتك في مدن خارج مصر . 

ج  من هذه المدن مدينة الكويت التي عملت فيها لمدة أربع سنوات معارا من الحكومة المصرية . وكان ذلك في بداية السبعينيات من القرن الماضي ، وكانت الكويت تتمتع بحرية الرأي والتعبير على أوسع نطاق . في الوقت الذي كانت مصر واقعة تحت وطأة الديكتاتورية العسكرية .

وأذكر في هذا السياق أنني قرأت  بل عشت  كل أجزاء ( في ظلال القرآن ) لسيد قطب رحمه الله ، وغيرها من الكتب التي كانت ممنوعة في مصر . وكنت أقوم بتدريس مادة اللغة العربية والثقافة الإسلامية للطلاب الأجانب من أفارقة وأسيويين ، وأوربيين ، وقد رأيت في أيدي الطلاب كتب سيد قطب رحمة الله مترجمة إلى لغاتهم ، فقلت سبحان الله لقد صدق الشاعر إذ قال :

لولا اشتعال النار فيما جاورت         ما كان يُعرف طِيبُ عَرفِ العودِ

وأذكر باعتزاز وحب وتقدير أستاذنا الشيخ حسن أيوب ألذي استطاع أن يغرس روح الإيمان والتقوى والأخوة في نفوس الشباب بخطبه ومحاضراته .

وإذا ذكرت الكويت ذكرت " الديوانيات " . والديوانية قاعة كبيرة تفتح مساء كل خميس في منزل المضيف ، يلتقي فيها مجموعات من الشباب والشيوخ وطلاب العلم في هيئة ندوات حرة . وكنت حريصا على حضور ديوانية الأخ المستشار عبد الله العقيل كل أسبوع .

كما عشت في الظهران في السعودية لمدة ثماني سنوات للتدريس في جامعة الملك فهد ، وكانت من أسعد سنوات العمر ، وخلالها أنجزت كثيرا من مؤلفاتي . والجامعة تضم عددا من الكليات العلمية التجريبية ، وليس فيها كلية واحدة للعلوم النظرية ، ولكن من محاسن التعليم هناك أن كل هذه الكليات كانت تدرس بجانب هذه التخصصات العلمية الدقيقة مواد رفيعة المستوى في اللغة العربية ، والبلاغة والنحو ، والشريعة الإسلامية . وكان الطلاب يقبلون على هذه المواد إقبالا طيبا.

ولا أنسى في هذا السياق باكستان ومدينة إسلام أباد ، وقد قضيت خمس سنوات للتدريس في الجامعة الإسلامية العالمية .

وكان الطلاب مقبلين على العلم وخصوصا المواد الشرعية ، وأغلبهم يحفظون القرآن الكريم من الصغر . والله سبحانه وتعالى قد منح باكستان تربة خصبة للغاية ، لاينقصها إلا  اليد العاملة ، ولا أبالغ إذا قلت إن باكستان يمكن أن تستوعب مئتي مليون من البشر دون مبالغة وذلك زيادة على من فيها .

أما مشاهداتي وما شد نظري في المدن الأمريكية فهو كثير ... كثير وقد سجلته في حلقات نشرت رابطة أدباء الشام منها حتى الآن إثنتين وأربعين حلقة تحت عنوان :

" يومياتي في أمريكا : بلاد الكلاب والخضرة والأيس كريم .

 "س س : دكتور جابر : نحن نعلم  أن دراستك الأصلية كانت في دار العلوم ، ولكني من اطلاعي على سيرتك الذاتية رأيتك قد درست القانون ، وحصلت على ليسانس الحقوق والدراسات العليا من كلية الحقوق من جامعة القاهرة . هل يمكن أن نسمع منك شرحا لهذا التوجه الغريب من أستاذ عرف بالأدب والإبداع الشعري ؟       

ج  هناك مبررات متعددة منها : أن العلوم الإنسانية من تاريخ واقتصاد واجتماع وقانون تقف كلها على أرض واحدة مشتركة . كما أن الباحث المسلم مطالب في وقتنا الحاضر أن يكون موسوعي الثقافة على ألا يهمل تخصصه الأصلي الدقيق .

س : ولكن لماذا اخترت كلية الحقوق بالذات ؟

ج  يرجع ذلك إلى واقعة خاصة شاهدتها بنفسي . وخلاصتها أن مدينة المنزلة كان يحكمها بعد قيام الثورة أو يتحكم فيها ضابط مباحث ظالم جبار ، لايؤمن إلا بمنطق القوة والعدوان . كان لي مصلحة معينة في قسم الشرطة ، فتوجهت إلى هناك في الوقت الذي ذهب إليه أحد تجار المنزلة الشباب ، لقضاء مصلحة عند ضابط المباحث هذا ، وأنا لا أعرف الموضوع الذي جاء من أجله هذا التاجر ، وفجأة نهض ضابط المباحث هذا ، وأخذ يكيل اللكمات والصفعات على لوجه هذا الشاب في وحشية لم أرى مثلها ، وهو يسبه بأقأذر الألفاظ ... كان ذلك في عهد الرئيس محمد نجيب ، وكنت أنا طالبا في السنة الثانية  من كلية دار العلوم ، وكنت أنا الشاهد الوحيد على هذه المأساة . وانصرفت إلى المنزل وأنا أشعر بحزن عميق ، وأسائل نفسي : لو كنت أنا مكان هذا التاجر المسكين ، ووقع  علي هذا العدوان الخسيس ، ماذا كنت أفعل للدفاع عن نفسي والحصول على حقي القانوني من هذا الظالم الغاشم ؟ هنا قفزت إلى ذهني فكرة الالتحاق بكلية الحقوق والحصول الليسانس ، وعلى دبلوم عال في الشريعة الإسلامية منها .

وأقول باعتزاز وفخر إنني أديت الشهادة التى أدانت هذا الظالم ، وعوقب بنقله من المنزلة إلى مدينة بورسعيد .

شكرا  استاذنا الفاضل الكبير ولنا أمل في أن نحظى من سيادتكم بمزيد من الأحاديث بمشيئة الله.