يحيى السماوي يتحدث

رحلة الشعر والنقد والحياة:

لا غرابة أن ينتكس الأدب في أمة منتكسة سياسيا

يحيى السَّماوي

[email protected]

حوار: بسام الطعان/ القامشلي ـ القحطانية

[email protected]

س : غادرت العراق ولم تعد إلي وطنك وبقيت كطائر الكركي يذهب من مكان إلى مكان ولا يتعب، ما السبب يا ترى ؟

ج : الحقيقة أنني عدتُ... عدت ومعي عائلتي على أمل أن أسكن بيتي الذي أوكلت صديقا لي لبنائه في بستاني الصغير علي ضفة نهر الفرات في مدينة السماوة ـ لأكتشف أن هذا الصديق قد باع بستاني ولم يُشِـد لي بيتا أساسا ، فقد كان لا يتوقع انهيار النظام السابق وعودتي ـ لأن عودتي آنذاك ستفضي بي إلي حبل مشنقة .. فأقمت وعائلتي في بيت شقيقي نحو شهر ، وكنت علي وشك أن أضع حدّا لغربتي ، لولا أن تحوّل العراق إلي مرعى ً لخنازير البنتاغون والذئاب متعددة الجنسية ، قد حملني علي العودة وعائلتي إلي أستراليا ثانية ـ ولكن : بعد أن ضمنت لجثتي بيتا ًفي مقبرة من مقابر وادي السلام ... فأنا لا أريد أن أغفو إغفاءتي الأخيرة إلا مُتدَثـِّرا بتراب العراق .

س :   لماذا لا يستطيع الأدب العربي أن يعيد شيئا من الفرح للمواطن العربي ، شيئا من حريته المفقودة، إنسانيته المهدورة، اختراق حصاره، وقف نزيف دمه، طرد محتله ؟ هل يعتبر هذا من مهامه، وإذا لم يكن كذلك، ما فائدته، ولماذا الكتابة أصلا ولأي شيء؟

ج : فاقد الشيء لا يعطيه... فالأديب العربي هو أساسا ً في مقدمة المقموعين في بلاده .. الأديب العربي ـ الوطنيُ حقا ـ مُحاصَرٌ بمقصّ الرقيب وبشرطة إعلام الحكومة ... هو منفيٌّ داخل وطنه ما دام أن مطالبته بالحرية والديمقراطية ودولة القانون ستقوده إلي أقرب مديرية أمن ٍ وشعبة تحقيقات .. أما لماذا يكتب ، فلأن الكتابة قدره .. ولأنه لايجد مبررا لوجوده غير الكتابة ـ حتى لو كانت كتابته سينتهي بها المطاف إلي الإخفاء في زاوية سرية من زوايا بيته أملا ً في إطلاق سراحها حين يُطلـَقُ سراح الإرادة الشعبية من الأسر وتتحطم الأصنام ..

س : ما يجري في العراق من احتلال، قتل، تدمير، نهب، سرقة، هو مسلسل يدمي القلب، كيف هي أحوال المثقفين العراقيين في ظل الاحتلال ، ماذا فعل الاحتلال الغاشم بالثقافة في العراق ، وهل المثقف العراقي قادر علي الإبداع في ظل هكذا أوضاع؟؟

ج : أمريكا ليست " هيئة أمر ٍ بالمعروف ونهي عن المنكر " .. إنها النسخة الجديدة من " إسبرطة " القديمة ... النسخة الأكثر بشاعة ودموية وعنجهية ـ وبخاصة في ظل قيادة المجرم  جورج دبليو بوش والذي يبدو كما لو أنّ أمه أرضعته الدم والقيح بدلا ً من حليب الأمومة .. لقد قتل الجيش الأمريكي المحتل من العراقيين ، في بضع سنين ، أكثر بكثير مما قتل النظام السابق في خمس وثلاثين سنة .. أمريكا جعلت من العراق مختبرا ً لتجارب آخر مبتكرات مصانع البنتاغون من أسلحة الإبادة الجماعية، وميدانا ً يمارس فيه جيشها تدريباته بالذخيرة الحية .. إنّ " ذباب" الإرهاب ما كان سيدخل العراق لولا " جيفة " المحتل .. ولذا ، فذباب الإرهاب سيبقي في العراق طالما بقيت هذه " الجيفة " ... الاحتلال هو المستنقع الذي تسبب في تكاثر جراثيم الإرهاب والطائفية ، وبالتالي فإن زوال هذه الجراثيم مشروط بردم مستنقع الاحتلال ـ وليس بتوفير اللقاحات والأمصال ..

المثقفون في العراق هم من بين المستهدفين من قبل رصاص المحتل الأمريكي .. ومع ذلك ، فلم تنجح بنادق و دولارات المحتل في تدجين المثقف العراقي ..( أرجو ألا يُفهَم من حديثي هذا أنني أكره كلّ الجيش الأمريكي المتواجد في العراق ... فأنا أحبُّ قسما ً منه ، أحبُّ بالتحديد : القتلى من الجنود الأمريكيين ـ إذ أن الأخبار التي تتحدث عن قتل المزيد منهم ، هي وحدها التي تجعلني أشعر بفرح ٍ خرافيّ ... أنا مدين لهؤلاء الملعونين بهذا الفرح ـ خصوصا إذا تتحول أجسادهم إلى أشلاء متفحمة ( رغم أسفي لأن دمهم يُلوّث أرضنا الطاهرة ) .

س : في أي مناخ ينمو الأدب ، وفي أية ظروف يترعرع ؟

ج : لا ثمة ما يبعث الخضرة في حقول الإبداع كمناخ الحرية والديمقراطية ودولة القانون ...

 

س : كيف ترى المستقبل العربي، هل هو في متاهة مظلمة، تقيده القيود، أم أن هناك في أعماق المواطن العربي بذورا يمكن لها أن تنمو وتحوله إلي مستقبل ليس فيه إلا العدل والحرية؟

ج : إذا كان بعض العرب يبدون مثل تلامذة مهذبين أمام " المعلمة " كونداليسا رايس ـ وليس أمام " مدير " المدرسة " جورج بوش " ـ فكيف تريدني أن أستبشر خيرا بالمستقبل القريب ؟ وكيف لي أن أرجو خيرا من قادة يفرشون البساط الأحمر تحت قدَمي المجرم " إسحق شارون " في قصورهم الرئاسية في وقت ما يزال فيه دم أطفال قانا ساخنا علي يديه ؟

ومع ذلك ، فالغد يتسع لكثير من المفاجآت التي تحمل معها النور الذي سيكنس العتمة .... قد يكون هذا الغد بعيدا ، لكنه سيأتي حتما .. فلابدّ للجرح أن ينفجر يوما لافظا القيح والصديد ... أظنني لن أشهد هذا الغد ، فقد آذنت شمس عمري بالأفول ، وبدأت أهبط من قمة تل العمر نحو السفح ـ لكن ابني وابنك سيشهدان هذا الغد حتما ، فينوبان عنا في حضور مهرجان الفرح الموعود .

س :  ما سبب تراجع القراء العرب عن الأجناس الأدبية كالشعر والقصة والرواية، هل لغلاء الكتاب، أم إلى تدني مستوى التعليم وزيادة الأمية بين أبناء الشعب العربي، أم لأن القارئ لا يجد في القصيدة والقصة والرواية تعبيرا عن همومه ومشاكله وقضاياه؟

س : لو سألت أصحاب المكتبات عن زبائنهم ، لاكتشفت أن أفراد الطبقة المتوسطة ، ومن ثم الفقراء ، هم الذين يقتنون الكتب ـ وليس الأثرياء ... فالغالبية العظمى من الأثرياء لا تشغلهم عملية إنماء خزينهم المعرفي بقدر انشغالهم بإنماء أرصدتهم المالية ... وفي السنوات الأخيرة تحولت الطبقة المتوسطة إلي طبقة فقيرة .. أما فقراء الأمس ، فقد تحولوا اليوم إلى مُعدَمين ... وفي ظل موجة تنامي أسعار المواد الغذائية ، فإن القارئ الفقير والمُـعدَم منشغل بكيفية تدبير قوته اليومي وبتوفير مبلغ إيجار بيته المتهالك وثمن الدواء ... فاقتناء الكتب بالنسبة لهؤلاء المعوزين أضحى نوعا من البطر ..وإذا عرفنا أن أغلب حكوماتنا العربية قد خفضت من معدلات دعـمها للمواد الغذائية الأساسية ، فهل نتوقع منها دعم الكتاب ؟ نعم ، هي تدعم الكتاب إذا كان يتحدث عن " عبقرية سيادة الرئيس القائد الملهم " أو عن " حزبه الوطني جدا " وعن أمجاد عائلته ( حتى لو كان أفراد هذه العائلة بالأمس البعيد لصوص خراف ) ..كما أن ثورة المعلومات وتوافر الكتب في الشبكة العنكبوتية ، قد أسهم في قلة الإقبال على الكتاب الورقي .. لإمام المتقين وسيد البلغاء علي بن أبي طالب عليه السلام قول شهير هو : " لو كان الفقر رجلا ً لـَقـَتله " ... فالفقر يا صديقي هو السبب في أمراض سوء التغذية الجسدية وفي مرض سوء التغذية الفكري في عالمنا العربي .. بل وهو السبب في حمل الكثير من الأدباء علي بيع مكتباتهم الخاصة .... لعلك لا تعلم أن الروائي العراقي عبد الخالق الركابي قد قايض علبة دواء بالمجموعة الكاملة لشعر السياب ، وباع روايات دوستويفسكي ليشتري بثمنها حقيبة مدرسية لطفلته ، وأن القاص العراقي علي السوداني قد باع مكتبته كي يوفر ثمن بطاقة السفر إلي الأردن .. وثمة أصدقاء شعراء ( لا أحب ذكر أسمائهم) باعوا حتي رفوف مكتباتهم وليس كتبهم فقط ، لشراء كيس رز وكيس طحين .. فالقارئ ليس بحاجة لكتاب يعبّر له عن همومه ، لأن معدته الخاوية و( شهادة تخرجه المعلقة على الجدار بانتظار رحمة الحكومة في تعيينه ) خير معبِّر عن همومه ومشاكله ..( طبعا أنا أقصد القارئ الفقير والمعدم والعاطل عن العمل ) .

س : كيف تري القصيدة العراقية اليوم، وأين مكانها علي خارطة القصيدة العربية؟

ج : كانت القصيدة العراقية في العصر العباسي ،أجمل من القصيدة العراقية في العصر الذي تلاه وهو العصر الأموي ... والقصيدة العراقية في عصر الرصافي والزهاوي أحسن وأجمل من القصيدة العراقية في عصر عبد الغفار الأخرس ... والقصيدة العراقية في عصرالجواهري وبدر شاكر السياب والبياتي ونازك الملائكة أحسن وأبدع وأثرى من القصيدة العراقية اليوم .. . وأظن أن القصيدة العراقية اليوم ، ستكون أحسن وأفضل من القصيدة العراقية غدا ... وأرجو أن أكون على خطأ ... لكن هذا التراجع في مستوى القصيدة لا يعني أن بستان الشعر العراقي سيصحر يوما ... سيظل هذا البستان قائما ، لكن نخيله سيكون أقلّ ارتفاعا ..

س :  الشعر في الوقت الراهن وخاصة قصيدة النثر، بات نصوصا غامضة على نحو ما، يقرأ القارئ القصيدة فيغرق في ظلام المعاني ويعجز عن رؤية أية صورة في هذه القصيدة أو تلك، هل توافقني الرأي، وهل للشعر حاليا دور في الحياة الاجتماعية والسياسية كما كان في أيام أجدادنا القدامي؟

ج : أوافقك رأيك تماما .. لكن العيب ليس في قصيدة النثر يا صديقي ... إنما في الطارئين على قصيدة النثر ممن لا يعرفون الفرق بين ميزان الشعر وميزان الشعير أو بين الصورة الشعرية والهذيان ... العيب في أولئك الطارئين على اللغة ممن توهّموا أن تفجير اللغة يعني هدم ثوابتها النحوية والبلاغية ، وأن الحداثة تعني الهلوسة والغموض المفضي إلى المتاهة ... رحم الله الشاعر الكبير نزار قباني حين قال :

أرفض الشعر كيمياء ً وسحرا ً

قتلتنا القصيدة الكيمياء ُ

حين يكون الغموض هو الهدف ، فإنه يغدو تابوتا للقصيدة وقبرا لها .

أرجو ألا يُفهم من قولي هذا أنني لا أحب قصيدة النثر ... فأنا من عشاق قصيدة النثر .. والساحة الأدبية زاخرة بشعراء مبدعين حقا في قصيدة النثر .

س :  حركة النقد في عالمنا العربي كيف تراها، هل تخدم الأدب والأديب والشاعر، أم هي مجرد حركة مديح لهذا وذاك فقط؟

ج : دائما أقول إنّ الأديب ( وبخاصة الشاعر ) خلال كتابته النص ، يبدو كالسائر في نومه : محلقا ً في فضاء الأحلام ، بينما الناقد يكون عادة جالسا ً على صخر الصحو مراقبا ً ذلك التحليق .. فهو ـ أي الناقد ـ يرى الفضاء والأرض معا ، وليس كالشاعر المنشغل برؤية فضاء الأحلام ... ومن هنا تأتي أهمية الناقد باعتباره قنديل البصيرة والمراقِب الحذق لعملية تحليق الشاعر أو الأديب ... وكثيرا ما يقوم الناقد في تصحيح مسار التحليق وإضاءة الجانب المعتم منه ، أو الكشف عن المناطق غير المرئية لنا نحن القراء ـ لذا تأتي قراءة الناقد للنص بمثابة إضافة إبداعية للنص ، بل تكون القراءة النقدية أحيانا أجمل من النص نفسه ـ وكمثال على ذلك قراءة الناقد " أزرا باوند " لقصيدة " الأرض الخراب " لأليوت ...

واقع الحركة النقدية في بلادنا العربية هو انعكاس لواقع الإبداع العربي ... فالنقد الجيد هو بالضرورة انعكاس للنصوص الإبداعية الجيدة ... الناقد الجيد بحاجة إلى نصوص جيدة كي يُجري عليها اختباراته في مختبر بصيرته ...

في جواب عن سؤال مماثل في لقاء سابق ، قلت إن البحّار الشهير " ماجلان " كان ربّانا ً عظيما ... لكنه كان سيغرق في عرض البحر لو لم يستعن ببصيرة الدليل " ابن ماجد " ... وإذا كان الشاعر بمثابة " ماجلان " فإن الناقد بمثابة " ابن ماجد " ..

لقد أسهم النقاد في إثراء الساحة الأدبية ، وسيبقي للنقد أثره الفاعل في زيادة مساحات الخضرة في الحقل الإبداعي ... ( وأعني النقد الحقيقي ، وليس النقد الشائه والمرائي ) .

س : مستقبل الشعر العربي كيف تراه، هل هو في أزمة قصيدة ، أزمة شاعر، وهل هو شكوى، بلوى..؟

ج : نحن الآن أمة مأزومة ... أمة ردود أفعال وليست أمة أفعال ...والأدب لا يعدو كونه وجها من وجوه الأمم ... فلا غرابة لو انتكس الأدب العربي ما دام أن الأمة منتكسةً سياسيا واقتصاديا وثقافيا ... ألأمة التي تنفق عشرات مليارات الدولارات سنويا لشراء أسلحة لا تـُستخدم لاستعادة أرض مغتصبة أو لمواجهة عدوان خارجي ، في حين تبخل علي أدبائها بطبع نتاجهم الإبداعي ، لابدّ للإبداع فيها أن يشهد الانحسار ( الانحسار وليس الزوال ) ..

قبل فترة زارتني الشاعرة والروائية الأسترالية " د . إيفا ساليز " لاعتزامها السفر إلي موسكو وعواصم أخرى ... وحين سألتها عن سبب السفر المفاجئ ، أجابتني بأنها تعمل علي إنجاز دراسة عن أديب روسي ، فمنحتها الجامعة تفرغا لمدة عام براتب كامل مع التعهد بتحمل كامل مصاريف السفر ومحفزات مادية أخرى كي تأتي دراستها جديرة باسمها كمبدعة ... ترى هل تتوقع يا صديقي أن تقدم جامعة من جامعات بلداننا العربية على منح أديب من أدبائها مثل هذه الامتيازات لمجرد أنه يعدّ دراسة نقدية أدبية ؟ أشك في ذلك ...