مع طريف يوسف آغا

الجزء الثاني والأخير من مقابلتي مع تلفزيون العصر

حول الثورة السورية:

النجاحات والاخفاقات وإلى أين تتجه؟

طريف يوسف آغا

[email protected]

أين أخفقت الثورة السورية؟

 أخفقت الثورة السورية في تقدير حجم وأهمية ثلاثة عوامل هي التي حمت نظام الأسد وجعلته يستمر حتى اليوم. وهي عوامل كانت معروفة في الماضي للقاصي قبل الداني، ولكن لم يقدر أحد بعد قيام الثورة مدى تأثيرها وصلابتها في دعم النظام: العامل الاسرائيلي والايراني والروسي.

 العامل الأول: العامل الاسرائيلي، وهو برأي الشخصي أهمها على الاطلاق 

 الكل بات يعلم أن (حافظ الأسد) وصل إلى الحكم واستمر فيه حتى موته بعد ثلاثين سنة لأنه سلم الجولان لاسرائيل في حرب حزيران 1967 حين كان وزيراً للدفاع وأمر الجيش بالانسحاب الكيفي من دون قتال ومن دون أي سبب عسكري يوجب ذلك. وهو ربما وزير الدفاع الوحيد في التاريخ الذي يخسر حرب فيصبح رئيس جمهورية وللأبد، وبالتالي فمن الواضح أن تمكينه من الوصول إلى هذا المنصب كان بمثابة المكافأة. قد يحاول البعض الدفاع عنه بذكر حرب تشرين عام 1973 وأنه حاول على الأقل استعادة الجولان إلا أنه لم يفلح. أرد على هؤلاء أن عليهم العودة لمذكرات رئيس الأركان المصري حينها (سعد الدين الشاذلي)، وهو من وضع خطة عبور القناة ونفذها، ولكنه وبعد أن اطلع على خفايا تلك الحرب، عاد ووصفها في مذكراته بالحرب المسرحية أو التحريكية، وليس التحريرية كما ادعى كل من السادات والأسد حينها. كما أدعو هؤلاء المدافعين للعودة لمذكرات رئيسة وزراء إسرائيل حينها (غولدا مائير) والتي كتبتها بعد اعتزالها الحياة السياسية، وقالت فيها أن الطريقة التي قاتل فيها الجيش السوري في الأيام الأولى من الحرب لم تكن طريقة قتال جيش يهدف للاحتفاظ بالأراضي التي يسيطر عليها، بل كان فيها من (رفع العتب) أو (تسجيل موقف) أو (تلميع صورة) أكثر بكثير مما فيها من العمليات العسكرية. وبالفعل فقد أتت الأوامر للجيش بالانسحاب بعد ثلاثة أيام فقط من بداية هجومه المسرحي حتى وصل إلى منطقة (سعسع) الواقعة خلف خطوط ماقبل الحرب وعلى بعد 40كم من دمشق، ولكن وبالرغم من هزيمته المهينة، فهو مايزال يطبل ويزمر بهذه الحرب حتى اليوم.

 منذ بداية الثورة السورية أتانا التصريح الشهير لصاحبه (رامي مخلوف)، لص لصوص النظام وابن خال (بشار الأسد)، حين صرح في مقابلة صحفية بأنه (من المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سورية) في إشارة واضحة منه لاتقبل أي لبس أن نظامه هو من يضمن أمن وأمان إسرائيل، مما دفع باعلام النظام لتبرئة ذمته والإعلان عدم مسؤوليته عن تلك التصريحات وأنها تعبر عن رأي قائلها فحسب. كما وتكررت بعد ذلك التصريحات الاسرائيلية الرسمية وغير الرسمية التي تؤكد وبصراحة أن إسرائيل لاترغب في تغيير نظام الأسد لأنه، حسب توصيفها، باتت تعلم كيف تتعامل معه وأنه أفضل لها من غيره على مبدأ (الشيطان الذي تعرفه خير من الشيطان الذي لاتعرفه). ولكن حقيقة موقف إسرائيل هو شئ آخر، ولا أعتقد بأنها تنظر إليه كشيطان، وإنما كملاك. فهذا النظام هو من سلمها الجولان، مصدر مياه الشرب الرئيسي لها، عام 1967 دون معركة كما ذكرت وحافظ على هدوءه لأربعين عاماً، وهو النظام الذي ساعدها على التخلص من منظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من لبنان إلى تونس عام 1982، فليس أقل من أن تدعمه في محنته الحالية وتتمسك به وتمنع أي تدخل من حلفائها الغربيين والشرقيين لازالته. وقد أعلمت الحكومة الاسرائيلية موقفها هذا أكثر من مرة للادارة الأمريكية والدول الأوربية، ومن المسلم به أن أي تدخل أجنبي في المنطقة لايتم إلا بالتنسيق مع إسرائيل وبموافقتها. وقد قلت في إحدى نثرياتي

بَكَتْ علينا أُمَمُ الأرضِ واسـتَفاضَتْ

ولو صَبَّتْ دُموعَها في البِحارِ لفاضَتْ

...

ولكنْ هِيَ إسرائيلُ أصلُ بَلوانا فلَولاها

ماابتلينا بالعصابةِ التي للجولانِ باعَتْ

جَعَلتْ أمنَ وأمانَ إسرائيلَ غايتَها

وهِيَ لهذا للشَرقِ والغَربِ قَد راقَتْ

 العامل الثاني: العامل الايراني، وهو يأتي برأي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية

 أعلن (الخميني) منذ اليوم الأول لاستيلائه على الحكم في إيران نيته (تصدير الثورة)، وهذا يعني إكمال المشروع الذي بدأه الصفويون في القرن السادس عشر باستعادة أملاك الامبرطورية الفارسية والتي وصل نفوذها في حينه إلى مصر غرباً. ولكن استعادة أملاك فارس هذه المرة ليس تحت راية النار المقدسة، وإنما تحت نفس راية (يالثارات ياحسين) التي استعملها الصفويون قبله، أي بواسطة الخطاب الطائفي. وهناك مثلٌ شعبي يقول (المال الداشر، بيعلم الحرامي على السرقة)، والحرامي في هذه الحالة هي إيران والمال الداشر هو الدول العربية التي ابتليت بحكام أولوياتهم هي كراسيهم ولاأعرف إذا للوطن عندهم أي أهمية. ولكن عندما يسرق الوطن، سيسقط كرسي الحاكم أيضاً، وما حدث للخليفة (المستعصم بالله) آخر خليفة عباسي، حين أتاه (هولاكو) في القرن الثالث عشر لأكبر دليل على ذلك. بدأت ايران مشروعها هذا من لبنان حين خلقت (حزب الله) عام 1982 وجعلته دولة داخل الدولة إلى أن تمكن من مصادرة القرار السياسي والعسكري معاً عام 2005 بعد إجبار الأسد على سحب جيشه. من جهتي يمكنني رؤية الدور الاسرائيلي في خلق (حزب الله)، فاسرائيل بعد اجتياحها لبنان عام 1982 وإخراجها لمنظمة التحرير منها، انسحبت مع احتفاظها بالجنوب، بالرغم من أنه لم يعد هناك أي تهديد حقيقي لها، وهذا مامهد الطريق لظهور (حزب الله) كحزب يدعي المقاومة ولكن أثبتت الأحداث المستقبلية أنه في الواقع كان يعمل على إضافة لبنان لأملاك الولي الفقيه في طهران. وقد أكمل الطرفان، إسرائيل و(حزب الله)، هذه المسرحية السمجة حين انسحبت إسرائيل من الجنوب عام 2000 بلا أي سبب، تماماً كما احتلته، لتهدي الحزب انتصاراً مجانياً يكرس هيمنته على القرار السياسي اللبناني، والكل يعرف أن الاسرائيليين لايمنحون شيئاً بالمجان.

 وللعلم، فقد كانت لسورية اليد الطولى والأمر والنهي في لبنان منذ احتلالها له عام 1976 تحت غطاء (قوات الردع العربية). حيث أسندت إليها الجامعة العربية مهمة إيقاف الحرب الأهلية اللبنانية والتي أشعلت أصلاً من أجل هذه الغاية وليتم إخراج المقاومة الفلسطينية نهائياً من هناك، وهذا ماتم عام 1982. وقد كانت إيران الخميني حينها غير راضية عن ولاء (حركة أمل) اللبنانية الشيعية لها والتي أسسها الامام (موسى الصدر) عام 1975 وترأسها (نبيه بري) بعد الاختفاء الغامض للأول خلال زيارة له إلى ليبيا عام 1978. وسبب عدم رضى إيران عن (أمل) في حينه أنها كانت ترى أن ولاء هذه الحركة للبنان كان يأتي في الدرجة الأولى، في حين ولائها لايران في الدرجة الثانية. ولذلك استغلت إيران احتفاظ اسرائيل بالجنوب لتبرير تأسيسها (حزب الله) ليكون بمثابة يدها الضاربة هناك والذي يأتي ولائه لها في الدرجة الأولى.

 لم تكن تخفى عن (حافظ الأسد) العداوة التاريخية والدموية بين طائفته (العلوية-النصيرية) وبين الشيعة عموماً، فكان تحالفه مع إيران الخمينية هو (تحالف الضرورة) للاستقواء بها في خضم بحر من الدول العربية والاسلامية السنية التي تحيط به، كما ونظرت إيران الشيعية إلى هذا التحالف من نفس المنظار. إلا أن الأسد كان دائماً يخشى تمدد النفوذ الايراني على حسابه، وقد بدأ ذلك فعلاً في لبنان حين أسست إيران (حزب الله) عام 1982 والذي ماكان يتلقى الأوامر إلا من طهران ودعمته بالتسليح والتدريب بواسطة قوات الحرس الثوري. عادى نظام الأسد هذا الحزب وعلناً في حينه وتحالف مع (حركة أمل) من أجل القضاء عليه في مهده، وتطورت الأمور بين الحركة والحزب إلى معارك مسلحة عام 1990 سميت (حرب إقليم التفاح) هي في الواقع كانت حرباً بالوكالة بين الحليفين اللدودين السوري والايراني على النفوذ في لبنان. ولكن لما كتب الانتصار فيها لحزب الله، لم يجد الأسد بداً من التسليم بالأمر الواقع وتقاسم النفوذ هناك مع إيران، فكانت هذه أول خطوة لإيران للسيطرة الكاملة على لبنان.ثم أتت الحادثة التي أضعفت نفوذ الأسد أكثر هناك وهي مقتل ابنه (باسل) في حادث سيارة غامض في دمشق عام 1994. وهو الذي كان مفوضاً بالملف اللبناني بالوكالة عن أبيه وكان يتبع سياستة الحذرة بالتعامل مع الحليف الايراني، كما وكان الوريث الأول للحكم من بعد أبيه. كل هذا يدفع إلى البحث عن دور إيران في (إزاحته) عن طريقها وتمهيد الطريق لأخيه (بشار)، الغير كفؤ لأي شئ أصلاً، ليستلم الحكم مستقبلاً مما يسهل لايران بسط نفوذها على سورية نفسها وليس لبنان فقط.

 الخطوة الأخيرة التي أنهت النفوذ السوري بالكامل على الأرض اللبنانية كانت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني (رفيق الحريري) عام 2005، وهو الرجل الذي كان يعمل على الساحة الدولية لتخليص بلده من الاحتلال السوري باخراج جيشه ومن النفوذ الايراني بتسليم (حزب الله) لسلاحه والانخراط في العملية السياسية. وبالتالي فمن الطبيعي أن تشير كافة المعطيات والأدلة إلى تورط نظام الأسد وإيران معاً في تلك الجريمة والتي والتي انعكست نقمة على الأول وأجبرته على سحب جيشه بعد احتلال دام 25 عاماً، ونعمة على الثانية التي أصبح لبنان لها دون منافس. ومن هنا يذهب التحليل المنطقي للأمور بأن الجهة الأكثر استفادة من عملية الاغتيال هي إيران التي أحكمت بذلك سيطرتها على لبنان بالكامل. ويبدو أنها أقنعت الأسد الابن، الذي لايرى لأبعد من أنفه، بالموافقة على العملية وطمأنته بأن إسرائيل ستؤمن له الغطاء الدولي كما جرت العادة. وبالفعل فقد كانت إسرائيل أحدى الدول التي صوتت ضد سحب جيش الأسد من لبنان، ولكن وبما أنها لاتملك حق الفيتو، فلم تتمكن من إنقاذه، خاصة وأنه وباغتيال الحريري تجاوز أحد الخطوط الحمراء التي وضعت أصلاً كشرط لاحتلال أبيه لهذا البلد عام 1976.

 كانت إيران قد تمكنت قبل ذلك من إحكام قبضتها على العراق بعد غزو الجيش الأمريكي له عام 2003 ثم انسحابه وتسليمه لها على طبق من ذهب عام 2011. وبعدم عثور الأمريكان على أسلحة الدمار الشامل التي برروا غزوهم بها، فقد بدا غزوهم ثم انسحابهم وكأنهما من أجل تسليم البلد لولاية الفقيه. ومن جهة ثانية فيرى الجميع كيف أن إيران تحاول السيطرة على اليمن من خلال دعم مقاتلي الحوثيين الشيعة في الشمال واستغلال عمليات مقاتلي القاعدة في الجنوب، وكذلك على البحرين من خلال نشر الفوضى بواسطة المظاهرات الشيعية التي ظاهرها حق وباطنها باطل. وهي أيضاً تعمل منذ فترة على الدول الافريقية، وخاصة تلك المجاورة للدول العربية، عن طريق الدعوة للتشيع وكذلك تأسيس جماعات مسلحة من الطبقات الفقيرة لاستخدامها لابتزاز دول المنطقة. لكل هذا كنت قد كتبت العديد من النثريات حول هذا الموضوع قلت في مطلع إحداها مستغلاً التشابه بالأحرف بين كلمتي إيران والشيطان:

نِظامُ إيرانْ وماأدراكَ مانِظامُ إيرانْ؟

عِصابةٌ اشتقَّتْ اسمَها مِنَ الشَيطانْ

إنْ تجسَّدَ الغدرُ تجسَّدَ بِهمْ

وإنْ ضاعَ الحِقدُ وجدتَّهُ في طَهرانْ

أينما ذهبوا قسَّموا العربَ عربينْ

في العِراقِ والبَحرينْ واليَمنِ ولُبنانْ

 العامل الثالث: العامل الروسي

 بعد فقدانهم لحليفهم الليبي، قرر الروس الاستماتة في دعم نظام الأسد، ذلك أنه آخر بلد يوفر لهم قاعدة عسكرية بحرية دائمة على شواطئ المتوسط في طرطوس، ولاأستبعد وجود قواعد عسكرية برية لهم عندنا أيضاً. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وحكم مدمن الكحول (بوريس يلتسن) حتى عام 1999، ظهر رئيس المخابرات (فلاديمير بوتين) على الساحة ليصل إلى منصب رئاسة الجمهورية وليحكم سيطرته عليه حتى تاريخه. واستمراره في الحكم حتى اليوم هو أكبر دليل على أنه استولى عليه بالتزوير وليس عبر انتخابات حرة، وعلينا أن لاننسى أن علاقاته مع (المافيا الروسية) التي تسيطر على قطاعي النفط والغاز معروفة للجميع.

 كنظام الملالي في إيران، تسيطر على (بوتين) فكرة إعادة أمجاد الامبرطورية التي كانت تدعى الاتحاد السوفيتي، وقبل ذلك امبرطورية القياصرة التي ظهرت وتوسعت خلال العصور الوسطى واستمرت حتى بدايات القرن العشرين. وقد استغل بوتين ثروة بلاده من النفط والغاز لتحديث تسليح جيوشه وأساطيله ليعيد بلاده إلى ملاعب القوى العظمى والتي خرجت منها بانهيار الاتحاد السوفيتي. وهو اليوم ليس له سوى حليف واحد في الوطن العربي يعتمد على سلاحه مئة بالمئة وهو النظام السوري، ولهذا فنراه يستميت ويجازف بعلاقاته الاقتصادية والسياسية مع كثير من الدول في سبيل بقاء هذا الحليف الذي يؤمن له آخر موطئ قدم في حوض المتوسط. وقد أتت أزمة (أوكرانيا) مؤخراً لتزيد من الاحتقان بين روسيا والغرب ولتزيد من تمسك الأولى بدعم نظام الأسد. وكنت قد كتبت نثرية في هذا الموضوع قلت فيها:

منذُ أنْ أصبحَ زعماءُ الروسِ أصدقائَنا

والشَعبُ السوريُ على الحدينِ آكلٌ للموسْ

...

كلُ شَئ عندَهُمْ معروضٌ للبيعِ

هذا نظامٌ مِنْ ضَميرِهِ مَيؤسْ

حتى إسطولُهمْ برسمِ الايجارِ

وحتى الفيتو مُقابِلَ الفلوسْ

 ولابد هنا أيضاً من الاشارة إلى العامل الداخلي الذي دعم النظام خلال الأربعة عقود الماضية والمتمثل بتحالف رجال المال السوريين من تجار وصناعيين وغيرهم معه وقبولهم لرجالاته كشركاء لهم في أعمالهم وتجارتهم مقابل حمايته لهم وتسهيل أعمالههم. وهذا ليس بغريب من أصحاب المال الذين عادة مايكون الضمير والشرف عندهم قد مات وعلى استعداد لمشاركة الشياطين من أجل المال.

 مستقبل الثورة السورية

 مما سبق، نرى أن التحديات التي تواجه الثورة السورية لايستهان بها، فمن يدعون صداقتها ودعمها يكتفون بمراقبة الأحداث وإحصاء الضحايا وإصدار بيانات الادانة والقلق وابقاء الدعم للجيش الحر فقط بما يضمن عدم انهياره وفرض الجبهات التي يمكنه أن يحارب عليها والجبهات التي لايمكنه أن يحارب عليها، مع الابقاء على صمت مطلق بخصوص الدعمين الايراني والروسي للنظام على الأرض، وخاصة بعشرات آلاف المقاتلين الشيعة الذين نقلتهم إيران من أنحاء المعمورة إلى سورية للقتال مع النظام. ولايمكن تفسير ذلك الصمت الغربي المريب إلا بالمثل الشائع الذي يقول (السكوت علامة الرضا) والذي يبدو أنه جزء من المشروع الذي تم التبشير به خلال السنوات الماضية باسم (الشرق الأوسط الجديد) والذي يبدو أنه يتطلب تغيير التحالفات السياسية الدولية في المنطقة ومايتطلب ذلك من تغيير بالهوية السكانية والمذهبية لشعوبها.

 إذا سورية هي الدولة الثالثة التي تعمل إيران إلى ابتلاعها بعد ابتلاعها لبنان والعراق، ولديها مشروعان في مرحلة التنفيذ في كل من اليمن والبحرين. وبالتالي فمن الواضح أن الدور قادم على الأردن ودول الجزيرة العربية ثم على مصر والسودان وليبيا وبقية دول المغرب العربي، وأيضاً على تركيا، العدو التاريخي المشترك لكل من إيران والغرب معاً. وهذا يفسر الخلافات الحادة التي ظهرت مؤخراً على العلن بين السعودية وأمريكا، ولم تحصل الأولى من الثانية إلا على تطمينات كلامية لاتسمن ولاتغني من جوع، في حين المشروع الصفوي يسير على قدم وساق وكذلك التقارب الايراني الغربي تحت مسرحية (الملف النووي الايراني). لم يعد هناك وقت للدول العربية، كانت من دول الربيع أو من غيرها، لأن تبقى تتفرج على المأساة السورية، لأني أرى صور هذه المأساة ستتكرر فيها إن لم يكن هذا العام فالعام القادم أو في الأعوام التي تليه. وكما قلت في مقال سابق، فعليها أن تحل خلافاتها السياسية فيما بينها وأن تتصالح مع شعوبها بمنحها هامشاً أوسع من الحريات لتضمن ولائها، وهي إن لم تفعل فإما ستأتيها الثورات تطالب بالحرية، وإما سيأتيها المد الايراني لاحتلالها. وعليها أيضاً أن تتحالف مع الجارة القوية تركيا لأن المسألة بالنسبة لهم جميعاً هي مسألة وجود أو عدم وجود. فاذا حصل ذلك، فان إيران ستنكفئ إلى ماوراء حدودها وسنرى الشعب الايراني نفسه يخرج إلى الشوارع إسوة بشعوب الربيع العربي لاقصاء هذا النظام الشمولي الذي يتستر خلف الرايات الدينية والطائفية لتحقيق أحلامه الامبرطورية.

 وأنا أستغرب تماماً موقف إسرائيل مما يجري حولها، فهي إن ظنت أن قوتها النووية ستردع أي تهديد لها، فعليها أن لاتنسى أن عدم تمتعها بعمق جغرافي وحقيقة أنها دولة مجهرية على خريطة العالم يجعل ترسانتها النووية غير كافية لحمايتها. أما إذا بقيت تعتمد على الأنظمة العربية الديكتاتورية لضمان أمنها وأمانها، فعليها أن تعلم أن لكل شئ نهاية وأن الشعوب لاتبقى نائمة إلى الأبد. أما بخصوص استقوائها بالدعم الغربي، فعليها أن لاتنسى أنها تبقى في النهاية صنيعة هذا الغرب وأداته، وأنه سيضحي بها حين تنتهي مهمتها، والمجازر التي ارتكبها الأوربيون ضد اليهود عبر التاريخ، وليس الألمان وحدهم، لخير دليل على ذلك. وبالتالي أرى أن عليها التصالح مع أبناء عمومتها العرب الذين كانوا دائماً حلفاء اليهود عبر التاريخ، وبالتالي فعليها إعطاء الشعب الفلسطيني حقه بالعودة وانشاء دولته، ثم الانضمام إلى الجهود الرامية لوقف الزحف الايراني الذي يقوم بابتلاع دول الجوار واحدة بعد واحدة وربما كانت هي نفسها على قائمته للمستقبل، إلا إذا كانت هي نفسها جزءاً من هذا المخطط.

 أما للعلويين في سورية فأقول بأن نظام الأسد الديكتاتوري هو عدوهم الأول قبل أن يكون عدو بقية فئات الشعب السوري، وهو الذي وضعهم في موقع أعداء هذا الشعب ليحتمي خلفهم مما كلفهم عشرات الآلاف من أرواح أبنائهم. فهم بالتحديد، وبسبب عقيدتهم التي عرضتهم للاضطهاد منذ نشوئها في العراق في القرن التاسع الميلادي وأيضاً للتكفير من قبل الشيعة قبل السنة، فلا أمل لهم بالعيش بسلام إلا في ظل نظام مدني ديمقراطي ذي تعددية سياسية يضمن حرية وممارسة الديانات بكافة مذاهبها وطقوسها مادامت لاتعتدي على أحد، كما ويضمن انتقال السلطة سلمياً عن طريق صناديق الاقتراع الحقيقية. من الواضح أن نظام الأسد لايحمل ولاواحدة من هذه الصفات، وأن طائفته إذا استمرت في دعمها له، فهي معرضة للانقراض لصالح المشروع الشيعي الايراني.

 حجم المأساة الانسانية السورية بالأرقام، ومن يقدم الدعم؟

 تشير معظم التقديرات إلى سقوط أكثر من 200 ألف ضحية من المدنيين العزل بنيران ومجازر النظام وحلفائه، بالاضافة لاعتقال واختفاء أكثر من 350 ألف يعتقد بأنه تم قتلهم إما بالاعدام أو تحت التعذيب. أما بالنسبة لعدد الجرحى ومن أصيبوا بعلة دائمة كفقدان البصر أو أحد الأطراف فيقدر بحوالي 200 ألف. عدد النازحين خارج سورية يصل لحوالي 3.5 مليون يتوزع معظمهم في مخيمات للجوء مابين تركيا والأردن ولبنان وكردستان العراق، وحوالي 8 مليون يتوزعون على الأراضي السورية مابين المخيمات والمدارس وبيوت الأقارب في المناطق الخاضعة لفصائل الثورة. من جهة النظام، فتشير الاحصائيات إلى خسارته مابين 100 ألف إلى 150 ألف، غالبيتهم من جنوده وشبيحتة ومن الطائفة العلوية. أما بالنسبة للدمار فهناك عدة مدن رئيسية كحمص وحلب ودرعا أصاب الدمار الكامل أحياء كثيرة منها وجانب واسع من بنيتها التحتية، بالاضافة للمئات من الضواحي والبلدات والقرى الريفية الصغيرة التي تم محيها من على الخارطة جراء القصف الجوي والبري، بحيث تقدر الخسائر المادية بالمليارات. هذا بالاضافة للخسائر الاقتصادية الناتجة عن توقف عجلة الانتاج بسبب سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام لمعاقبة المناطق الخارجة عن سيطرته والتي أدت إلى دمار المعامل وحرق المحاصيل الزراعية، وهي السياسة التي عادة مايتبعها الاستعمار وليس من يعتبر نفسه من أبناء الوطن.

 لم تبخل معظم الدول العربية، وخاصة الخليجية، بتقديم الدعم المادي والطبي للاجئين السوريين، وكذلك تركيا وأمريكا والدول الأوربية، وتبقى المهمة الأصعب هي في إيصال تلك المساعدات إلى المناطق الداخلية التي تجري حولها أعمال قتالية. كما وأن معظم دول العالم استقبلت لاجئين سوريين وإن كان بأعداد محدودة ومنحتهم حق اللجوء السياسي أو الانساني. أما الجالية السورية حول العالم، فلم تبخل أيضاً لابالمساعدات المادية ولا بالمعونات الغذائية والعينية وأقول لك بأن مدينة (هيوستن) كانت سباقة في هذا المجال. فهي وحدها جمعت وأرسلت أكثر من مليوني دولار وشحنت بحرياً العديد من الكونتينرات المعبأة بالملابس والبطانيات والمواد الغذائية والدوائية، وسافر منها عشرات الأفراد والمجموعات، شاركت بنفسي في واحدة منها عام 2013، متجهين خاصة إلى الحدود التركية السورية يحملون معهم مساعدات انسانية من كافة الأنواع. وحتى كان منهم من خاطر بحياته وعبر الحدود لايصال تلك المساعدات إلى مخيمات الداخل، وقس عليه في بقية المدن الأمريكية والأوربية وغيرها.

 إلى أين تذهب ثورات الربيع العربي؟

 إن تأخر انتصار الثورة أو انتكاسها أو تعرضها لهجوم مضاد من قبل مغامرين أو جهات متسلقة عليها أو فلول النظام السابق لايجب أن يصيب الشعب باليأس فهذا يحصل في الثورات. فالثورة الفرنسية (1789) التي ألغت الملكية وأعلنت قيام الجمهورية المدنية استمرت عشر سنوات، ولكن تمكن ملك وإمبراطوران من العودة بعدها إلى الحكم، ولم تستقر الأمور للنظام المدني إلا بعد 77 سنة. وبالتالي فعلى الشعوب العربية الصبر وعدم اليأس، فالمستقبل للحرية والكرامة وإلا فان الثورات ستستمر. وكما سبق وأشرت، فان ثورات الربيع العربي تتحدى أنظمة ديكتاتورية وحشية لاتعرف الرحمة ومدعومة من قبل دول مؤثرة، إقليمية ودولية، تتعارض مصالحها مع أهداف هذه الثورات، وهذا ماسيسبب تأخرها.