حوار مع الكاتب السوري نجم الدين سمان

نشر في الاتحاد الاشتراكي 

- تعرّضتٌ لضغوطٍ شخصيةٍ كثيرة، لن أذكرها لأنها لا تُشكّل شيئاً بالقياس لما يُعانيه شعبي طوال عامين من القتل المُمَنهج. 

- حين أقلعت بي الطائرة من مطار دمشق.. بكيت، وحين حطّت بي الطائرة في مطار الجزائر التي اخترتها.. بكيتُ أيضاً.

- نحن السوريين.. سيزيف الشعوب العربية؛ ومن المفارقة أن نُقتلَ يومياً ومنذ عامين بالسلاح الذي اشتريناه من جُهدنا كسوريين لِنُحَرِّرَ به الجولان المحتل وكل فلسطين!!.

ثمّة التباسٌ كبير وبخاصة عند بعض المثقفين القوميين والعلمانيين في دول المغرب العربي حول سوريا.

- القدس لا يُمكن تحريرها ما لم تكن الشام حرةً من كلّ استبداد.. وهذا ما تخشاه إسرائيل وحلفاؤها المُعلَنون وغيرُ المُعلَنين.

------------------

*- كسوري هل تجد نفسك ضمن «شَرَكِ» طائفة محددة تدين لها بالولاء، والانتساب، والانتماء العضوي..؟

- لديّ مناعة ضد الطائفية.. مع أننا عشنا لأكثر من 40 عاما في ظلّ نظام طائفي مُستتر وجوباً.. تقديره: خطف المؤسسة العسكرية والأمنية لصالح طائفةٍ بعينها.. وخطف الحياة السياسية لصالح حزب واحد ومن ثمّ خطف حزب البعث لصالح قائد أبديّ واحد..وخطف الاقتصاد السوري لصالح مافيا عائلية بذاتها.. ثم خطف أسس جمهورية الاستقلال السوري لصالح جمهورية ملكية بالتوريث القسريّ.

على صعيدي الشخصي.. لديّ أصدقاء حقيقيون من كلّ أطياف اللون السوري؛ حتى أنّي كنتُ شاهداً على زيجاتٍ مُختلطة دينياً ومذهبياً وحتى من قوميات مختلفة.

ليس غريباً أن تكون سوريا هي الأولى عالمياً في عدد لوحات الفسفيساء المُكتشفة حتى الآن.

*- استنادا إلى وعيك الثقافي،أو الوعي النقدي كيف تنظر إلى مخاطر الطائفية على التركيبة الاجتماعية السورية..؟

هناك مخاطر بالفعل.. طائفية؛ وحتى إثنيّة.. فيما يتعلق بالأكراد خصوصاً؛ وتفاقمت بعد عامين من الانتفاضة الشعبية السلميّة ثمَّ المُسلحة ضد النظام السوريّ؛ ويُغذِّي النظام ما يتعلق بمخاوف الطائفة العلويّة بخاصةٍ.. حتى تظلّ مُلتفّةً حول رئيسٍ وَرِثَ حُكماً جُمهورياً عن والده على غِرار كوريا الشمالية؛ وكنّا سنُصدّر هذه البدعة الى العرب؛ وإلى مصر حسني مبارك خصوصاً؛ كما كان لنا السبقُ في تصدير الانقلابات العسكرية خمسينات القرن الماضي إلى مصر خصوصاً حين قام انقلاب الضباط الاحرارعلى الملك فاروق بعد عامين من أول انقلاب في سوريا.

وقد عمل النظام السوري أيضاً على إثارة المخاوف عند بعض المسيحيين السوريين؛ بالتعاون والتنسيق مع أغلب رجال الدين المسيحيين في بلدي؛ كما تُغذّي دول اقليمية صراعاً بين العرب والاكراد صامتاً حتى الآن.. لكنه قابلٌ للانفجار في كلّ لحظة؛ من غير أن ننسى النفوذ الايرانيّ في سوريا ودوره في إقامة هلالٍ شيعيٍّ من جنوب لبنان بدعوى مقاومة اسرائيل؛ وحتى باكستان وأفغانستان مروراً بسوريا والعراق طبعاً؛ وذلك في مواجهة هلالٍ سُنّي تدعمه تركيا ودول الخليج العربي والأردن الهاشميّ ومصر أيضاً مع مبارك أومن دونه.

علينا كسوريين أن نَعِيَ هذا؛ وأن نتجاوزه بالحوار الوطني الشامل.. قبل سقوط النظام وبعده؛ بالعودة إلى الشعار الشهير الذي وحّد السوريين ضد الاستعمار الفرنسي وبنى دولة أول استقلالٍ عربي عن الاستعمار الغربيّ الحديث.. والشعار هو:

الدين لله والوطن للجميع.

لكني أعترف بأن طول الصراع في سوريا وضراوته.. ودمويّة مجازر النظام السوري المُمنهجة ضد الأغلبية الرافضة لاستمراره؛ ربما.. سيُطِيل الوصول الى وِفّاقٍ وطني شامل؛ وبخاصة إذا تمَّ اعلان دويلة علوية في شمال غرب سورية ودويلة كردية في شرقها الشمالي؛ وباركت اسرائيل وحلفائها هذه الخطوة ولو ضمنياً من غير اعترافٍ بهما.

*- هل لي أن أسالك لِمَ تركت سورية..؟

تعرضتُ لضغوطٍ شخصيةٍ كثيرة.. ولن أذكرها لأنها لا تُشكّل شيئاً بالقياس لما يُعانيه شعبي طوال عامين من القتل المُمَنهج؛ والقصف بكلَّ أنواع الأسلحة حتى المُحرَّم منها دولياً؛ حتى وصل عدد الشهداء من المدنيين فقط إلى 200 ألف حتى الآن.. عدا عن 160 الف معتقل يموت منهم عشر معتقلين تحت التعذيب يومياً؛ وتُغتصب الفتيات والنسوة المعتقلات يومياً وبشكلٍ وحشي.

فقدتُ عمتي البالغة من العمر 85 عاماً مع ابنها وزوجته وأولاده في قصفٍ بصواريخ غراد روسيّة الصُنع على بيتهم في مدينة حلب؛ كما فقدنا أثر ابنة عمتي الثانية البالغة 64 عاما في حلب أيضاً؛ ونعتقد بأنه قد تمّ تصفيتها مع كثيرٍ من أهل الحيِّ الذي تقطن فيه.. بينما كان إعلام النظام يتغنَّى بالقضاء على العصابات الارهابية المسلحة؛ في حين كان يُعاقب المدنيين على انحيازهم للثورة.. وقد هاجر من تبقّى من عائلتي وأقاربي إلى تركيا ولبنان ومصر هرباً من المذابح اليومية.

كما تكسّرت نوافذ بيتي مرتين بسبب القصف الشديد؛ وسقوط قذائف الدبابات على بُعد خمسين متراً فقط؛ قبل أن أُهاجر مُرغماً وحفاظاً على عائلتي الصغيرة بالطبع.. كما فعل مليون سوري حتى الآن.

*- هل تصف إحساسك ساعة الخروج، خروجك من دمشق، وأي احساس جدَّ في حياتك وأنت الآن موجود في الجزائر..؟

- حين أقلعت بي الطائرة من مطار دمشق.. بكيت

وحين حطّت بي الطائرة في مطار الجزائر التي اخترتها.. بكيتُ أيضا.

ليس أصعبَ من أن يبكي رجلٌ تجاوز الخمسين.. مرتين؛ ولم يُفكّر بمغادرة بلده يوماً.. حتى من أجل لقمة العيش.

*- وصل الآن الوضع في سورية إلى نقطة اللاعودة، كيف تستشرف المستقبل من موقع أفقك الثقافي والإنساني..؟

- كنت أعرف بأن الثورة السورية ستكون الأكثر تراجيديةً بين ثورات الربيع العربي؛ وبأن السوريين سيدفعون ثمن حريتهم مرتين.. ومُضاعفةً؛ نظراً لموقع بلدنا الاستراتيجي على مَرِّ العصور؛ ونظرا لطبيعة النظام الأكثر استبدادية في المنطقة.

لو كانت سوريا تقع بين تشاد ومالي.. كنت سترى انتصاراً ساحقاً وسريعاً.. إما للثورة أو للنظام؛ في ظلّ تدخلٍ عربيٍ ودولي عاجلين جداً.. لأنه لا حدود مشتركة لتشاد أو لمالي مع اسرائيل.

نحن السوريين.. سيزيف الشعوب العربية؛ ومن المفارقة أن نُقتلَ يومياً ومنذ عامين بالسلاح الذي اشتريناه من جُهدنا كسوريين.. لِنُحَرِّرَ به الجولان المحتل وكل فلسطين!!.

لكن.. مهما طال الوقت ومهما عظُمت التضحيات البشرية والمادية.. فإنّ نظاماً يقتل شعبه سيزول ولو بعد حين.. ولن يقبل السوريون بمثل هكذا نظام بعد الآن؛ ولو على جثثهم جميعاً؛ حتى لو تواطأ الكون كلّه ضدهم.. بشكلٍ مُستترٍ أو علنيّ إيرانياً كان أم إسرائيلياً سواءً بسواء أمريكياً روسياً أو.. صينياً أوروبياً عربياً  أو من المريخ؛ فالكلّ ضالِعُ وعلى طريقته.. ضد إرادة الشعب السوري؛ وذاك لأن انتصار الثورة السورية سيُغيّر تاريخ المنطقة واستراتيجياتها لمئة عامٍ قادمة.. والكلُّ خائف من هذا التغيير الجذريّ!.

*- هل كنت تتوقع أن تجد نفسك معارضا لنظام كنت تشتغل في أحد منابره الثقافية، أقصد إدارة تحريرك لجريدة شرفات..؟

- وهل كنت تريدني أن أعمل رئيس تحريرٍ لجريدة معاريف الاسرائيلية.. لا سمح الله؟!!

أنا كنت أشتغل في بلدي.. وفي مؤسسات دولتي السورية.. وليس عند النظام؛ ومن حق كلّ سوري ان يعمل في مؤسساته الوطنية؛ حتى لو كان مُعارضاً لسياسة حكومته؛ ثم أنّي كنت أعمل رئيس تحرير لجريدة قمتُ أنا بتأسيسها وتسميتها.. ولم تكن موجودة على خارطة منشورات وزارة الثقافة السورية قبل عام 2006؛ والمفارقة هي أني كنتُ أعمل مع وزارة الثقافة بعقد خبرةٍ سنويٍّ قابلٍ للتجديد.. كما هو قابلٌ لعدم التجديد. وذلك لأني أمضيت ثلاثين عاماً من عمري أدفع ثمن مواقفي.. مذ كنتُ في السابعة عشر من عمري وندّدت بقصف الجيش السوري لمخيم تلّ الزعتر الفلسطيني في لبنان خلال مهرجانٍ للأدباء الشباب ثمّ ألقيتُ قصةً عن خالد الفلسطيني الذي يُقتل وهو يبحث عن رغيف خبزٍ لعائلته في مخبزٍ مُدمَّر.. فلا يجد سوى الجثث المعجونة بالدم والطحين: وسوى وجوهٍ تُشبه وجهه.. في داخل الفُرن وبين أكياس الطحين وعلى كفّتي الميزان؛ ومن المؤسف أنّ قصتي هذه: 30 قطعة لجسد الرغيف.. من مجموعتي القصصية الأولى.. لم تمت حتى الآن؛ وبخاصةٍ بعد أن قصف النظام نفسه 32 مخبزاً في سوريا مع العاملين بداخله ومع طوابير الناس خارجه.. كما قصف مُجدّداً مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق وخمسة مخيماتٍ سواه في اللاذقية وحمص وحلب ودرعا.

كما أنّي أحد المثقفين السوريين الموقعين على بيان 99 الشهير؛ وعلى بيان الألف مثقف سوري.. حين بدأت أول أزهار الربيع تتبرعم في سوريا قبل كثيرٍ من الدول العربية.

واذا لم يكن المثقف مُعارضاً.. فلا خيرَ منه ولا.. فيه؛ لا أقصد المعارضة السياسية التقليدية؛ فانا لم أنتسب لأيّ حزب.. وإنما مًعارضة كلّ فسادٍ ونهبٍ للمال العام وظلمٍ للناس وقمعٍٍ لحرياتهم الأساسية.

*- كيف يتقاطع المثقف السوري مع واقعه الموضوعي في ظل تسرّع وتيرة الأحداث في سورية..؟

- أغلب المثقفين السوريين يُساندون ثورة شعبهم.. بكلّ شكلٍ مُمكن؛ وكلٌّ بحسب استطاعته؛ بعضهم اضطر مثلي للهجرة؛ وبعضهم مازال في السجون أو مُلاحقاً؛ أو في المناطق المُحرَّرة من سيطرة النظام.

ثمّة كتلة صامتة رغماً عنها.. وثمَّة من اختاروا مُساندة النظام حتى النهاية وهم قلائل جداً.. وهذا شيء طبيعي في كلّ الثورات عبر العصور.

*- هل يُمكن أن ننعت الآن الوضع في سورية بالوضع الغامض والمُلتبس الذي لا يستقر على قرار..؟

- من يريد إغماض عينيه عمّا يجري في سوريا.. سيصف الوضعَ بالغامض؛ ثمّة التباسٌ كبير.. وبخاصةٍ عند بعض المثقفين القوميين والعلمانيين في دول المغرب العربي حول سوريا.. وبعضهم اصدقائي وأحاورهم.. وأتعجّب كيف ماتزال تنطلي عليهم خديعة النظام المقاوم للإمبريالية ولإسرائيل؛ بل.. ويعتبرون طاغيةً مثل صدام حسين بطلاً قومياً!؛ مثلما يعتبر بعض العلمانيين أن مظاهراتٍ تخرج من الجوامع هي مظاهرات غير ثورية.. بالضبط كما أعلن أدونيس عن احتقاره للشعب السوري ولثورته؛ وكأنَّ النظامَ المسكوتَ عنه لدى أدونيس الفرانكفونيّ.. قد ترك هامشاً لحياةٍ سياسيةٍ طبيعيةٍ.. أو حتى لمنتدياتٍ أقمناها خلال ربيع دمشق عام 2000 في بيوت المثقفين السوريين.. تنتقل من بيتٍ إلى بيت من باب الاحتياط؛ ولكنّ أمن النظام قام بإغلاقها وباعتقال كثيرٍ من الناشطين فيها.

عندما يقوم نظامٌ بقصف المدارس التي تلجأ اليها العائلات السورية هرباً من القصف؛ ثم يقصف المشافي التي تستقبل الجرحى؛ ودور العبادة الاسلامية والمسيحية.. وبخاصةٍ تلك التي تفتح مطابخها للنازحين داخل بلادهم أو تقوم بمعالجة الجرحى؛ حيث لم تسلم كنائس مدينة حمص من هذا القصف الهمجيّ ؛ ثم يقصف المخابز والناس في طوابير الحصول على قوتهم اليومي؛ ومؤخراً.. قصفت طائرات الممانعة كلية الهندسة وسكناً طلابياً في جامعة حلب يوم تقديم الطلاب لامتحاناتهم.. فعَن أيّ غموضٍ تتحدثون بعد عامين من الابادة.. وبعد مليون منزلٍ مُدمَّر كلياً في سوريا وخمسة ملايين مُهجّر داخل سورية ومليونين خارجها.. قرى وبلدات ومدن مثل حمص ودير الزور ومدينة ابي العلاء المعري تمّ مسحها عن وجه الارض كما لم يحصل لدريسدن أو لستالينغراد وحتى لهيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية.. ويُمكن لأي أحدٍ مشاهدة ذلك عبر غوغل إرث بسهولة.. إلا إذا كان من المُصابين بعمى البصيرة.

نحن السوريين نغصُّ بالشوك في حناجرنا.. والعرب السائدة والبائدة صامتون.

*- إلى أي حدٍ أنت متفائل بنجاح الحراك الثوري في سورية..؟

ربما ينجح نظامٌ استبداديّ؛ أو.. عدوٌ خارجيٌّ بهزيمة شعبٍ ولمرّةٍ واحدةٍ فقط؛ لكنّ التاريخ لم يُسجّل بأن أحداً استطاع هزيمة شعبٍ.. مرتين.

الشعب السوري سينتصر.. حتى لو دفع الثمن مرتين.

ولن أموت قبل أن أحتفل بانتصاره وبحريته.

*- سورية الغد ، الغد القريب أو البعيد - لا أحد يتكهّن بالاتي - كيف تنظر إليها..؟

- الغد.. لا يصنعه الحاضر فقط ؛ الغد تصنعه الإرادة أيضاً.

وسيمرّ السوريون بمخاضٍ عسيرٍ جداً.. لم يعرف التاريخ المُعاصر مثله؛ حتى يستطيع الوقوف على قدميه الداميتين ليصنع غده؛ وكأنه ينحت الصخور من جديد.. كما قد فعل حين أقام أولى حضارات البشر قبل 10 آلاف سنة.. مُبتكراً أول أبجدية في التاريخ.

أعرف بأن أحفادنا من بعدنا.. سيدفعون فاتورة كلّ هذا الدمار الكارثيّ؛ لكنّ السوريين شعبٌ عنيدٌ ومُكافحٌ وصبورٌ.. وسيعرف كيف يخرج من محنته الحالية كما خرج من التتار والمغول والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين وأعتقد جازماً.. بأنّ القدس لا يُمكن تحريرها مالم تكن الشام حرةً من كلّ استبداد.. وهذا ما تخشاه إسرائيل وحلفاؤها المُعلَنون وغيرُ المُعلَنين.

وسوم: العدد 700