خيبة أمل الطغاة

صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر، الذي يمسك بملف فلسطين وما يسمى بـ «صفقة القرن»، متفائل بالسلام، قال الرجل إن إجراءات الولايات المتحدة ضد الفلسطينيين تساعد في بناء السلام في الشرق الأوسط!

من الاعتراف بالقدس، إلى مشروع الدولة القومية للشعب اليهودي، إلى قطع المال الأمريكي عن الأونروا، إلى إقفال مكتب منظمة التحرير في واشنطن، كلها إجراءات تسرّع في عملية السلام، حسب عباقرة المرحلة الترامبية!

المفاوض الأمريكي يخفف الأعباء ويزيل الصعوبات عن طاولة المفاوضات، تم سحب ملف القدس ومعه ملف اللاجئين وبالطبع لا يوجد ملف للاستيطان. المفاوضات انتهت قبل أن تبدأ، لأنه لم يعد هناك ما يمكن التفاوض عليه.

مع من سيفاوض الأمريكيون؟ 

المفاوض العربي لا وجود له. لقد أنهت الولايات المتحدة كذبة المفاوض العربي، قالت لعرب النفط إن لعبة الأقنعة انتهت، وعليهم الكشف عن وجوههم الحقيقية. الدور الوحيد الذي يستطيع العرب القيام به هو دفع المال كي يتم تسريع عملية ضم الضفة إلى إسرائيل، وتحويل غزة إلى «دولة»، لكن حتى هذا الدور ليس مضمونا، لأن عرب النفط عاجزون عن بناء أمنهم، وسط الحرب اليمنية التي لا نهاية لها.

وفي المقلب العربي الثاني، أي في سوريا ومصر وليبيا… هناك حروب وتفكك وعجز، النظام العربي الذي يتفكك لم يعد طرفا في معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وكل ما تسعى إليه الأنظمة هو البقاء، حتى وإن كلفها ذلك أن تصير أدوات في أيدي الاحتلال الخارجي، كما هو الحال اليوم في سوريا.

أما في الطرف الفلسطيني فقد حُسم الأمر، على الفلسطينيين أن يختاروا بين التبعية والتبعية، أي بين أن تكون السلطة أداة في يد الاحتلال من ضمن وضع شكلي اسمه الحكم الذاتي، وبين أن تتلاشى في باندوستانات يحكمها أمراء محليون، وهذا ما يتم الإعداد له.

كوشنر ورئيسه والمجموعة الأمريكية المكلفة بملف المشرق العربي، يشعرون بالراحة، فهم يواجهون اللاأحد. الثورات الديمقراطية العربية انتهت، والاستبداد الانحطاطي يسود المنطقة، إسرائيل تزداد قوة وتجبّرا، القوى المناهضة للأمريكان تعيش في الأزمات والحصار، وكل شيء على ما يرام.

لم يسبق لإسرائيل أن شعرت بهذه الكمية من الاعتداد بالنفس، ولم يسبق للفلسطينيين أن شعروا بهذا الضعف وبفقدان البوصلة وغياب القيادة، ولم يسبق لعرب المشرق أن دخلوا في نفق معتم يشبه هذا النفق الرهيب الذي أوصلهم إليه تناوب المستبدين من عسكر ومافيات وأصوليين على إذلالهم وتحطيم حقهم في الحرية والكرامة.

لذا يتنمّر كوشنير، ويتغرغر نتنياهو بانتصاراته وتعيش إسرائيل نشوة «الشعب المختار» التي تقودها إلى الفاشية والعنصرية، ويشعر المستبدون العرب أنهم حافظوا على كراسي سلطتهم، رغم أنهم صاروا دمى لا حول لها.

نشوة الأمريكيين تبدو رغم كل شيء مفتعلة، فالمشروع الذي يريد إقفال ملف المنطقة لا يجد من يستطيع المضي فيه إلى النهاية من أنظمة العرب، وصلافة القوة الإسرائيلية تخفي عدم قدرة على صرفها في السياسة، وانتصارات أنظمة الانحطاط تخفي هشاشتها وعدم ثباتها.

ولعل المثال الأكثر وضوحا على هشاشة المرحلة هو الواقع السوري. فعلى الرغم من أن كل المؤشرات تصبّ في افتراض انتصار النظام الاستبدادي وأسياده الروس والإيرانيين، غير أن تظاهرة واحدة في كفر نبل، ثم سيل التظاهرات في منطقة إدلب، تشير إلى أن ما يبدو انكسارا لإرادة التغيير الشعبية ليس صحيحا، فهذه الإرادة قادرة على العودة إلى احتلال الشارع، في اللحظة التي يخف فيها ضغط الطيران والبراميل، وهي تريد أن تقول شيئا واحدا، هو أن تراكم الألم لا يقود إلى التسليم بالأمر الذي وقع بالقوة، وإن هيمنة القوى التي انتصرت عسكريا دونها تعقيدات إقليمية كبرى، لكن العقبة الأساسية التي تقف في وجهها هي أن الألم السوري لن يمحى، وأنه قادر على أن يجدد إرادة الصمود.

انتصار هش تصنعه قوى متوحشة، هذه هي سمات الشعور الإسرائيلي بالانتصار، فهذا الجنوح الفاشي المعلن الذي أعلن كل ما حاولت الحركة الصهيونية حجبه، ينكشف اليوم دفعة واحدة، ويكشف معه عهرا سياسيا وأخلاقيا، لا يستطيع مهما فعل أن يفرض على ضحاياه الخضوع الخانع له.

صحيح أن المرحلة كشفت ببلاغة جارحة حاجة المشرق العربي إلى مشروع سياسي- ثقافي- نهضوي جديد، وأن غياب هذا المشروع، وغياب القوى الاجتماعية التي تحمله كان سببا لدخول المنطقة في عتمة هذا الانحطاط المديد، غير أن المرحلة تكشف أيضا أزمة القوى المسيطرة وخواءها السياسي والأخلاقي، الرأسمالية الأمريكية في أزمة يفرضها عجزها عن فرض الهيمنة الآحادية على عالم متعدد، والصهيونية تعيش عدم قدرتها على ترجمة مشروعها القائم على إفراغ فلسطين من سكانها إلى واقع حقيقي، وأنظمة الاستبداد ومعها الأصولية الدينية المتوحشة وصلت إلى انسداد سياسي كامل.

إنها أزمة شاملة، وهذا يعني أن استسلام الشعوب النهائي غير وارد وغير ممكن، لأن القوى المسيطرة ليست مسيطرة إلا بشكل غير ثابت ولا تستطيع أن تشكل مرحلة جديدة.

السيد جاريد كوشنير سوف يصاب بخيبة أمل، لأن الصفقة التي بشّر بها والد زوجته غير قابلة للتطبيق، ولأن ما يجري اليوم في المشرق العربي ليس مؤشرا على واقع عربي يعيش أزمة طاحنة فقط، بل مؤشر على أن أزمتنا هي عقدة أزمات عالم نجحت الرأسمالية في إفراغه من القيم، ولن يجد بداية لحل أزماته الأخلاقية والسياسية إلا حين يبني قيم العدالة والحرية والمساواة من جديد.

وسوم: العدد 790