كُنُوزٌ ونفحاتٌ (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ) من سورة الحُجُرات 8-9

الكَنْـزُ الثامن: أخلاقُ المؤمنين (ج)

(.. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). (الحجرات: من الآية12).

لنتدبّر في تفسير القسم الثاني من الآية الكريمة

1- (.. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً..)..

بعد سوء الظنّ ونَهْيُ الله عزّ وجلّ عنه بقوله: (اجتنبوا..).. وبعد أن عرفنا كيف أنّ سوء الظنّ يقود إلى الفضول والتجسّس.. تحدّثت الآية الكريمة عن داءٍ عُضال.. هو داء: (الغيبة) الذي يفتّت المجتمع، ويتناقض كلياً مع معاني الأخوّة الإيمانية بين المسلمين، ويُسيء إليها أيما إساءة.. كان سياق الآية: التجسّس يقود إلى الغيبة والتحدّث بأعراض الناس.

والغيبة تكون على ثلاثة أوجه:

*أ- الغيبة المعروفة:* وهي ذكرُ أخيكَ المسلمِ في غيبته بما يكره.. بما هو فيه!.. أي تذكره بما يكره في غيابه، فهي غيبة ولو كنتَ صادقاً بما تذكره عنه!..

*ب- الإفك:* وهو أن تُرَدِّد ما يُقالُ عن أخيكَ المسلم، أو ما بلغكَ من سوءٍ عنه.. من غير بيّنةٍ أو تثبّتٍ أو وجهٍ شرعيٍّ حقيقيّ!..

*ج- البُهتان:* وهي أن تذكرَ أخاكَ في غيابه كاذباً.. أي بما ليس فيه!..

2- لقد جاء نَهْيُ القرآن الكريم عن الغيبة بأسلوبٍ عميقٍ وعظيم التأثير في النفس الإنسانية، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بأن: لا يذكر أيٌ منا أخاه بما يكره في غيبته.. وهذا هو النهي القاطع.. ويأتي تصوير الفعل الشنيع المرتَكَب بأسلوبٍ بالغ التقريع والتأثير والإدانة:

فالمغتاب ينال من عِرض أخيه المؤمن، وكذلك يعتدي عليه عدواناً آثماً، والأخ الضحية ذلك.. ميّت وليس حيّاً، والمغتابُ لا يأكل (من) لحم أخيه الذي يغتابه فحسب.. بل يأكل لحمه (كله): (.. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً..)!.. وتلك إشارة إلى شدة العدوان والنَّهَم الشديد.. وكل ذلك أسلوب قرآنيّ في التعبير عن شناعة الفعل.. فالاعتداء ليس على أحدٍ من الناس بشكلٍ عام.. لا!.. الاعتداء واقع على الأخ المسلم المؤمن: (أَخِيهِ)!.. وهو ميّت: (مَيْتاً)!.. وبِنَهَمٍ شديد: (أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ..)، أي يأكل لحمه كله (دليل النهم الشديد) وليس بعضه!..

فأي عدوانٍ أفظع من هذا العدوان؟!.. الذي لا يُلقي بالاً للأخوّة الإيمانية ولو في أبسط درجاتها!.. وأي خِسَّةٍ يقع فيها هذا الذي يغتاب إخوانَه المسلمين المؤمنين.. ويتسلّى بأعراضهم؟!..

3- كل ما جاء سابقاً.. جاء في يضع كلماتٍ بسيطةٍ يسيرة الفهم مختصرة:

(.. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ..)؟!.. وجاءت كلمة: (فَكَرِهْتُمُوهُ) للتقرير بأنكم حتماً تكرهون هذا الفعل الشنيع (كما صوّره الله عزّ وجلّ في بضع كلمات)، فهو فعل مثير للاشمئزاز، لذلك عليكم أن تكرهوا (الغيبة) كما تكرهون أكل لحوم إخوانكم وهم موتى.. وبنفس الدرجة من الكره الشديد!..

4- واحذروا عقاب الله عزّ وجلّ لكم.. إن ارتكبتم فعل الغيبة الشنيع بحق إخوانكم المسلمين المؤمنين،  (وَاتَّقُوا اللَّهَ).. واعلموا أنّ الله عزّ وجلّ يتوب على المذنبين التائبين، ويرحمهم، ويغفر لهم.. إن أقلعوا عن تلك الأفعال الشنيعة الخسيسة: (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)!..

5- لأهمية قضية (الغيبة)، التي تجرّ إلى (النميمة).. لا بد أن نتوسّع بموضوعهما، فنقول:

*أ- من أهم أسباب الغيبة:*

- الحقد والرغبة في أن يشفي المغتابُ غيظَه.

- مجاملة الناس المغتابين، الذين لا همّ لهم إلا الطعن بأعراض الناس والتحدّث بها.

- التباهي، وحِرْصُ المغتاب على أن يرفع من قَدْرِ نفسه.. بانتقاص الآخرين.

- الحسد، لأصحاب المنـزلة والسُمعة الحسنة، ممن يتمتّعون بمنـزلةٍ أعلى من منـزلة المغتاب.

*ب- ما يُستثنى من تحريم الغيبة:*

- التظلّم إلى السلطان أو القاضي، ليقومَ بإنصاف الناس وإحقاق الحق.

- الاستعانة على تغيير المنكر ورَدِّ العاصي إلى الصواب.

- السؤال عن فتوى تخصّ شخصاً معيناً، كأن يستشير شخصٌ أهلَ الاستشارة فيقول: ظلمني فلان بكذا وكذا، فكيف يمكنني أن أحصّل حقي منه؟..

- تقديم النصيحة للمستشير بشأن شركةٍ أو مصاهرة.

- نُصح المشتري بشأن عيب سلعةٍ لم يُعلمه به البائع.

- ذكر نقائص مَن توكل إليه مهمة أو ولاية.. وذلك لوليّ الأمر.. لاستبداله أو تقويمه أو إصلاحه.

- ذكر المجاهر بفسقه أو بضلاله، لفضحه وتنبيه الناس منه، كالمجاهر بشرب الخمر مثلاً، أو بالشرك، أو بما شابه من الأفعال المشينة.

*ج- كفّارة الغيبة:*

- التوبة إلى الله عزّ وجلّ.

- الاعتذار إلى الذي ارتُكِبَت الغيبة بحقه، وطلب العفو منه.

- والاستغفار له والدعاء لصالحه.. إن كان ميتاً، أو تَعَذَّرَ الوصول إليه.

د- ماذا تفعل إذا حضرتَ مجلساً تُرتَكَبُ فيه الغيبة؟!..

إن من مقتضيات الالتزام بالإسلام، والأخلاق الإسلامية، والشهامة والمروءة.. أن تُدافِعَ عن أخيكَ الذي تُرتَكَب بحقه جريمة الغيبة، أو أن تغادر مجلس الغيبة الذي يُقتَرَف به هذا الإثم العظيم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(مَن رَدَّ عن عِرضِ أخيه في الدنيا، رّدَّ الله عن وجههِ النارَ يوم القيامة) (رواه الترمذي).

*هـ- عقوبة الغيبة:*

هل الغيبة كَبيرة من الكبائر؟!.. نعم، الغيبة واحدة من الكبائر، مثلها مثل شرب الخمر، أو ممارسة الميسر.. أو الزنا.. فلماذا نستكبر تلك الكبائر الشنيعة ونستصغر الغيبة؟!.. وها هوذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض علينا بعضاً من عقوبة مرتكِب الغيبة، فيقول:

(لَمّا عُرِجَ بي، مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس، يخمِشون وجوهَهم وصدورَهم، قلت: مَن هؤلاء يا جبرائيل؟!.. قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناس، ويَقَعونَ في أعراضِهِم) (رواه أبو داوود عن أنس بن مالك).

*و_ النميمةُ صِنوُ الغيبة:*

- لا تُذكَر الغيبة في موضعٍ إلا ذُكِرَت معها النميمة.. وهذه وتلك، حرامٌ في شرع الله عزّ وجلّ.. والنميمة -كما الغيبة- داءٌ خطير حين يستفحل في المجتمع المسلم، لأنه يأتي عليه وعلى فضائل أخلاقه الإيمانية الإسلامية، ويقضي على كل علاقةٍ تربط بين الإخوة في الله عزّ وجلّ.. لذلك فالنميمة تتناقض كلياً مع حقائق الأخوّة الإيمانية المذكورة في هذه السورة (إنما المؤمنون إخوة..).

- والنمّام هو الإنسان الخسيس، الذي لا يستطيع أن يعيشَ إلا على خلافات الآخرين من إخوة الإيمان المسلمين، فيعمل على تخريب هذه العلاقة بينهم بأسلوبٍ منحطٍّ متخلِّفٍ دنيء، فيقوم بالنميمة بين الناس، وهي أن (ينقلَ ما يسمعُ من شخصٍ إلى شخصٍ آخر، أو يختلقَ كلاماً مُزَيَّفَاً.. بصورةٍ توقِع الخلافَ بينهما، وتُكدِّر صفوَ العلاقة التي تربطهما)!..

- لذلك، فالنميمة عملٌ ذميمٌ، وخُلُقٌ بشع، نهى عنه الإسلام، وجاء النهي شديداً من الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم:

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم :10 و11).

(لا يدخُلُ الجنةَ قتّات) أي نَمّام.. (متفق عليه).

(شِرارُ عبادِ الله المَشّاؤون بالنميمة..) (رواه أحمد).

*لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من القسم الثاني للآية الكريمة*

1- الغيبة كبيرة من الكبائر، وهي حرام، لها كفّارة خاصة.

2- التوبة من الغيبة واجبة، للنجاة من عقوبة ارتكابها، ولا بد أن يُطلَبَ الصفحُ والعفوُ من الضحية، ولا بد من الحرص على إرضائه.

3- ما يُستثنى من تحريم الغيبة.. إنما يُستَثنى لغرضٍ شرعيٍ صحيحٍ لا يمكن الوصول إليه أو تحقيقه إلا بها.

4- التقوى ثم التقوى.. تقوى الله عزّ وجلّ.. هي خير ما يحفظ المؤمن المسلم من الوقوع في ذنب الغيبة الكبير أو الاستماع (برضى) إلى مرتكبيها.

كُنُوزٌ ونفحاتٌ (إيمانيةٌ وشرعيةٌ وأخلاقيةٌ) من سورة الحُجُرات

الكَنْـزُ التاسع: الناس سَوَاسِية، وأكرمُهُم هو أتقاهُم

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).

*لنتدبّر في تفسير الآية الكريمة*

1- بعد أن تحدّثت الآيات السابقة عن حقائق الأخوّة الإيمانية التي يجب أن تسودَ في مجتمع الأمة المسلمة، وتحدّثت عما يتناقض مع هذه الحقائق، لتحثّ المسلمين المؤمنين على الابتعاد عن الأخلاق السيئة.. بعد ذلك.. توجّه الخطاب إلى الناس أجمعين.. إلى الأمم كلها!.. فانتقل بذلك الخطاب من داخل الأمة المسلمة.. إلى خارجها!.. وفي ذلك عبرة عظيمة، هي أنّ الأمة الإسلامية التي تريد أن تُنقِذَ أممَ الأرض من جاهليتها وشِركها وباطلها وتعاستها، وتنهض بأعباء الدعوة إلى الله عزّ وجلّ لهداية البشر وتكريمهم.. عليها أولاً أن تتمتّعَ بِقِيَمِ الإيمان في مجتمعها وعلاقاتها الداخلية، لأنه إذا فُقِدَت هذه القيم من داخل هذه الأمة المسلمة.. فلن تكونَ مؤهَّلةً لنقل هذه القِيَم العظيمة إلى أمم الأرض الأخرى!..

2- فبعد أن انتهت الآيات من إبراز أركان القوّة للمجتمع المسلم والأمة المسلمة.. انتقل الخطاب إلى الإنسانية كلها، ليبيّن أنّ الإنسان من أصلٍ واحدٍ، ومن أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدة، فالناس من آدم عليه السلام وحوّاء.. ومهما اختلفت الأجناس والأعراق والألوان.. فكلهم خُلِقوا من أصلٍ واحد.

3- وعلى الناس جميعاً ألا يختلفوا ويتفرّقوا، مهما اختلفت صفات شعوبهم وقبائلهم.. بل عليهم أن يتعارفوا، والتعارف دليل التآلف والتعاون والمحبة والمودّة.. وهي الأمور التي يحثّ عليها القرآن الكريم.

4- فالناس جميعاً، بألوانهم وأجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وأوطانهم.. خَلَقَهم إله واحد، وهم من أصلٍ واحد.. فلا فوارق بين البشر في هذه الأمور، وليس هناك تفاضل بالأحساب والأنساب.. وإنما التفاضل الحقيقيّ يكون بمدى التخلّق بحقائق العبودية لله عزّ وجلّ، فهو الخالق الذي خلقهم جميعاً.. وكذلك التفاضل يكون بمدى الالتزام بما تمليه حقيقة هذه العبودية لله سبحانه على الإنسان.. والتسابق والتنافس بين الناس ينبغي أن يكون بالتقوى، في ظل عبودية البشر كلهم لخالقهم الواحد الأحد.

5- فلا عصبية للجنس، أو للون، أو للعِرق، أو للقبيلة، أو للعشيرة، أو للجماعة، أو للفئة، أو للعائلة، أو للمجموعة.. ولا إقليمية، ولا طائفية.. وإنما العصبية لله عزّ وجلّ وحده، ولدينه، وللمحبّة التي تُعلِّق قلوبَ الناس أجمعين به سبحانه وتعالى.

إذن: لا حواجز نفسية بين الناس في ظل الإسلام.. وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دَعُوها فإنها مُنتنة..)، أي: اتركوا العصبية.. إلا العصبية لله عزّ وجلّ ودينه، وللحق من غير الباطل.

6- إنّ الله عزّ وجلّ عليمٌ بكم، خبيرٌ بأسراركم.. عليمٌ بأعمالكم، خبيرٌ ببواطنكم وظواهر أحوالكم.. وكل هذا يقتضي منكم الالتزام الكامل بما يأمركم به سبحانه وتعالى، وبما يدعوكم للتمسّك به أو تركه من أعمالٍ وسلوكٍ وأخلاق.

*لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآية الكريمة*

1- الناس من أصلٍ واحدٍ ولهم خالق واحد، فلا تفاضل بينهم إلا بمقدار قربهم من، أو ابتعادهم عن.. خالقهم، وحسب درجة التزامهم بشرعه ومنهجه وتعاليمه.

2- العصبية الجاهلية مدمِّرة للإنسان، وعلى أي أمرٍ بُنِيَت هذه العصبية.. فإنها تتناقض كلياً مع حقائق الإسلام والإيمان.. فالناس في ظل المجتمع الإسلاميّ سواسية، ولا تفاضل بينهم إلا بالعمل الشريف وتقوى الله عزّ وجلّ، وكل تفاضلٍ يُبنى على الجنس أو القرابة أو اللون أو العائلة أو القبيلة أو.. هو تفاضل باطل بحكم الله سبحانه، وبحكم دينه ومنهجه.. باطل جملةً وتفصيلاً.

3- كرامة الإنسان في الأمة المسلمة، تُقاسُ بمدى تحقُّق شروط العبودية لله عزّ وجلّ، ومدى قرب الناس من، أو ابتعادهم عن.. عبادة الله الخالق الواحد الأحد.. العبادة الحقيقية، بالفكر والعمل، والمنهج والسلوك والأخلاق، وتنفيذ منهج الإسلام وشرعه ودستوره.

وسوم: العدد 927