(والذين آمنوا أشدُّ حُبّاً لله)

ما يزال قلب المؤمن ينطلق إلى ربه مسارعاً، ولسان حاله يقول: (وعجلتُ إليك ربِّ لترضى). يطير بجناحي الرجاء والخوف. تارة يقوى فيه جناح الرجاء فينطلق والشوقُ يحدوه، والقُرب غايته، والقَبول عند الله أقصى مناه... وتارة يقوى فيه جناح الخوف، فيستشعر جلال الله وعظمته، ويخشى سخطه وعذابه، ويرهب ناره وعقابه.

ولا بأس عليه أن يقوى فيه أحد الجناحين. والأجمل به أن يبقى جناحاه متوازنين. وأحباب الله يغشاهم الرجاء أكثر، ويحفزهم الحب ليطيروا إلى محبوبهم.

وليس شيء كحب الله يهذب النفوس، ويطهر القلوب، ويطوع الأبدان لطاعة الله. فمن امتلأ قلبه بحب الله سارع إلى طاعته، وتجافى عن معصيته، وأرخص في سبيله المال والنفس والولد.

وما من مؤمن إلا يحب الله تعالى، لكن هذا الحب يتفاوت بین مؤمن ومؤمن، كما تتفاوت درجة الإيمان ذاتها. ومن هنا كان المؤمن بحاجة إلى علامات يَعرف بها حقيقة حبه لمولاه، ودرجة إيمانه التي تلازم هذا الحب.

ونحن هنا نذكر بعض هذه العلامات ليتخذها المؤمن ميزاناً يتعرّف به على حقيقة حبه الله. فمن وجد علامة الحب فيه حمد الله، وحَرَص على هذه العلامة، ومن وجد غير ذلك اجتهد ليتدارك نقصه:

- من هذه العلامات، بل أوّلها، أن يسارع إلى الطاعات، ويبتعد عن المعاصي، فإن المحب يسعى في رضى محبوبه. فإذا قصر مرة في طاعة، وإذا زلّت قدمه فوقع في معصية، سارع إلى التوبة والاستغفار. وليس بمقدور البشر - حاشا رسل الله - أن يستقيموا على الطاعة أبداً. فالهوى يغلب أحياناً، والغفلة تطرأ، والشيطان يوسوس.. إنما يكون المؤمن سریع الفيئة إلى الله، يجاهد نفسه إذا حادت، ويلومها إذا قصرت، ويستحيي من محبوبه أن يراه على غير ما يرضيه.

- ومن هذه العلامات أن يحب لقاء الله، فهو، وإن أحب البقاء في هذه الدنيا بمقتضی غريزته البشرية، فإن حبه لله يهون عليه فراق هذه الحياة، لأن في هذا الفراق انتقالاً إلى قرب المحبوب. فإذا عرض للمحب التضحيةُ بحياته في سبيل محبوبه ونصرة لدينه لبّى سريعاً، ولم يتعلل بتعِلّات الجبناء!.

- ومنها أن يُكثر من ذكر الله وتلاوة كتابه. فالمحب لا يَفتُرُ عن ذكر محبوبه، بقلبه ولسانه وحاله، فإذا كان مُحبّ المال يُكثر من ذكر المال والتجارة... ومُحب زعيم من زعماء الدنيا يذكر زعيمه بمناسبة وغير مناسبة، فأحباب الله أولى أن يكثروا من ذكر الله. لذلك ما ورد في القرآن الإشارة إلى ذكر الله إلا مقترناً بالكثرة: (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) و (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)...

- ومنها أن يأنس إلى العبادة، لا سيما إذا كان في خلوة، كالتهجد والمناجاة وتلاوة القرآن والأذكار بعد الصلوات... فإن المحب إذا خلا عن الناس، وابتعد عن الصوارف حلا له الأنس بمحبوبه.

- ومنها أن يحب رسلَ الله وأولياءه وأحبابه، من العابدين والعلماء والمجاهدين... وأن يكره الكفر والفسوق والعصيان وأهلها. فإن من أحب الله، أحب في الله، وأبغض في الله.

- ومنها الرضا عن الله، فإن حبيب الله يرى أثر قدرة الله وحكمته وتدبيره في مظاهر الكون كلها، وفي مجريات الحياة، وفيما ينزل بالناس من غنى وفقر، وسَعَة وضيق، ونصر وهزيمة، وبهجة ومصيبة... فهو راض بما قدر الله، صابر على البلاء، شاكر في الرخاء، آخذٌ بالأسباب.

- ومنها أن يُعامل الخلائقَ وَفق ما يحب الخالق، يُشفق على الضعيف، ويحترم الكبير، ويبرّ الوالدين، ويرعى اليتيم والمسكين، ويصون حرمة الجار، ويتخلّق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم)، يكظم غيظه، ويعفو ويصفح.. فإذا وجد حرمات الله قد انتُهكت غضب لله، وانتصر لله.

- ومنها أن لا ينفك عن خشية الله، فإن الخشية لا تنافي المحبة، وأحباب الله تمتلئ قلوبهم بتعظيم الله وهيبته واستشعار جلاله كما تمتلئ بحبه.

ولعل الناظم لهذه العلامات كلها أن يتحقق بكامل العبودية، فيكون مع الله، في قلبه وروحه وبدنه... في حبه وبغضه، وفي رضاه وغضبه، وفي حركاته وسكناته، وفي محياه ومماته.

(قُل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين).

وسوم: العدد 931