يأسٌ لا ييأس

صارت مشاهدة نشرات الأخبار على الفضائيات اللبنانية حفلات متواصلة من التعذيب والتكرار والأسى. حتى السخرية التي تستخدمها الشعوب كأداة لمقاومة الطغيان والذل، اختفت.

لا جديد، سوى أن لبنان انهار تماماً.

لا جديد، سوى أن لا أحد يريد تحمل مسؤولياته.

لا جديد سوى أنه علينا أن ننظر إلى وجوه القتلة واللصوص، وهم يتمتعون بعارهم.

لكن المفاجأة أتت من حيث لم يتوقعها أحد. ورغم أن الجدل المستجد حول الفدرالية ليس جديداً، فهو يذكّرنا بزمن الحرب الأهلية، لكن جديده اليوم هو وقاحته وسذاجته في آن معاً. بدلاً من أن يجري التصدي لمآسي الإفقار، التي تذكّرنا بالحرب العالمية الأولى ومجاعاتها ومآسيها والهجرة الكثيفة التي رافقتها، يريدون إعادة لبنان إلى دوامة صراعات الطوائف.

فجأة تُخرج طغمة اللصوص من قبعاتها أرانب الفدرالية، أي التقسيم المناطقي تبعاً للانتماءات الطائفية، كحل للأزمة.

أزمة اقتصادية وأخلاقية وسياسية طاحنة يدعون إلى حلها عبر تسعير المشاعر الطائفية، فتصير الطائفية التي شكلت حصن الفساد والتناهب والإفلاس هي الداء والدواء!

هذا هو جوهر عبقرية الطبقة الحاكمة في لبنان، إنها أداة الدمار الذاتي والتحلل من المسؤولية ودفع اللبنانيات واللبنانيين إلى الجوع والفاقة والهجرة.

كي نفهم هذه الفوضى السياسية التي تضربنا، علينا أن نعود إلى جذر المسألة، حين تم تقاسم بلاد الشام وتقسيمها بعد الحرب العالمية الأولى.

التقاسم بين المنتصرَين البريطاني والفرنسي كانت له أهدافه الكولونيالية الخاصة بالإمبراطوريتين وبمصالحهما الاستراتيجية. لكنه حمل أيضاً إلى المنطقة بذور الدول الطائفية. فبريطانيا كانت تسعى إلى تطبيق وعد بلفور عبر تأسيس أول دولة طائفية عنصرية متكاملة الأركان في المنطقة. أما فرنسا فقد سعت إلى تقسيم سوريا إلى خمس دويلات طائفية. لم تستطع هذه الدويلات الاستمرار، ولم يبق منها سوى دولة لبنان الكبير، التي لم تكن دولة حصرية بطائفة بل كانت دولة توازن بغلبة مارونية.

لم تستطع الدويلات السورية البقاء، غير أن البذرة الطائفية كانت قد زُرعت. وكان نجاح مشروع الدولة اليهودية أساساً موضوعياً لتنامي هذه البذور، التي وجدت متنفسها بعد الهزيمة المدوّية للمشروع القومي في الخامس من حزيران 1967.

لبنان دولة طائفية مُعلنة، بعكس دول الاستبداد التي قنّعت طائفية نخبها العسكرية الحاكمة بشعارات قومية ووطنية، بدأت في التلاشي بعد الغزو الأمريكي الوحشي للعراق، الذي فتح أبواب المنطقة على صراع الطائفيات المعلن.

لبنان كان مرآة المشرق العربي، ففي زمن الصعود القومي، نشأت فيه «عقلانية» دولتية قادها فؤاد شهاب، وأدت إلى استقرار سياسي مؤقت. العقلانية الشهابية كانت وريثة فكر ميشال شيحا وتلامذته في الندوة اللبنانية، من هنا جاءت طائفيتها المُخففة بالإنماء، وتحالفاتها مع «أكلة الجبنة» من زعامات الإقطاع السياسي والطائفي، كما كان يسميهم فؤاد شهاب.

لكن هذه التجربة سرعان ما هزمتها بنيتها المخابراتية من جهة، وهزيمة الناصرية من جهة ثانية. فعادت «قبائل لبنان الهمجية»، أي الطوائف، إلى لعبتها الهوجاء، كأدوات استقواء بالخارج، وانفجرت الحرب الأهلية التي لم تنتهِ رغم إعلان نهايتها.

عادت الطوائف إلى الاستيلاء الكامل على أجهزة الدولة، هذا ما شهدناه في مرحلة الوصاية السورية، وهذا ما أسس في لبنان بعد الانسحاب السوري 2005 وبشكل رسمي فيدرالية الطوائف.

والطوائف لا تبني دولاً بل تتناهبها، ولا تبني مؤسسات بل تدمرها.

جاء هذا الزمن الفدرالي ليؤسس لنظام فساد وإفساد ونهب وتناهب على المكشوف. فانهار الاقتصاد قطاعاً في إثر قطاع، حتى وصل الانهيار إلى لعبة النصب المكشوفة، حيث تشاركت المصارف مع أمراء لبنان في منهبة الدين العام، فُسرقت الودائع وانهار القطاع المصرفي بشكل لم يعد رتقه ممكناً، وأفلست الدولة.

نظام فيدرالية الطوائف قاد إلى انهيار لبنان على كل المستويات، من القضاء إلى التعليم إلى الطبابة، إلى آخره.

لا يهدف هذا التحليل إلى تبرئة المسؤولين الأفراد عن هذه الكارثة الكبرى، فمن المؤكد أن هناك عوامل ذاتية وانتفاخات شخصية وأورام قوة سرّعت في هذا المسار. ولعل النموذج الأوضح هو السياسة التعطيلية الهوجاء التي يتبعها رئيس الجمهورية، والخطاب الطائفي العنصري الذي صار صفة صهر العهد المدلل.

هذه السياسة سرّعت الانهيار، مثلما كانت الحروب العونية العبثية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أداة تسريع انحلال الغلبة المارونية التي انتحرت سياسياً عبر تحالفها مع إسرائيل.

كما أن الارتهان للسياسات الإقليمية وحماية النظام لأسباب استراتيجية مرتبطة بالتصور الإيراني للمنطقة وبالمقترب الديني- الطائفي، سرّع انهياراً كامناً، في اقتصاد نيوليبرالي قادته الحريرية، وكانت قاعدته الوحيدة هي رهانات إقليمية، وتشبيحات طائفية داخلية.

ماذا يقول أصحاب نظرية الفدرالية المستجدة ولبنان ينهار بسبب نظام فيدرالية الطوائف الممسك بالسلطة؟

نظام فيدرالية الطوائف هو نظام النهب الذي أوصلنا إلى الانهيار.

لكن العبقرية اللبنانية بلا حدود، فدواء الانهيار هو مزيد من الانهيار، أي صرف الأنظار عن مشكلات الناس الحقيقية التي تتعلق بالفقر والإفلاس وشبح المجاعة والموت، عبر التحريض على الإيغال في المشروع الطائفي، أي دفع لبنان إلى أتون حروب تطهير طائفية جديدة!

الطبقة الحاكمة تريد إنقاذ نفسها عبر قتلنا.

لم يكتفوا بجريمة المرفأ، ولا بمآسي الدواء والبنزين والكهرباء والنفايات، ولا بتحويل العملة اللبنانية إلى ورق لا قيمة له، ولا بسرقة أموال المودعين في البنوك، بل يريدون من أجل إعفاء أنفسهم من تحمل مسؤولياتهم الجنائية كأفراد متسلطين ولصوص معلنين، دفعنا إلى حروب طائفية تخلط «الحابل بالنابل»، من أجل الوصول إلى فيدرالية طائفية أذاقنا حكمها ما هو أكثر مرارة من المرارة.

إنها مسخرة المساخر.

يتحدثون عن أفق فيدرالي طائفي ونحن نعيش في جهنم نظام الفدرالية الطائفية!

أنبياء الفيدرالية الكَذَبة وشياطين الطائفية يراهنون على شيء واحد، هو عجز الناس ويأسهم بعد نجاحهم في مشروع تشاركوا فيه جميعاً من أجل قتل روح انتفاضة 17 تشرين.

لكن يأسنا لا ييأس.

هكذا علمتنا فلسطين التي انتفضت بيأسها، ورسمت أفقاً.

ماذا لو انتفض يأس اللبنانيات واللبنانيين على الطائفيات والمافيات والفيدراليات والشرشحة؟

ماذا سيفعلون؟ وإلى أين سيهربون؟

وسوم: العدد 933