البعث منذ عام ١٩٦٣ وحتى عام ١٩٧٠

خوف البعثيين من التوجه الإسلامي والناصري   فتراكضوا بإتجاه الطائفيين النصيريين لحمايتهم فكانت الكارثة الكبرى  

أعزائي القراء..

لقد كانت المشكلة الكبرى  التي واجهها الشعب السوري  بالانقلابات العسكرية ، هي أنّ الدّبابة حلت محلّ صندوق الاقتراع!.. وعن طريق هذه الدبابة تمكن حزب البعث  من السيطرة على مقاليد البلاد ، ومن خلالها فرض هذا الحزب  نفسه على الوطن والشعب، وأزاح مسؤولوه عن الخارطة الوطنية كل القوى السياسية  التي يمكن أن تنافسهم!.. وكان هذا هو الخطأ القاتل والذي نعاني منه حتى اليوم 

فمنذ عام ١٩٦٥  وما بعده، بدأت حملات التصفية، وفُتحت المعتقلات لكل من اعترض على توجهات حزب البعث من حياديين الى ناصريين الى جماعة الاخوان المسلمين ، ففرضت حالة الطوارئ والأحكام العرفية على البلاد منذ عام ١٩٦٣، واتبعت اساليب  القمع ومحاولات استئصال الاخرين  وكان هذا الاسلوب هو الذي شجع فيما بعد الطائفيين العلويين على اتباعه والزيادة عليه.. فبدأت تهديدات النظام لكل معارض بالتصفية، والشروع في تنفيذ تهديداته بحق المعارضين ، واتهامهم اتهاماتٍ باطلة، وتحميلهم مسؤولية أحداثٍ واعتداءاتٍ لا علاقة لهم بها، واستمرار الاعتقالات والتصفيات في السجون، والإعدامات الظالمة من غير محاكمات، وفرض القانون رقم (٤٩) لعام ١٩٨٠، الذي يحكم بالإعدام على كل مَن ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين (مجرد الانتماء)، واستمرار الملاحقات داخل الوطن وخارجه، وتنفيذ المجازر الجماعية العديدة التي باتت معروفةً للجميع، كمجزرة سجن تدمر، ومجازر حماة، وحلب، وجسر الشغور، و.. كل ذلك قاد إلى حالة الاحتقان القصوى، ثم إلى تفجّر الصراع بين الطرفين!.. 

لقد كان انقلاب الثامن من آذار عام ١٩٦٣ كارثةً حقيقيةً ما تزال سورية تعاني منها حتى اليوم، إذ أدخِلَت البلاد في نفق حكم الحزب الواحد المنفرد المتسلط ، فقُمِعَ الإنسان السوريّ على نحوٍ لم يسبق له مثيل في تاريخه، وأُدخِلَت سورية في مرحلة تدمير البنية التحتية الأساسية للمجتمع، عبر صراعاتٍ طبقيةٍ اتخذت فيما بعد الصبغة الطائفية الواضحة وكانت خشية البعثيين من تزايد نفوذ التيار الاسلامي المعتدل  مما اضطره الى فتح  باب حزب البعث  على مصراعيه أمام الأقليات الطائفية لتمسك بزمام الأمور ومفاصل القوّة الحقيقية والسلطة في البلاد ، وهنا كانت الضربة القاضية للحزب وبكلمة حق اقول ان البعثيين الذين كانوا  ينتمون الى الاغلبية المسلمة من السنة هم المسؤولون بالدرجة الاولى على تسليم مقادير الامور للطائفيين العلويين  حيث بدأت تظهر بعد ذلك وعلى الفور الحالة العدائية لعقيدة الشعب السوري ، عبر تحدي قِيَمِه وعقيدته، وإكراه الناس على عقائد وسلوكياتٍ معاديةٍ لعقيدة الإسلام، وعبر منهجٍ تدميريٍ ثابتٍ أصيلٍ تمتعت به كل الحكومات المتعاقبة . 

فبدأ في سورية حكمٌ فرديّ، عطّل الحياة السياسية، ولاحق الأحرار وأصحاب الرأي المخالف وطاردهم، وأعلن قوائم طويلةً للإقصاء المدنيّ، كان ضحاياه مئات رجال الفكر والدين والسياسة والعلم والقانون ، وتشبّث بالشعارات والأدبيّات الاستبدادية، وتبنى عقيدة (العنف الثوري) لتصفية خصومه المخالفين له في الرأي، ولم ينجُ من عواقب هذا السلوك حتى رجال البعث أنفسهم، عبر التصفيات المصلحية التي جرت بينهم، والانقلابات العسكرية التي وقعت من قِبَل بعضهم على بعضهم الآخر!.. 

تميزت فترة ماقبل ١٩٧٠ من حكم البعث بثلاث ميزات رئيسية :

الأولى : بطش السلطة بالقوى المعارضة لاسيما الإسلاميين والناصريين . 

الثانية : وقوع سلسلةٍ من التصفيات والانقلابات الانشقاقية داخل حزب البعث نفسه، انتهت إلى إقصاء مؤسّسي الحزب الأصلاء وملاحقتهم مثل : (ميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وشبلي العيسمي، ..)!.. 

الثالثة : اشتداد زحف الاقلية النصيرية باتجاه الحزب والجيش، والسيطرة عليهما، وقد تُوِّج ذلك بحركة الضابط النصيري صلاح جديد في ٢٣ من شباط عام ١٩٦٦، ثم بحركة الضابط النصيري وزير الدفاع حافظ اسد . 

من القضايا المهمة التي وقعت في هذه الفترة (١٩٦٣-١٩٧٠)، وكان لها الأثر الكبير في تحديد معالم الصراع بين الاخوان المسلمين  من جهة والبعث النصيري الحاكم من جهة الثانية ما يلي : 

أولاً : تصعيد السلطة لدرجة الصراع مع الاخوان، بتعرّضها الاستفزازيّ للمسلمين عموماً وعقيدة الإسلام، ومن الإجراءات والسلوكيات التي مارستها السلطة : 

1- إلغاء كلمة (مسلم) من البطاقة الشخصية . 

2- تحويل مالية وزارة الأوقاف (ذات الموارد الضخمة) إلى الموازنة العامة، وبيع ممتلكاتها بأسعارٍ زهيدة، استغلها أعضاء السلطة المتنفذة، وأصبحوا من كبار الأثرياء . 

3- إلغاء علامة مادة التربية الإسلامية من مجموع علامات الشهادتين الإعدادية والثانوية . 

4- تعديل مادتي التربية الإسلامية والتاريخ بشكلٍ ضارٍ سافر . 

5- التحرك نحو إلغاء المدارس الشرعية . 

6- الاعتداء على القرآن الكريم في بعض المحافظات، لاسيما في حماة ودمشق . 

7- الاعتداء على بعض مدرّسي التربية الإسلامية، ونقل عددٍ منهم من مدارسهم نقلاً تعسّفياً . 

8- طعن أحد مؤسّسي حزب البعث، هو (زكي الأرسوزي).. بالإسلام في مقالةٍ كتبها في مجلة (جيش الشعب)، التي تحدث فيها عما سمّاها بـ (أسطورة آدم)!.. 

9- السخرية من الإسلام والمسلمين في مجلة (الفجر)، بنشر صورة حمارٍ على رأسه عمامة!.. 

10- نشر مقالةٍ استفزازيةٍ في مجلة (جيش الشعب) الصادرة عن إدارة التوجيه المعنوي للجيش والقوات المسلحة، بقلم النصيري إبراهيم خلاص بتاريخ ( ٢٥/٤/١٩٦٧)، وفيها دعا إلى (وضع الله -جل جلاله- والأديان .. في متاحف التاريخ)!.. ونتيجة لهذا الاستفزاز الصارخ اضربت معظم المحافظات السورية من طلاب وموظفين وعمال وكان على رأس المضربين التجار ، حيث اذكر في مدينتي حلب لم يبق تاجر الا واغلق محله احتجاجاً على هذا التحدي للعقيدة سواءاً كانت اسلامية او مسيحية ، والمؤلم ان قمع الاضراب كان على يد ضباط من السنة اختفى كالعادة الطائفيين وراءهم. 

11- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام ١٩٦٤. 

12- اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ أيضاً من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في عام ١٩٦٧، وعدم الإفراج عنهم إلا بعد انتهاء حرب حزيران وهزيمتها. 

13- وقوع كارثة هزيمة حرب حزيران في عام ١٩٦٧، التي ضاعت فيها الجولان والجبهة المنيعة جداً، حين أمر وزير الدفاع النصيري حافظ اسد الجيشَ بالانسحاب الكيفي، بعد أن أعلن في الإذاعة ببلاغٍ عسكريٍ رسميٍ ممهورٍ باسمه وبتوقيعه .. سقوط عاصمة الجولان القنيطرة بيد الجيش الصهيوني، وذلك قبل سقوطها فعلياً بحوالي عشرين ساعة . 

14- إسراع حكومة البعث النصيري بإعدام الجاسوس الصهيوني (إلياهو كوهين)، بعد افتضاح علاقته برموز السلطة، وذلك تغطيةً لمن وراءه . 

15- تنظيم الحزب النصيري الحاكم ميليشياتٍ عماليةٍ وجمعياتٍ فلاحيةٍ ومنظماتٍ طلابية، وشحنها بمبادئه وأهدافه المعادية للإسلام والمسلمين، وبأحقاده ضد أبناء الوطن المخالفين له بالرأي . 

16- صدور قراراتٍ عن المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث المنعقد في عام ١٩٦٥، التي (تعتبر الحركات الإسلامية ظاهرةً خطيرة، وأنّ الموقف منها ينبغي ألا يكون مقتصراً على الأسلوب العادي الذي يُتَّبَع مع الحركات التقليدية)!.. 

17- تصريح الضابط النصيري حافظ اسد من (ثكنة الشرفة) في حماة عام ١٩٦٤، بأن نية الحزب تتجه باتجاه تصفية المعارضين جسدياً، حين قال : (سنصفّي خصومنا جسدياً)!.. 

ثانياً : وقوع بعض الصدامات بين الإسلاميين من جهة .. وبين السلطات البعثية الحاكمة من جهةٍ ثانية، ومن هذه الصدامات : 

1- الاضطرابات والاحتجاجات الدامية، التي وقعت في عددٍ من المدن السورية الكبرى، بسبب مقالة (إبراهيم خلاص) التي تطاول فيها على الذات الإلهية والتي تطرقت اليها اعلاه . 

2- اندلاع ثورة حماة الأولى (ثورة جامع السلطان) في عام ١٩٦٤، التي استشهد فيها أكثر من خمسين شخصاً واعتقل عدد كبير منهم، وحُكِمَ على بعضهم بالإعدام، مثل : (مروان حديد، وعبد الجبار سعد الدين، و..)، وهُدِمَ جامع السلطان بالسلاح فوق رؤوس المصلين!.. 

3- تصدي مجموعاتٍ من التجار والاسلاميين  للسلطة في عام ١٩٦٥، بعد اقتحام الحرس القومي البعثي الجامعَ الأمويَ في دمشق بالدبابات والسلاح، وسقوط العشرات من القتلى والجرحى، واعتقال المئات من الشباب المدافع عن الجامع الاموي . 

لقد أفرزت هذه الفترة من تاريخ سورية (١٩٦٣-١٩٧٠) وضعاً سياسياً شاذاً، فقد انتُهكَت الوحدة الوطنية بصورةٍ بشعة، وبدأ الطائفيون يتخندقون حول الحكم البعثي الذي أصبح طائفياً، إلى أن انتهت مقاليد الأمر إلى اللجنة العسكرية الطائفية النصيرية الثلاثية (عمران وجديد والأسد)، فاستأثر أعضاؤها بحكم سورية –حقيقةً وواقعاً- من بابها إلى محرابها؟!.. ثم وقعت التصفيات بين رؤوس مثلث الطائفيين النصيريين، فآلت الأمور أخيراً إلى (حافظ اسد)، الذي حوّل الحكم في سورية إلى حُكمٍ طائفيٍ نصيريٍ عائليٍ وراثيٍ اجرامي بشكلٍ مطلق!.. ورثه لابنه والذي تتلمذ على ابيه والحاقدين من طائفته  فحصل على وسام اجرم مخلوق في التاريخ المعاصر.

وسوم: العدد 936