إشكالية مناقضة السلوكات للقناعات المحكومة بمرجعيات

أكبر إشكالية يواجهها كثير من الناس في مجتمعاتنا الإسلامية عربية وغير عربية ،هي مناقضة سلوكاتهم لقناعتهم المحكومة بالمرجعية الإسلامية . ومعلوم أن الطبيعة البشرية تقتضي أن يكون سلوك الإنسان  في خوضه غمار الحياة محكوما بقناعة يستمدها من مرجعيته التي  هي قصة كونية حسب تعبير المفكر الأكاديمي الموريتاني الدكتور محمد المختار الشنقيطي ، وهي عنصر من عناصر وجود أي دين إلى جانب عقيدة متضمنة لتلك القصة  الكونية ،  وعبادة  تقتضيها  تلك العقيدة ، فضلا عن منظومة أخلاقية ، وشريعة  منظم لكل جوانب الحياة ، و ضابطة لكل المعاملات  حسب طبيعة كل دين .

ولما كان الدين الذي جاءت به الرسالة الخاتمة مكتمل العناصر عقيدة ،وعبادة ،وقصة كونية ، ومنظومة أخلاقية ، وشريعة ، فإنه يمثل مرجعية الإنسان المسلم التي تتحكم  في سلوكه .

ومعلوم أن الرعيل الأول من المسلمين زمن البعثة النبوية، قد انتقلوا من مرجعية متحكمة في سلوكاتهم الجاهلية إلى مرجعية  إسلامية نتجت عنها سلوكات إسلامية  . وقد عبر أحد الصحابة عن هذا الانتقال من مرجعية إلى أخرى بقوله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلّينا قبل أن يحلّينا " . والتخلية كانت  عبارة عن   قطيعة  مع المرجعية الجاهلية ، و بينما كانت التحلية ارتباط بالمرجعية الإسلامية  التي حلت محلها.

ومع تراخي الزمن ، ودخول أمم غير عربية في دين الله أفواجا ، حدث أن كان من الداخلين فيه من لم  يخلّوا التخلية الكاملة  مما كانوا عليه  من سلوكات في مرجعياتهم السابقة  ، فشابت تحليتهم رواسب مما كانوا عليه قبل إسلامهم ، وانتقلت تلك الرواسب إلى أجيال جاءت  بعدهم  عن طريق التبعية والتقليد ، ومع مرور الزمن ساد الاعتقاد بأنها من التحلية ، وهي ليست كذلك كما بين ذلك أهل العلم .  

ونظرا للصراع الذي كان بين  أصحاب الرسالة الخاتمة منذ بدايتها ، وبين من يعادونها ممن لم تكن لهم أصلا رسالة سابقة بل كانوا وثنيين ، وممن كانت لهم رسالات سابقة طالها التحريف بشهادة الرسالة الخاتمة ، فقد كان لهذا الصراع تأثير في سلوك المسلمين عبر العصور التالية لعصر النبوة حسب ما كان ينتج عن ذلك الصراع الذي كان فيه تأثير للغالب على المغلوب .

ومع حلول الضعف  بالمسلمين في القرنيين الماضيين ، وهو ضعف لا زال قائما ،سيطر عليهم التأثر  بغالبهم المفوق عليهم ماديا ، واستحكم فيهم  وقد أذهلتهم قوته العسكرية والتكنولوجية والصناعية ، أو لنقل المادية عموما . وحدث أن التبس على  كثير من المسلمين الخلط بين التأثر بغالبهم ماديا ، والتأثر به على مستوى القيم  ، حيث  ربط بعضهم  ربطا لا يستقيم منطقيا بين تفوقه المادي ، وبين  قيمه التي لا يمكن الحكم على تفوقها ، مع أن حكماء وفلاسفة ومفكرين من الأمم الغالبة ممن  يحكمون الموضوعية أقروا بانحطاطها الذي يعزى إلى مرجعيتها التي  قطعت صلتها بالدين الذي كان سائدا فيها ، و كانت أصلا  قد انحرفت عن أصله  السماوي  بشهادة الرسالة الخاتمة ، وصار تصورها الكونية هو لا إله والحياة مادة .

والمغلوبون من المسلمين، وكلهم يقر بغلبة غالبهم  اللاديني ، وتفوقه المادي عليهم صنفان : صنف يسلم له بالغلبة  المادية، ويحاول اللحاق به فيها  ، لكنه يتحفظ على غلبته على مستوى القيم، وهو لا يراها جديرة بالتأثر بها والتقليد والاتباع  ، وهذا الصنف يمكن وصفه بالبرغماتي ،  وصنف آخر التبس عليه أمر الغلبة المادية ، فوقر في قناعته أن تفوق غالبه ماديا ، يقتضي  بالضرورة التسليم له بغلبته على مستوى القيم  مع اعتقاده بأنهما لا ينفصلان ، وهذا الصنف يمكن وصفه الدوغمائي   ، وهو يصر على الخلط بين تفوق غالبه المادي ، وبين انحطاط قيمه . وهذا الصنف يمكن تقسيمه إلى فريقين : فريق مستأجر واع باستئجاره ،يوظفه الغالب لنشر نموذجه الحضاري المادي  ، ويمثله دعاة العلمانية في البلاد العربية والإسلامية ،وهم قلة ينفخ فيها الإعلام  من أجل إعطاء انطباع بسيادة ما يدعون إليه ، وهو أمر يكذبه الواقع المفارق للوهم الإعلامي ، وفريق غير واع بحقيقة انبهاره  بالنموذج الحضاري المادي دون الاحتراز من أزمة قيمه . ومعلوم أن تقليد هذا الفريق وهو سواد أعظم للغالب العلماني، لا يكلد يميز في تقليده بين ما ينفعه ماديا ، وبين ما يضره قيميا، لهذا يتلقف ما هو قيمي بنفس النهم الذي يتلقى به ما هو مادي ، ولا فرق عنده أن يقتني سيارة فارهة ، وبين أن يسلك سلوك المجتمع  الذي صنعها حتى وإن اقتضى الأمر أن  يصير مقتنعا بالسلوك المثلي والرضائي وغيرهما .... وبكل ما جاء من عفن من الدول المتقدمة ماديا وتكنولوجيا ، وهو بذلك يجد نفسه يواجه تناقضا صارخا بين سلوكه الذي يصدر فيه عن تقليد من ينبهر بهم ، وبين مرجعيته التي تلزمه بسلوك مخالف  له .

ولنضرب  أمثلة على  هذا التناقض من واقعنا المعيش ، فعلى سبيل المثال  لا الحصر المرأة المسلمة التي تلزمها مرجعيتها بلباس خاص  له طابع تعبدي حين تتخلى عنه تقليدا للمرأة العلمانية ، لا يكون لديها انسجام بين سلوكها ، وبين مرجعيتها ، بينما المرأة العلمانية يوجد انسجام تام  بين مرجعيتها  المادية وبين سلوكها  ، ذلك أن لباسها خارج بيتها أو في المسابح والشواطىء، يعكس قناعتها المستمد من مرجعيتها العلمانية ، بينما المرأة المحسوبة على الإسلام، يوجد انفصام بين مرجعيتها الإسلامية ، وبين تقليدها للمرأة العلمانية في لباسها  برا وبحرا .

والمشكل أن العلمانية الغربية تقف موقف الرافضة للباس المرأة المسلمة ، وهي تدرك حقيقته التعبدية ، وتحاول الضغط لتعميم لباس المرأة العلمانية، تكريسا للمرجعية العلمانية في البلاد الإسلامية ، ولهذا تستهدف المرأة المسلمة بسبب لباسها سواء في الأماكن العامة أو في المسابح والشواطىء ، وهو ما بات يعرف بصراع البيكيني والبوركيني . وآخر مشهد مر بنا مؤخرا هو امتعاض فرنسا زعيمة العلمانية الغربية من لاعبة كرة القدم المغربية  في بطولة العالم للسيدات . وعلى غرار التناقض الذي تقع فيه المرأة المسلمة بين تقليدها المرأة  العلمانية  في لباسها ، وبين مرجعيتها ، توجد أمثلة كثيرة لا خصر لها ،ولا داعي للتفصيل فيها ، وهي  لا تقتصر على النساء فقط بل تشمل الرجال أيضا في المجتمعات الإسلامية.

ولا بد من التنبيه إلى ضرورة مسائلة الإنسان المسلم سواء كان ذكرا أو أنثى نفسه  أو ضميره في كل سلوك يسلكه في حياته اليومية عن مدى الانسجام بينه وبين مرجعيته إذا ما كانت  صيانة هويته الإسلامية مما يعنيه بالفعل .

 وفي الأخير لا بد أيضا من التنبيه إلى خطورة الفئة التي تستأجرها العلمانية الغربية كي تشيع في المجتمعات الإسلامية نموذجها السلوكي المفلس بشهاد شهود منها لهم وزنهم الفكري والفلسفي . ولا بد من التمييز بين التأثر بالتطور المادي للمجتمعات العلمانية ، وهو ما لا ترفضه المرجعية الإسلامية ، وبين انحطاط قيمها  ، وبهذا وحده تصان الهوية الإسلامية ، وتفرض نفسها على العلمانية التي تريد استئصالها لتبقى هي النموذج الوحيد في هذا العالم دون وجود نماذج مخالفة  أو منافسة  لها ، وهي كما استأثرت بالتفوق المادي ، تريد أن تستأثر بتفوق قيمها ، والصراع محتدم وعلى أشده بين مرجعيتين على طرفي نقيض تعكسه السجالات  الفكرين بين المدافعين عن الهوية الإسلامية وبين من ينوبون عن  الهوية العلمانية الراغبة في استئصالها من المنتسبين إلى الهوية الإسلامية ادعاء تكذبه مواقفهم ، ودعواتهم الباطلة إلى طمس معالم المجتمعات الإسلامية .

وسوم: العدد 1044