استماتة نتنياهو للتطبيع مع السعودية

يلاحظ أنّ نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينيّة المتطرّفة، يسعى حثيثا للتّطبيع المجّانيّ مع السّعوديّة، كما فعلت علانية من قبل دول عربيّة مثل الإمارات، والبحرين والمغرب، وهناك دول أخرى تطبّع بالخفاء أيضا. وتدعم إدارة الرّئيس الأمريكي بايدن نتنياهو بهذها الخصوص، بل إنّها أرسلت أكثر من مبعوث أمريكيّ للضّغط على السّعوديّة أيضا لتحقيق طلب نتنياهو الذي يترأس حكومة تضمّ وزراء من أحزاب فاشيّة. وإذا كانت الإدارة الأمريكيّة الحاليّة حريصة على تحقيق ذلك؛  لتحظى بدعم اللوبي اليهودي في الانتخابات الأمريكيّة في العام القادم، فإنّ نتنياهو يسعى أيضا للخروج من أزماته الدّاخليّة، ليظهر أمام شعبه وكأنّه إنسان خارق يستطيع تحقيق ما لم يستطع غيره تحقيقه. وهو يدرك جيّدا الثّقل الإقتصاديّ والسّياسيّ للملكة السّعوديّة، التي تصدّرت العالمين العربيّ والإسلاميّ لأكثر من سبب، خصوصا بعد تحييد دور مصر بوفاة الرّئيس جمال عبد النّاصر عام 1970، واحتلال العراق وهدم دولته وإسقاط نظام صدّام حسين عام 2003، كما أنّ لها ثقلها في السّاحة الدّوليّة أيضا، ويشجّع نتنياهو في ذلك أنّ السّعوديّة طبّعت بشكل وآخر مع اسرائيل أمنيّا وعسكريّا واستخباراتيّا ضمن الحملة الأمريكيّة الإسرائيليّة ضدّ إيران، كما أنّها سمحت للطّائرات الإسرائيليّة بالمرور في أجوائها، وهذا إشارة إلى بداية "رقص الحنجلة" الذي لا نتمنّاه للسّعودية ولا لغيرها من الأقطار العربيّة والإسلاميّة. وإذا كانت أنظمة عربيّة قد خضعت لضغوطات إدارة الرّئيس الأمريكي السّابق ترامب، وطبّعت مع اسرائيل دون مقابل، ذلك التّطبيع الذي وصفته الجامعة العربيّة وأنظمة عربيّة أخرى بأنّه قرار "سياديّ!!!" فإنّ السّعوديّة وضعت بعض الشّروط ومنها كما نقلتها وسائل الإعلام، تعهّد أمريكي بحماية المملكة، بناء مفاعل نووي للأغراض السّلميّة، وإحراز "تقدّم" لحلّ القضيّة الفلسطينيّة، ولا يوجد ذكر لإنهاء الاحتلال وتمكين الشّعب الفلسطينيّ من حقّه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف، كما لا يوجد ذِكر لتطبيق القانون الدّوليّ وقرارات مجلس الأمن الدّولي حتّى التي وافقت عليها اسرائيل وأمريكا بخصوص القضيّة الفلسطينيّة.

أمريكا وإسرائيل ستوافقان

واضح أنّ وليّ العهد السّعودي محمّد بن سلمان الذي يحيط به خبراء أكفياء في المجالات المختلفة، يدرك جيّدا بداية تغيير النّظام الدّولي، وأنّ سطوة أمريكا على العالم بدأت تتراجع بشكل جليّ، خصوصا بعد حرب روسيا على أوكرانيا، لذا فقد لجأ إلى تطوير -وإن بشكل بطيء-علاقات بلاده مع روسيا والصّين، وإلى إنهاء الخلافات المفتعلة مع إيران، وإلى إعادة العلاقات مع سورية، وهذا أمر جيّد يغضب أمريكا واسرائيل. ولاحتواء هذا التّحوّل البطيء في السّياسة السّعوديّة، فإنّ أمريكا ستوافق على طلبات السّعوديّة للموافقة على التّطبيع السّياسي والإقتصادي مع اسرائيل، وسنرى ذلك عند بدء الإعلان والدعاية لانتخابات الرّئاسة الأمريكيّة مع بداية العام القادم، وهي بهذا لن تأتي بجديد، فتعهّدها للدّفاع عن السّعوديّة كما تتعهّد بالدّفاع عن دول حلف النّاتو أمر مفروغ منه، لا حبّا في السّعوديّة وشعبها ونظامها الملكيّ، بل لترسيخ سيطرتها على منابع البترول، وهي قادرة على مراقبة المفاعل النّووي ومنع استعماله لإنتاج أسلحة نوويّة. وستقدّم تسهيلات للفلسطينيّين من خلال الضّغط على اسرائيل لوقف مصادرة الأراضي الفلسطينيّة واستيطانها ولو بشكل مؤقّت، وكبح جماح المستوطنين الذين يستبيحون الأراضي الفلسطينيّة بوحشيّة دمويّة وبحماية الجيش الإسرائيليّ، وحلّ المشاكل الماليّة للسّلطة الفلسطينيّة، وتحسين الأوضاع الاقتصاديّة للشّعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة. وهذا كلّه يندرج ضمن "الحلّ الإقتصدي" الذي تضمّنته اتّفاقات ما يسمّى "السّلام الإبراهيميّ"، والذي يعني السّلام بين أبناء أبو الأنبياء ابراهيم من زوجته السّيدة سارة، وأبنائه من جاريته هاجر، أي سلام بين السّادة والعبيد. وهي بهذا تلبّي رؤية نتنياهو للسّلام، والتي لا تتعدّى منح الفلسطينيّين إدارة مدنيّة على السّكان دون الأرض، وهذا يعني ترسيخ الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين ومرتفعات الجولان السّوريّة، وبموافقة عربيّة.

والإدارات الأمريكيّة المتعاقبة، والقيادات الصّهيونيّة الحاكمة في اسرائيل تدرك جيّدا، ثِقَل السّعوديّة السّياسيّ والإقتصاديّ، ولن تتخلّى عنها، لأنّ طلبات السّعوديّة للموافقة على التّطبيع لها بدائل جاهزة، فالصّين وروسيا جاهزتان لبيع السّعوديّة مفاعلات نوويّة وأسلحة حديثة، وحماية السّعوديّة ونظامها الحاكم ستكون من شعبها ومن الشّعوب العربيّة إذا ما اتّخذ النّظام مواقف مبدئيّة تخدم مصالح شعبه وأمّته. ومعروف أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة العرب الأولى، والأنظمة العربيّة تعي جيّدا الأطماع الصّهيونيّة التّوسّعيّة التي تتعدّى حدود فلسطين " من النّيل إلى الفرات"، وهي تشمل شمال السّعوديّة أيضا.

ويبقى السّؤال حول مدى إمكانيّة تخلّي وليّ العهد السّعوديّ عن المبادرة السّعوديّة التي أطلقها العاهل السّعودي الرّاحل عبدالله بن عبد العزيز عام 2002 أثناء ولايته للعهد والتي تبنّتها الجامعة العربيّة، وهل ستتخلّى الأنظمة العربيّة عن أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشّريفين ومعراج خاتم النّبيّين؟ وهذا ما لا يتمنّاه أيّ عربيّ أو مسلم، وإذا ما حصل ذلك فإنّ المنطقة ستدخل في صراعات دامية لن ينجو منها أحد.  

وسوم: العدد 1044