لا يجحدن من تبوأ شأنا أو مكانة أو منصبا أو مرتبة فضل من سخرهم له الله تعالى

جرت العادة أن تقتصر نظرة الناس إلى ذوي الشأن أو المكانة  أو المنصب أو المرتبة على ما صاروا عليه دون استحضار أحوالهم من قبل ، وكأنهم ولدوا وهم على ما آلوا إليه في حاضرهم ، وفي هذا تغييب  لفضل من سخرهم الله تعالى لهم ، وبهم يسر لهم الطريق إلى ما كتبهم لهم من علو شأن في سابق غيبه .

وأول من يُغيّبون من أهل الفضل على هؤلاء، الوالدان اللذان لولاهما ما كانوا ، ولا أدركوا ما أدركوه، ثم يليهما أقاربهم ودورهم لا يستهان به دعما، ومساندة، وخدمة ، ثم يليهم من سهروا على تربيتهم وتعليمهم، منذ نعومة أظفارهم ، وقد واكبوا مسارهم الدراسي والتربوي عبر مراحل أعمارهم ، ولولا فضلهم عليهم ما كانوا ليحلموا بشيء مما حققوه ، ولهم في واقعهم المعيش أدلة على ذلك ممن رافقوهم في مسار تعلمهم، ولكنهم تعثروا ، وتخلفوا عن مستوياتهم .

 ويأتي بعد هؤلاء أصدقاء العمر، ودورهم لا يمكن أن ينسى أو يتجاهل، فهم السند والدعم ، ثم يأتي بعد ذلك  فريق من ذوي الحنكة، والخبرة ، والتكوين والتوجيه ،والذين بهم  تعبد الطرق نحو التألق والنجاح  .

وذوو الشأن أوالمكانة أوالمرتبة أو المنصب في المجتمع صنفان : صنف أول يقر بفضل وجميل من سخرهم الله تعالى لهم كي يبلغوا ما بلغوه ، وهذا الصنف نادر جدا ، وصنف ثان يجحدون فضلهم، ويزهون بما صاروا عليه، مع أنهم مدينون بذلك لأهل الفضل عليه ، وهذا الصنف هو الغالب مع شديد الأسف .

ومن نماذج الصنف الأول على سبيل المثال ، نموذج  تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي  خبره منذ مدة ليست بالقصيرة ، ويتعلق الأمر بموقف طيار تركي  ركب طائرته معلمه، وهو شيخ كبير، فاحتفى به أمام الركاب، وهو يقبل يديه ، وينحني أمامه إجلالا وتقديرا ، ويقدم له باقة ورد أو هدية ، وقد ذرفت عيناه  لبكاء معلمه فرحا به ، وبالتفاتته في لقاء كتب له أن يكون  في الجو رامزا  لعلو شأن المعلم عند تلميذه الطيّار، وهو لقاء  لم يكن منتظرا، وكان ذلك درسا بليغا لكل من صار ذا شأن أو مكانة أو منصب أو مرتبة ، وصادف بعض من لهم عليه فضل ، لكنه لم يعرف لهم فضلهم عليه ، ولم تحدثه نفسه بشكرهم والثناء عليهم .  

ومن نماذج الصنف الثاني، من يمر به من علمه في صغره أو في شبابه  ، فيتجاهله متنكرا لفضله عليه تنكر اللئام ، فلا يكلف نفسه مجرد إلقاء تحية عابرة عليه ،بل قد يتنذر به أو يسخر منه ،وهو بين معارفه وأصدقائه أو زملائه أو أقاربه ، وهذا موقف من لا خلاق لهم . وإذا  ذكر شيئا من ذكرياته التي كانت بينهما ، لا يذكر إلا يوما عاقبه فيه لتكاسل كان منه  أو لتراخ كان فيه أو لسوء أدب صدرعنه ، ويتناسى كل فضل ناله .

 وقد يقف ذو الفضل عند بباب ذي الشأن أو المكانة أو المرتبة أو المنصب لحاجة اضطر إليها  اضطرارا، فيجد منه الجفاء ، ونكران الجميل ، ولا يُلين له جانبا ،ولا يخفض له جناحا ، ولا يحسن له قولا ، ولا يقضي له حاجة أو طلبا ، وإن كان ذلك مما يستحق ، وليس فضلا أو إحسانا . وقد يبلغ الأمر ببعض جاحدي فضل من علمهم وقد صاروا أصحاب سلطة أو قرار حد التعسف في التعامل معه ، وكأنه كان بينهم وبينه حساب حان أوان تصفيته، وسنحت لهم فرصته .

ومن أقبح نماذج نكران الجميل تصرف بعض من علا كعبهم في العلم ، وعوض أن يتواضعوا لمن كان لهم عليهم فضل ، فإنهم يشمخون عليهم بأنوفهم ، ولا يخفضون لهم جناحا ، ولا يسألون عن أحوالهم ، ولا يصلونهم ، ولا يعودونهم إذا ما مرضوا ، ولا يحضرون جنائزهم إذا ما ماتوا ، ولا يحفظون لهم ودا ، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . والمؤسف أن يكون هؤلاء ممن  هم  في مستوى من يجب الاقتداء بهم ـ  يا حسرتاه ـ فتشيع  بين الناس أخبار تصرفاتهم شاهدة على كبريائهم ، وتعاليهم ،الشيء الذي يثلم مكانتهم العلمية ، وقد يبلغهم ذلك، ويصل إلى سمعهم ، فيزدادون كبرياء وتعاليا، خصوصا إذا ما ابتلاهم الله تعالى ببطانة سوء، تنفخ في كبريائهم وتعاليهم  ليزداد زمانة ، ويمدحونهم المدح الكاذب،  وهم على تلك الحال من الغرور ، ولا أحد من تلك البطانة السيئة  ينصحهم بالتواضع لخلق الله ، وهو من التواضع له سبحانه وتعالى  .

وما أشبه من يهتمون بذوي الشأن دون أدنى تفكير فيمن كانوا وراء إدراكه بمن لا يرون في الساعة الضابطة للوقت سوى صفحتها التي تتحرك فيها عقاربها دون أن يخطر لهم على بال التفكيرفي ما بداخلها من دواليب، يحرك بعضها بعضا  كي تشتغل ، والتي لولاها ما كان للساعة شأن  يذكر.  

وقد يطول الحديث عن صنف ناكري فضل من كان لهم عليهم فضل، من أدناهم فضلا عليهم إلى أعلاهم إذا ما شئنا أن نفصل القول  في سوء سلوكهم ، إلا أن فيما ذكرناه ما يغني عن ذلك ، ولهذا نختم بالقول كما بدأناه : " لا يجحدن من كان له شأن أو تبوأ مكانة أو أمنصبا أو مرتبة فضل من سخرهم الله تعالى له "، لأن ذلك يكون له سبة، ومعرة، وعارا، وشنارا .

وسوم: العدد 1046