وائل الدحدوح… أحمد دومة… كل هذه البطولة

ضجّت سينمات العالم مع بدايات العقد الأول من الألفية الراهنة، بفيلم لقيصر هوليوود (أو حاخامها) ستيفن سبيلبيرغ «إنقاذ الجندي رايان»، بحكايته المؤثرة، حيث تخسر أم أمريكية ثلاثة من أولادها في الحرب، فيما الرابع في خضمها على جبهة النورماندي، قد يعود أو لا يعود.

هنا، سيشفق قلب الحكومة الأمريكية الرؤوم، فتقرّر انتشاله من بين أنياب الحرب، وإعادته سالماً، رأفةً بوالدته، التي عانت فقدان أبنائها.

نعلم سلفاً أن الابن الرابع سيعود حتماً مع نهاية القصة. لذلك لا يغامر الفيلم بأن يكون نوعاً من التذكّر، الفلاش باك، حيث يبدأ بمشهد في الزمن الحاضر، إذ يقوم عجوزٌ بزيارة لمقبرة على شواطئ النورماندي في فرنسا، محيياً قبر الكابتن جون ميلر (توم هانكس)، ومن هنا سينتقل الفيلم إلى يوم إنزال النورماندي أثناء الحرب العالمية الثانية.

نعلم أن الابن سيعود، ذلك أن هوليوود من شأنها، وعادتها، ألا تخذل متفرجيها، وفي الوقت ذاته ليس بوسعها أن تخيّب مسعى الحكومة الأمريكية كلّية القدرة، فالبطل الهوليودي، مهما تأخرَ، آتٍ.

الفيلم جاء خلطة مبدعة من الأكشن، والبطولة والتضحية، والمشاعر الرائعة. ولذلك هو باق في الذاكرة، علامة لا تُنسى بين أفلام الحرب التي لا تنقطع عن شاشات السينما.

حتى الساعة، ما من بطل هوليوودي كفيل بإنقاذ الولد الفلسطيني الرابع، كان عليه أن يتكفّل هو بإنقاذ نفسه، بإرسال بقية منه إلى المستقبل. حيث لا يجب أن تكون البقية صمتاً

لا شك أننا عندما تأتي سيرة الولد الرابع في الفيلم الأمريكي (اللهم لا استخفاف بأي موت مهما قلّ أو كثر، ولا استرخاص لأي حياة) سنتذكر وائل الدحدوح، وقد فَقَدَ تباعاً عشرين شهيداً من أسرته، وتقريباً كنا نعرف الخبر معه على الهواء مباشرة، فَقَدَ أصدقاء وجيراناً وزملاء عمل، وكاد هو شخصياً ينضم إلى القافلة، غير أن الموت اكتفى منه بإصابة في اليد.

مأساة الدحدوح شَلَعَت حتى قلب وزير خارجية الداعم الأول للإبادة الجماعية، أنطوني بلينكن، ولم يستطع أن يتجاهل الموقف: «أشعر بالأسف الشديد على الخسارة، التي لا يمكن تخيّلها، أنا أب وأتخيّل الفظائع التي يواجهها وائل الدحدوح، ليست مرة واحدة، ولكن مرتين الآن، هذه مأساة لا يمكن تخيّلها».

غير أن البطل الأمريكي هنا هو شريك في صنع المأساة، وكما ترون في تصريح بلينكن، لا يبدو أنه (البطل) يلوي على شيء!

لكن فرادة الدحدوح ليست بالضبط في مأساته، بل في بطولته، أين نجد مثل هذا: رجل يدفن ولده البكر، وفي المساء تجده واقفاً مثل جبل أمام الكاميرات. مراسل يدفن اثني عشر من أقاربه، يبكيهم واحداً واحداً، يخرج أشلاءهم بيديه من بين الأنقاض، يلتفت إلى ما تبقى من عائلته ليشدّ من أزرهم، ثم إلى الكاميرا ليشدّ أزر الملايين.

مأساة الدحدوح تتكرر بلا هوادة في غزة، ومن فرطها، من فرط موت العائلات بالجملة، صار الغزيون يتبادلون بعض أبنائهم، فإن قضت عائلة برمتها سيبقى من رائحتها نفرٌ عند عائلة أخرى.

قدر الفلسطيني أن يستمرّ، ليس مشغولاً بسؤال الوجود والعيش وحدهما، بل بسؤال البقاء والاستمرار.

حتى الساعة، ما من بطل هوليوودي كفيل بإنقاذ الولد الفلسطيني الرابع، كان عليه أن يتكفّل هو بإنقاذ نفسه، بإرسال بقية منه إلى المستقبل. حيث لا يجب أن تكون البقية صمتاً.

الاسم: أحمد دومة

«مصر مشاركة في الحصار

معبر بينّا وبين أهالينا

الصهيوني متحكّم فينا

طول ما الدم العربي رخيص

يسقط يسقط أي رئيس»!

تعرف أيضاً أن أم الدنيا هي كذلك بحق، أنها بلاد مليئة بالبطولة، ولن يطول بها المقام، مهما طال حقاً، على قارعة الأمم

حتى تمتلئ بمشاعر استثنائية ومليئة بالعظمة عليك أن تسمع الهتاف أعلاه بصوت الناشط المصري أحمد دومة. بل يفضّل أن تشاهده بين حشد الغاضبين في وسط القاهرة. استمع إلى الهتاف على لسان دومة، لا يضيّع منه كلمة، أو حرفاً، ولا إيقاعاً. إنه يغنيه كما لو كان نشيداً وطنياً، من دون ذرة خوف، هو الخارج للتو من سجن عشر سنوات بحالها من سجون نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. هتاف وبطولة ليسا جديدين على الناشط المصري، ولا على شعب مصر، فهناك فيديو مشهور آخر له من قلب المحكمة، وبين يدي العسكر يهتف فيه بملء الصوت: يسقط يسقط حكم العسكر.

هتاف جلب على الشاب المصري حملة تنكيل واتهام وتحريض، بالإضافة إلى بلاغ من محام معروف عنه رفع دعاوى على ناشطين أمام القضاء المصري.

تعرف أن الشاب لن يطول به المقام على الإسفلت، وأنه سيعود سريعاً إلى السجون من دون أمل بعفو عام، لكنك تعرف أيضاً أن أم الدنيا هي كذلك بحق، أنها بلاد مليئة بالبطولة، ولن يطول بها المقام، مهما طال حقاً، على قارعة الأمم.

وسوم: العدد 1067