بين سفينة نوح وسفينة رابعة العدوية

أبو المعتصم بالله النتشة

صناعة التاريخ

أبو المعتصم بالله يوسف النتشة

[email protected]

إن ما جرى ويجري في ميادين مصر اليوم، وفي مقدمتها ميدان رابعة العدوية، من تجمعات بشرية هائلة تهتف بمطلب واحد هو زوال الانقلاب وعودة الرئيس الشرعي – هو ظاهرة فريدة ، وربما كانت الوحيدة على مدار التاريخ البشري من حيث تشابك خيوطها ومكوناتها والمتعاملين معها، ومن حيث زمانها ومكانها ، كذلك من حيث أعداد المشاركين ونسبتهم من المجتمع المصري، ومن حيث صمودهم وثباتهم على أهدافهم ، بل ومن حيث ارتفاع معنوياتهم، وتزايد أعدادهم يوماً بعد يوم، وذلك رغم الترهيب والتقتيل، ورغم حلول شهر الصيام وحرارة الصيف ،وتعطل مصالحهم الشخصية وبرامج حياتهم اليومية..

 إنها لظاهرة جديرة بالدراسة والتحليل، فما الذي يدفع هؤلاء الناس إلى ذلك التدافع على الميادين بأنفسهم وأبنائهم ، والموت والإرهاب والمكر يحاصرهم من كل جانب في الداخل والخارج ؟!

 ففي الداخل معسكر الباطل المتجبر المنتفش على قلة أنصاره، يمسك بكل خيوط القوة والإقتصاد والإعلام والسياسة.

 ومن حولهم في المحيط الإقليمي، يقف المنافقون من الأعراب وأذناب الإستعمار، بكل ثقلهم وبما ابتزوه من مال الأمة، خلف انقلاب العسكر، خشية أن تنتقل العدوى من رابعة العدوية إلى ساحات الرياض والكويت ودبي، فتزلزل عروشهم وتهوي بهم في واد سحيق.

 ومن بعيد تقف أمريكا زعيمة الإرهاب العالمي، ومعها الغرب الذي ما زال يتقلب في حمأة الحقد الصليبي الأسود - موقف المخطط والموجه والداعم سرا وعلانية لانقلاب البلطجية،حيث أعماهم الحقد التاريخي عن كل ما ادعوه من ديموقراطية وحرية، لتنكشف وجوههم القبيحة الكالحة أمام كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

 وليس ببعيد عن المشهد ،تطل أفعى المكر الأكبر برأسها من تل أبيب ،تحتضن الخونة ، وتبارك غدرهم بشعبهم ،حتى وصف أحد زعمائها انقلاب العسكر بأنه نصر لإسرائيل أكبر من نصر عام سبعة وستين.!

 وعودة إلى السؤال المطروح: ما السر في ثبات المعتصمين وإصرارهم على مطالبهم بل وانتشارهم إلى ميادين أخرى وتزايد أعدادهم يوما بعد يوم، رغم كل هذا الحشد والمكر الذي يجابهونه ؟

 هل يدفع لهم منافقوا جزيرة العرب كما يدفعون لغيرهم؟هل هناك مخابرات دول كبرى تخطط لهم ؟ أم أن ما يجري نتيجة تعلقهم بشخص الدكتور محمد مرسي، أم أن هناك أسباب أبعد من ذلك؟

 نعم .. إن ما يرى اليوم في ميادين مصر ليس مجرد تنفيس احتقان أو تعبير عن غضب عابر، فلو كان ذلك كذلك لانتهى الأمر خلال أيام ،ولتناقصت الأعداد يوما بعد يوم، ولربما عاد كل إلى منزله بعد مجزرة الحرس الجمهوري أو مجزرة رمسيس .

 إن ما يجري في ميادين مصرالآن هو في الواقع نقطة تحول تاريخية حقيقية سيكون لها ما لها من التأثير على تاريخ المنطقة وعلى التاريخ المعاصر برمته.

 إن الذاكرة البشرية ترصد وتسجل كل ما يدور في رابعة العدوية لحظة بلحظة، وإن التاريخ يسجل الهتافات والنداءات والجرائم والاعتداءات والأحداث ،ويجب ألا ننسى أن ملائكة الرحمن تسجل استغاثات المظلومين وآهات المكلومين وعبث العابثين .

 وفوق كل ظالم .. وفوق كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب قوة الله المتصرف الأول.. الذي ليس كمثله شيء .. العزيز الحكيم الذي يدبر الأمور من فوق سبع سماوات.. والذي يرى ويسمع كيد الكائدين وتكالب المتآمرين ( والله من ورائهم محيط).

 إن غضب رابعة العدوية وميادين مصر ،ليس مجرد غضب لاستبدال شخص بشخص أو جماعة بجماعة فحسب،بل هو في الحقيقة غضب لشعب بل لأمة أقصيت عن موقعها الذي تستحق، وأريد لها أن تظل خانعة مستكينة تحت ضربات التشريق والتغريب تارة ، وتحت بساطير العساكر تارة أخرى ، ولكن هيهات هيهات.

 إنه غضب السنين المديدة.. والأحقاب العديدة..تلك التي شهدت أمورا جساما وأهوالا عظاما .. دالت فيها للأمة دول كثيرة.. وسالت لها دماء غزيرة غالية .. وتناثرت أشلاء أبنائها في كل حدب وصوب .. حتى أصبحت دماؤها أرخص الدماء.. وفوق هذا وذاك سلبت حريتها وإرادتها وامتهنت كرامتها..بل ونهبت خيراتها وتحكمت فيها عصابات من عملاء الاستعمار الغاشم،أوصلتها إلى الواقع الذي لا يخفى على أحد..

 إن رابعة العدوية اليوم هي مفصل من مفاصل التاريخ..مفصل بين ليل العبودية الزائل لا محالة.. وبين فجر الحرية القادم لا محالة أيضا ولو بعد حين .. وإن هذا التحول بما يمثله من طموحات في ضمير الأمة ..ومن طوفان ساحق في ضمير أعدائها أيضا- له ثمن باهظ .. ثمن من الثبات والصبر والمصابرة،ومن الضحايا والدماء، ومن بذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الهدف الأسمى..

 إن هذه اللحظات التاريخية الفارقة بحاجة إلى استخراج أكبر قدر ممكن من قوى الخير من ثنايا المجتمع، وحشدها في صف واحد مرصوص قبالة تجمعات الباطل التي استشعرت الخطر وقرب نهايتها ،فحشدت ومعها كل قوى البغي في العالم في محاولة التصدي لأمواج الطوفان المتدفق..

 وهاهي رابعة العدوية وميادين مصر اليوم وبحكمة ربانية بالغة، قد تحولت إلى سفينة النجاة تستجمع وتستقطب قوى الخير في مصر، ومن خلفها الملايين من أبناء الأمة، من أجل تمايز النفوس الطاهرة النقية في صف واحد لاجتياز أمواج عاتية من الفساد والمكر الذي تكاد تزول منه الجبال..

 لقد تحولت سفينة النجاة هذه ،وبتقدير رباني إلى موئل وملاذ لكل حر أبي ولكل طاهر عفيف من أبناء مصر،وأصبحت محاضن تربية للملايين لا يضاهيها في ذلك إلا يوم الحج الأكبر.

 إنهم يجتمعون في هذه المحاضن على العفة والعزة ونبذ كل فاسد مفسد من بين أظهرهم ..ويعززون بينهم معاني الأخوة الوحدة والتكافل .. ويتواصون فيما بينهم بالحق والصبر..و كل فرد منهم يتحرك على الأرض بروح الملايين التي تتحرك معه في الميدان.. يهتف بقوة هتافهم.. ويتنفس بعمق أنفاسهم .. إن هؤلاء الأحرار في جموعهم المباركة يطهرون أنفسهم مما علق فيها من أدران الوهن وحب الدنيا وكراهية الموت.. من أجل المضي قدما في المهمة الكبرى التي رصدوا لها نفوسهم وأموالهم..

 تلك هي مهمة تطهير مجتمعهم وبلدهم من أوكار السفلة والخانعين .. والخونة الفاسدين المفسدين في الأرض.. وإلى استرداد كرامتهم وانتزاع حريتهم.. وصولاً إلى إقامة دولة الحق والعدل المنشودة.. وأخذ موقعهم الذي يستحقونه على الخارطة الإقليمية والعالمية..

 إن التقدير الرباني المعجز الذي يصنع هذه الملايين على عينه في سفينة رابعة العدوية .. كما صنع موسى عليه السلام من قبل على عينه في نفس البقعة الجغرافية ..وكما أوحى إلى نوح عليه السلام بصنع سفينة النجاة للصالحين ليطهر الأرض من دنس المفسدين – إن هذا التقدير المعجز هو الذي يصنعهم لمهمة التطهير بعد التغيير .. وإن كان ميدان التحرير قد صنع التغيير في 25\1\2011 ، فلعل الله تعالى قد اختار رابعة العدوية للتطهير الشامل بعد التغيير.

 إن سفينة رابعة العدوية ينظر إليها اليوم كسفينة النجاة في هذه اللحظات التاريخية الفارقة، ليس لأهل مصر فحسب ، بل لكل الشعوب المقهورة ولكل المستضعفين على كوكبنا .

 إنها السفينة التي إن قدر لها الرحمن الرسو بأمان.. فسيكون لها ولطوفان الغضب المصاحب لها تأثير بالغ على مجريات التاريخ .. وأول ذلك تطهير الأرض من الفساد وأوكاره .. تماما كما طهر الطوفان المرافق لسفينة نوح -عليه السلام - الأرض من القوم الكافرين .

 نعم سوف تطهر الأرض من رجس الفاسدين.. وسينكشف المنافقون الخونة، من المجاورين والأعراب الذي مردوا على النفاق والغدروالتآمر مع الأعداء.. ولسوف تكسر شوكة الاستكبار العالمي ممثلا بدولة الإرهاب الأولى أمريكا ومن دار في فلكها .. ولعل ذلك يؤذن إن شاء الله بتحقيق قوله تعالى: (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم ،وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ،وليتبروا ما علوا تتبيرا)

 فيا أهل السفينة المنشودة في رابعة العدوية وميادين مصر الأبية.. يا خير أجناد الأرض..أنتم اليوم معقد الأمل .. ومحط أنظار الأمة والمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها..إنكم تصنعون التاريخ بصبركم وثباتكم وجهادكم.. سيروا على بركة الله .. سيروا بسم الله مجريها ومرساها ..فالثبات الثبات.. والصبر الصبر..فإنما النصر صبر ساعة..

 نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظ مصر وأهل مصر ، وأن يأذن لسفينة الحق بالرسو على بر الأمان,وما ذلك على الله بعزيز..

 ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).