روحاني.. الرئيس الذي مرروه «إصلاحيا»

روحاني.. الرئيس الذي مرروه «إصلاحيا»

محمد قواص

لو كان حسن روحاني، الذي أصبح الرئيس الحادي عشر للجمهورية الإسلامية في إيران، يمثّل تحدياً للنظام السياسي في طهران، لكان استبعد من الترشح كما استبعد غيره، ولكان تم توحيد مرشحي التيار المحافظ في شخصية واحدة، بدل القبول بتشتيت الأصوات على خمسة مرشحين.

حصلت المعركة، بغض النظر عن التصنيفات التبسيطية، بين محافظين وإصلاحيين، حصلت بين أهل البيت الواحد المحيط بالمرشد.

استبعد المرشحون الحقيقيون للتيار الإصلاحي. تارة بالإقامة الجبرية (مهدي كروبي وحسين موسوي)، وتارة بقرارات مجلس صيانة الدستور (لاسيما باستبعاد هاشمي رفسنجاني)، وتارة بالاعتكاف الذاتي لبعض المرشحين زهداً بموقع ما زال ممنوعا.

وفق ذلك مال الإصلاحيون في البداية نحو المقاطعة، إلى أن تبنى الرئيسان السابقان هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي شخصية حسن روحاني كمرشح دعوا الإصلاحيين لانتخابه.

حسن روحاني ليس إصلاحيا، هو مرشح الإصلاحيين فقط، في ذلك تسليم بأن التيار الإصلاحي اختار أهون الشرور، لكن للمفارقة أيضاً، فإن التيار المحافظ استسلم أيضا لأهون الشرور.

لا خيار آخر أمام الإصلاحيين، لكن ألم يكن هناك خيارات أخرى أمام المحافظين؟ من ذلك السؤال يمكن الاستكانة إلى حاجة النظام المحافظ في إيران، بقيادة المرشد، إلى شخصية غير نمطية للخروج من المآزق التي تتكدس في الدائرتين الداخلية والخارجية.

اندفع نظام الحكم في إيران إلى الخيارات القصوى في الداخل منذ الانتفاضة التي شهدتها إيران غداة الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2009. رفع اختيار الحزم في التعامل مع المعارضة، سواء من خلال القمع الميداني أو الملاحقة القانونية لزعماء المعارضة، من حدّة التناقضات الداخلية لدى الطبقة السياسية عامة، ثم داخل معسكر المحافظين نفسه لاحقا. تجلى ذلك بالخلاف العلني بين المرشد علي خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد. استدعت الأزمة التلويح بالكشف من قبل الرئيس نجاد عن معلومات وُصفت بالخطيرة تطال رموز النظام السياسي في طهران. تورمت الأزمة وأضحت مغلقة تحتاج إلى «مفتاح» حلّ.

في الهروب من مآزق الداخل السياسية والاقتصادية والمعيشية، جرى الهروب نحو خطاب شعبوي تعبوي حول البرنامج النووي ومواجهة الغرب، نشطت حوله المزايدة من قبل معسكري المرشد والرئيس. في ذلك إحراج للتيار الإصلاحي الواسع الانتشار، في ذلك أيضا تثبيت متبادل لشرعية الحكم بين المرشد والرئيس، بين السيادة الدينية والسيادة الشعبية التي صارت بيرق الرئيس في صراعه مع الوليّ الفقيه.

تمسك الخطاب الشعبويّ بأقصى الخيارات في ملفّات عدة. أول تلك الملفات البرنامج النووي، بحيث وصلت الأمور إلى مرحلة اللاّ حل والمراوحة والتلويح الغربي- الاسرائيلي بالخيار العسكري، ناهيك عن أن العقوبات الدولية المترتبة عن تلك تتداعى مباشرة على المستوى الاقتصادي للبلاد، وبالتالي للمواطن، مع ما يرافق ذلك من تململ داخلي متصاعد.

ثاني تلك الملفات ذلك المتعلق بالسياسية الإقليمية الإيرانية من حيث تنامي النفوذ والتدخل الإيرانيين في دول المنطقة من اليمن إلى لبنان، مرورا بالخليج والعراق وسوريا. تستند أشكال تلك السياسة على التواجد الشيعي أو القريب من الشيعة في دول المنطقة، ما يرفع من مستوى الفتنة السنية الشيعية، ويخلق بيئة معادية لإيران مستعدة للتحالف مع أي خيارات دولية ضد طهران.

من داخل ذلك الملف تبرز بخطورة مقاربة إيران للنزاع السوري من حيث الدعم الحيوي للنظام في دمشق بالسياسة والمال والسلاح، لكن أيضا من حيث إرسال مقاتلين شيعة، من دول مختلفة، لاسيما التورط المباشر والعلني لحزب الله في المعارك الداخلية في سوريا.

في تلك الأزمات تصل إيران إلى مأزقها الكبير الذي لا شك أنه يحتاج إلى تبديل في السياسات، وتغيير في الاستراتيجيات، وتحسين في الأداء ومرونة، ونضج في مقاربة العالم في الشرق والغرب. النظام الحالي متخشب بخطاب لا يستطيع تبرير التخلي عنه أو التراجع في دفقه. مرة أخرى تحتاج إيران إلى «مفتاح» حلّ.

يحتاج نظام الولي الفقيه للمخارج كشرط للبقاء، بعدما وصل التشكيك بفكرة الجمهورية الإسلامية إلى حدّ التشكيك بنظرية ولاية الفقيه، وبالتالي شرعية الوليّ الفقيه نفسه.

تحتاج مؤسسات النظام الإيراني، لاسيما مؤسسات الحرس الثوري، إلى منافذ بعد أن أثرت العقوبات مباشرة على بحبوحة تلك المؤسسات وشرعية ديمومتها.

يحتاج النظام السياسي إلى مخارج، وهو المحاط بتقليعة «الربيع» هنا وهناك من اليمن انتهاء بتركيا. فهدير الجيران يصمّ الآذان في إيران، ويجعل من احتمالاته في البلاد مسألة وقت وتوقيت.

في تناولنا لأزمة «تقسيم» في تركيا الأسبوع الماضي أشرنا إلى «إعادة التصحيح» المعمول بها في بورصات المال في الأسواق الدولية. يمثّل حسن روحاني رئيسا من هذا القبيل في إيران، يمثّل الرجل «مفتاح» الحلّ. «إصلاحية» روحاني، الذي اختار رمز «المفتاح» شعاراً لحملته الانتخابية، بعيدة عن طموحات جمهور كبير تحرك في الشارع قبل أربع سنوات تحريا لدولة حديثة متواصلة مع العالم.

الرجل معمم (هو حجّة الإسلام) يكرّس هيمنة المؤسسة الدينية الدائمة على الحكم. والرجل جزء من صنّاع القرار في تاريخ الجمهورية الإسلامية. لكن لروحاني خطاب «لغوي» منفتح لا يستفز المحافظين، ولا يخيّب الإصلاحيين. ولغوية الخطاب مردّها أسئلة حول قدرة الرئيس الجديد على تنفيذ وعوده المتفائلة، ومردّها أسئلة حول امتلاك الرئيس الجديد لأدوات الانفتاح والمرونة التي وعد بها في الداخل والخارج (الصلاحيات الكبرى بيد المرشد، والبرلمان يسيطر عليه المحافظون).

لا شيء يشي بانقلاب خارج المألوف في خطاب روحاني ولا شيء يفيد بثورة كبرى على ثوابت إيران الإستراتيجية، إلا من مفردات تتحدث عن انفتاح من أجل «اعتراف العالم بحقوق إيران»، وكأن مفاوضات السنوات الأخيرة كانت تطالب بغير ذلك. كما أن المقاربة التي دعا اليها بالنسبة إلى سوريا ضبابية وعظية، لا ترقى إلى مستوى التورط الخطير لبلاده وحلفائها في المستنقع السوري. كما أن حديثه عن تحسين علاقات إيران مع السعودية يأتي وكأنه سعي كلاسيكي ثنائي لا يأخذ بعين الاعتبار لزومية إحداث ثورة كبرى في سياسات واستراتيجيات وأهداف الجمهورية الاسلامية برمتها، كشرط لإنجاح انفتاح جديد على دول المنطقة.

العالم ينتظر، هكذا هي ردّات الفعل الأولى. والإيرانيون ينتظرون أيضا تلك العصا السحرية التي ستخرج من عباءة حجة الإسلام الرئيس. في ديناميات الرئيس الجديد، في شخص الرجل وفي ماضيه السياسي، ما لا يبشّر بقدرته (أو نيته ربما) على إحداث تغيير كبير. الخطاب الجديد للرئيس الجديد يحتاج إلى بيئة حاكمة قابلة لسماعه والإنصات إليه والتأثر به.

في ذلك، يحتاج حسن روحاني ربما إلى مواقف إقليمية ودولية حاسمة تكافح مواقف المرشد وصحبه في اليمن والخليج، كما في سوريا ولبنان، كما في البرنامج النووي. تعين جدّية تلك المواقف الرئيس الجديد على اعتماده من قبل الجميع، المحافظين قبل الإصلاحيين، صاحب «المفتاح» الذي يجوز له فتح أبواب موصدة وشق مسالك مغلقة (رفع الفيتو الفرنسي عن مشاركة روحاني في جنيف 2 علامة احتمالات تحوّل في علاقة الغرب مع إيران).

لكن بغض النظر عن شخص الرئيس المنتخب، فإن نتائج الانتخابات تعكس اجتياحا إصلاحيا كبيرا انتخب روحاني رئيسا من الدورة الأولى. الرسالة صاعقة للمرشد والحرس الثوري والمعسكر المحافظ. مزاج إيران يميل بقوة نحو الاعتدال والتصالح مع العالم بما يمثل نكسة مقلقة لتشدد المتشددين ومدارسهم. حسن روحاني، رئيس انتخبه الإصلاحيون، سيكون أكثر «هضما»، في تعامله مع المرشد، من رفسنجاني أو خاتمي، وقبل ذلك كروبي وموسوي.