ياسمين آذار المخضب بالدم 30+31

محمد فاروق الإمام

ياسمين آذار المخضب بالدم

محمد فاروق الإمام

[email protected]

(الحلقة 30)

بداية الصدام بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام البعث الحاكم

انتفاضة حماة الشعبية واعتصام الجامع الأموي بدمشق

وزير الداخلية (فهمي العاشوري) من إذاعة دمشق: (لو وقفت الكعبة في طريقنا لهدمناها).

في عام 1954م نشأت في صفوف جماعة الإخوان المسلمين مدرسة جديدة الطرح والتوجه تميزت بالنزق وفورة الشباب، تبنته مجموعة تمردت على الجماعة وشقت طريقاً خاصاً بها، ونمت هذه المدرسة ككرة الثلج وكثر أتباعها، حتى باتت عبئاً يصعب على الجماعة لجمها أو وقف أنشطتها، وبالتالي أخفقت قيادة الجماعة في التحكم بتصرفاتهم أو وقفهم عند حدهم، أو حتى معرفة ما ينون وما يبيتون من عمل، ولم يكن أمامها من حل سوى فصل أعضاء هذه المدرسة الذين تعرفت على بعضهم، وبقيت مجموعة لم تتعرف عليهم بقوا في ضمن صفوف الجماعة. 

وفوجئت الجماعة كما فوجئ الجميع بانتفاضة حماة الشعبية في نيسان عام 1964م والتي استمرت نحو تسعة وعشرين يوماً، وكان يقود هذه الانتفاضة (الشيخ مروان حديد).

بدأت الانتفاضة على شكل إضراب طلابي قاده مروان حديد المسؤول عن التنظيم الطلابي للإخوان في ثانوية عثمان الحوراني إحدى أكبر ثانويات مدينة حماة. وتحول الإضراب إلى عصيان شارك فيه طلاب ناصريون واشتراكيون، وهم من خصوم الإخوان التقليديين.   واستمر – كما قلنا – 29 يوماً. واعتصمت مجموعة مروان حديد بجامع السلطان الكبير واشتبكت مع وحدات من الجيش الذي خف لإنهاء العصيان.

يقول المراقبون المحايدون عن الدوافع التي حدت بمروان حديد ومجموعته من القيام بهذه الانتفاضة أن العوامل الإيديولوجية لعبت دوراً كبيراً في قيادة شباب الإخوان المتطرفين للعصيان، فقد أصيب الشباب بالذعر من جراء طرح يسار البعث في مؤتمريه القومي السادس والقطري الأول عام 1963م لبرنامج اقتصادي واجتماعي وثقافي راديكالي، وتخوفوا بشكل خاص أن يؤدي تطبيق هذا البرنامج إلى إلغاء مادة التربية الإسلامية والأوقاف وقانون الأحوال الشخصية. وساهمت مقالات زكي الأرسوزي التي كان يؤكد فيها مفاهيمه التقليدية التي طرحها منذ الأربعينيات عن أن (الجاهلية هي العصر الذهبي للأمة العربية) في استفزاز الشباب الإخواني.

لقد أبرز هذا العصيان نجاح العناصر الراديكالية في الجماعة في إنضاج مدرستهم، ليطفو على السطح تنظيم جديد حمل اسم (كتائب محمد)، وهو سلف تنظيم (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين) لاحقاً.

لم تكن قيادة الجماعة – كما قلنا – على علم مسبق بما خطط له مروان حديد، وفوجئت بالعصيان كما فوجئ به الآخرون، ولذلك بقي العصيان محلياً ولم يخرج عن حدود مدينة حماة، بالرغم من استمراره 29 يوماً، فقد تكتمت عليه وسائل الإعلام الرسمية الوحيدة التي يمتلكها النظام، كما منعت أجهزة الأمن الدخول أو الخروج من حماة أثناء العصيان. واتخذت الجماعة قراراً ملزماً بعدم التحرك أو الإقدام على أي عمل طائش لا تحمد عواقبه، مما جعل العصيان يمنى بفشل ذريع، لتؤكد الجماعة مجدداً أنها لا تؤمن بالوصول إلى السلطة بغير الوسائل الديمقراطية والسلمية ولو كلفها ذلك خمسمائة عام من الانتظار. ويؤثر عن الأستاذ عصام العطار قوله: (إن مثقفاً لديه أهم من كتيبة دبابات).

وأخفق عصيان مروان حديد الذي جوبه بالحديد والنار وقصف جامع السلطان الذي اعتصم به وتم اعتقاله وتصفية عدد كبير من أتباعه.

ولم يمر هذا الأمر دون تحرك جماهيري قاده الشيخ حسن حبنكة في حي الميدان الوطني، والشيخ أحمد الإمام (الشيخ المجهول) في جامع بني أمية حيث خطب في المصلين المحتشدين خطبة نارية ضمنها فتواه بهدر دم رأس النظام (أمين الحافظ) الذي تطاول على بيوت الله (كما جاء في فتواه التي أهدرت دمه).

اعتصام المسجد الأموي بدمشق

احتدمت الخلافات داخل حزب البعث بين مؤيد للفريق أمين الحافظ ومؤيد للواء صلاح جديد والذي اعتبر صراعاً ما بين يسار الحزب ويمينه.

ولكن الفريق أمين الحافظ وتسرعه بمبادرة غير محسوبة لدفع عدد من الضباط المحسوبين عليه لاعتقال المقدم مصطفى طلاس قائد اللواء الخامس في حمص، والذي كان الشرارة للاستعجال بالقيام بحركة مضادة في 23 شباط عام 1966م، وقيام مجموعة من الضباط المناوئين لأمين الحافظ بهجوم على القصر الجمهوري واعتقال أمين الحافظ بعد معركة دامية بين المهاجمين وحرس القصر، وأحكم هؤلاء سيطرتهم على دمشق.

تبنى رجال حركة 23 شباط خطاباً يسارياً متطرفاً يمكن أن يوصف بيسار اليسار، وهذا أرعب المجتمع السوري المحافظ، مما أدى إلى شبه اعتصام مدني عفوي في الجامع الأموي بدمشق، قوبل باقتحام المدرعات العسكرية لحرم الجامع والفتك بالمعتصمين المدنيين العزل، في حين أعلن وزير الداخلية (فهمي العاشوري) من إذاعة دمشق أنه (لو وقفت الكعبة في طريقنا لهدمناها).

ولم يكن للجماعة أية علاقة أو معرفة أو علم بهذا الاعتصام، كما كان الحال في اعتصام حماة. فقد تم هذا العصيان بدعوة من الشيخ حسن حبنكة أحد كبار علماء دمشق. ومع هذا فقد قام البعثيون الجدد بحملة اعتقالات واسعة شملت كافة القيادات السياسية المعارضة، وطالت حملتهم (جميع أفراد الصف الأول في جماعة الإخوان المسلمين).. ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967م.

وما لبثت السلطة أن قامت باعتقال من أفرجت عنهم إثر تشكيل المعارضة الناصرية والقومية (الجبهة الوطنية التقدمية) عام 1968م، مع أن الإخوان لم يكونوا طرفاً فيها رغم دعوتهم للمشاركة.

أصبح صلاح جديد شبحاً مرعباً لجميع أطياف المعارضة يمينها ويسارها ووسطها.. مما جعل هؤلاء يقفون إلى جانب وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد في صراعه مع صلاح جديد بما عرف بـ(أزمة الحزب) عام 1969-1970م، دون تخطيط أو اتفاق مسبق.

(الحلقة 31)

الطليعة المقاتلة والصدام مع النظام

يرتبط تشكيل هذه الطليعة قيادة وتوجيهاً وتنظيراً بمروان حديد المهندس الزراعي والحائز على ليسانس بالفلسفة. وقد تشكل هذا التنظيم في أوائل عام 1975م، وتعارف كوادره فيما بينهم على التسمي باسم (الطليعة المقاتلة لحزب الله). وقد ولدت فكرة تشكيل هذا التنظيم الطليعي من خلال أحداث الدستور عام 1973م، والتي حركها مركز حماة بقيادة مروان حديد والشيخ سعيد  حوى، ومثّل هذا التحرك أخطر اختبار لقوة مجموعة حديد المسيطرة على مركز حماة وعناصره في المحافظات الأخرى، إذ تمكنت من القيام بإضراب عام في حماة، شارك فيه الاشتراكيون (جماعة أكرم الحوراني) والناصريون (جماعة محمد الجراح)، وتحول الإضراب إلى أحداث شغب ضد مراكز حزب البعث الحاكم والمنظمات الشعبية التابعة له، وبعض المقاهي وأماكن بيع الخمور.

طوق الرئيس حافظ الأسد هذا الانفلات الأمني بإرضائه للإسلاميين بأن طلب من مجلس الشعب المؤقت أن ينص مشروع الدستور على أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام، وأدى هذا إلى فتح الباب أمام إمكانية مشاركة بعض الشخصيات الإخوانية التقليدية في انتخابات مجلس الشعب التي تمت في أيار عام 1973م، والتي قابلها أنصار المدرسة الراديكالية بالنقد الشديد. في حين قامت السلطات باعتقال عدد من الإخوان المسلمين والناصريين والاشتراكيين الذين شاركوا بالإضراب العام في حماة، إلا أنه تم الإفراج عن معظمهم بعد عشرة أشهر باستثناء مجموعة محدودة على رأسها الشيخ سعيد حوى، أحد أبرز الناشطين في ذلك الإضراب، ولم يطلق سراحه إلا عام 1978م بعد حبس دام خمس سنوات في سجن المزة. أما مروان حديد نفسه فقد توارى عن الأنظار إلى حين اعتقاله في 30 حزيران عام 1975م بعد اشتباك مع رجال الأمن في دمشق.

خلال تواري مروان حديد عن الأنظار وجه رسالة مطولة إلى العلماء والشخصيات والجماعات الإسلامية يطلب فيها منهم إعلان الجهاد المسلح ضد السلطة، واعتباره فرض عين على كل مسلم ومسلمة. وأعلن تحديه للقيادة الإخوانية التقليدية التي حولت الجماعة – كما جاء في رسالته – إلى أشبه بجماعات التبليغ والدعوة.

حاولت قيادة الجماعة تطويق مجموعة حديد ففصلته كما فصلت عدداً من المرتبطين معه مثل: (عبد الستار الزعيم، وحسني عابو، وعدنان عقلة، وزهير زقلوطة) وغيرهم، وهددت بفصل كل عضو يثبت استمرار صلته بمروان حديد.

وعلى إثر وفاة مروان حديد في مستشفى سجن المزة عام 1976م انتقلت قيادة هذه المجموعة إلى عبد الستار الزعيم، وقامت هذه المجموعة بأول عملياتها ضد أجهزة الأمن في 8 شباط عام 1976م فاغتالت الرائد (محمد غرة) رئيس فرع المخابرات العسكرية في حماة.

ومن هنا تم لاحقاً اعتبار هذه العملية فاتحة أعمال العنف والعنف المضاد في سورية، وراحت مجموعة مروان حديد تنفذ عملياتها ضد أجهزة الأمن السورية دون الإعلان عن اسمها إلا بعد ثلاث سنوات ونيف، عندما نفذت عملية (مدرسة المدفعية) في 16 حزيران عام 1979م في مدينة حلب، مفصحة عن تبنيها للعملية تحت اسم (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين).

جماعة الإخوان المسلمين

ترفض الانجرار إلى العمل المسلح

لقد كانت مرامي جماعة مروان حديد من تغيير اسمها من (الطليعة المقاتلة لحزب الله) إلى (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين) جر الجماعة إلى الانخراط في العمل المسلح الذي ترفضه بشدة، وتنأى بنفسها عنه، ويؤثر عن مروان حديد قوله: (لئن أخرجني الإخوان من الباب فسأدخل من الشباك وسأجرهم إلى الجهاد جرا).

لم تتصور قيادة التنظيم العام أن نشاط الطليعة لن يكون أكثر من ردود أفعال يمكن أن يوصف بنزق الشباب، يمكن احتواؤه والسيطرة عليه وتوجهه بما ينسجم مع السياسة الإخوانية التي تنبذ العنف وترفض أي مواجهة مع السلطة، وهو خط سيرها العام الذي اعتمدته في كل صراع بينها وبين خصومها منذ نشأتها.

ومن هذه المنطلقات أيدت حافظ الأسد في الاستفتاء المقرر إجراؤه في 8 شباط 1978م مقابل الإفراج عن معتقليها الذين كانوا دائماً ضحية حماقة أبناء المدرسة الراديكالية المروانية.

وبالفعل أفرج عن الشيخ سعيد حوى عضو مجلس شورى الجماعة في أواخر كانون الثاني عام 1978م، وفتحت السلطة حواراً مع المعتقلين الإخوانيين، بهدف الوصول إلى مصالحة مع السلطة.

وعندما شعرت الطليعة بحدوث هذه المصالحة أقدمت على اغتيال الدكتور (إبراهيم نعامة) نقيب أطباء الأسنان في 18 آذار عام 1977م، واعتبرت السلطة أن هذا الاغتيال بمثابة فسخ لاتفاق المصالحة، وهذه نقطة تسجل على السلطة كونها استجابت لأهداف الطليعة بنزق ودون تفكير، فأوقفت السلطة كل حوار مع الجماعة، وأقدمت على اعتقالات واسعة وعشوائية في صفوف الإسلاميين.

ويبدو أن رئيس الأمن القومي السوري الذي تولى إدارة ملف التسوية بين جماعة الإخوان والسلطة، لم يكن يدرك طبيعة تنظيم الطليعة الذي كان يخطط لاستجرار الجماعة إلى العمل المسلح الذي ترفضه جملة وتفصيلا.

من جهة أخرى فتح المراقب العام عدنان سعد الدين حواراً مع عبد الستار الزعيم بهدف احتوائه، ولكن الزعيم كان ماضياً بمشروعه إلى النهاية، والذي يتلخص في احتواء الجماعة وتحييد القيادة التقليدية وزج كوادرها في العمليات المسلحة، وقد نجح في جر البعض من الشباب إلى صفوف طليعته.

لقد سبق لقيادة الطليعة أن تلقت تدريباً عسكرياً في قاعدة طليعية تحت راية حركة فتح، متحدية قرار القيادة القطرية الإخوانية بعدم المشاركة في هذه القاعدة، ونسجت علاقات وثيقة ومباشرة مع الأجهزة الأمنية لمنظمة فتح، التي استفحل العداء بينها وبين النظام السوري جراء تدخل سورية في لبنان عام 1976م، مع اعتقاد الطليعة بأن منظمة فتح ليست سوى الجناح العسكري للإخوان المسلمين الفلسطينيين، بحكم انحدار معظم قادتها من الإخوان. وقد رسخت أجهزة الأمن في فتح هذا الاعتقاد في أذهان شباب الطليعة.

وخلاصة القول فإن قيادة الجماعة والأجهزة الأمنية السورية لم تدرك طبيعة التنظيم الجديد وإستراتيجيته النظرية والصدامية.

ولم تكن ظاهرة المدرسة الراديكالية مقصورة على الجماعة في سورية، فقد ظهرت في التنظيم الأم في مصر قبل ذلك، وكان كتاب سيد قطب (معالم في الطريق) الذي صدر عام 1965م يعبر بشكل واضح عن نفس النهج. وقد لعب هذا الكتاب دوراً خطيراً في تشويش عقول الشباب ودفعهم للتمرد على القيادة التقليدية للجماعة، مما دفع المرشد العام الثاني (حسن الهضيبي) إلى تدوين كتابه (دعاة لا قضاة) في معتقله عام 1969م، للرد على كتاب سيد قطب وخطورة طرح فكره الجديد. الذي كانت تنظر إليه الطليعة على أنه كتاب إصلاحي يفرغ الجماعة من مضمونها الجهادي ويحولها أشبه ما تكون بجماعات التبليغ والدعوة.

يتبع