تحولات الثوريين

محمد السيد

قال تعالى : (( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون )) البقرة _ 9 _

كيف نمحو ذاكرتنا بخداع الكلمات المزيفة المارقة ، كي ننسى أننا أُطعمنا جوزاً فارغاً ، وأننا خضعنا لغسيل الأدمغة كي نرى الهزائم الماثلة بين أيدينا انتصارات تزهو بها سرادقات امتلأت بجثث الأحرار .. ودعاة منافقون على أبواب تلك السرادقات يصيحون : أن تلكم الحياة ، أن تلكم المنعة ، أن تلكم الحرية ، أن تلكم الممانعة.. أن ذلكم البناء والتحرر والتطوير ..!! فهلموا وأعطوا أصواتكم الآن لساكن السرادق ، فلكل جثة منكم هِبَةٌ ، هي قبر في وطن غادر القلب ، مذ كان الموت يسرق الأحرار ، على يد الأشرار ، الغاشّين للرعية ، المسيرين للكرنفالات المهزلة (( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون )) ، إنهم الذين اختاروا لأنفسهم اسماً قبيحاً موسوماً بالثوريين المتقلبين مع هوى أنفسهم ، وأمزجة وقتهم ، وكان السكوت على تخريبهم فتنة نزلت بالجميع ، والله تعالى جل شأنه يقول : (( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )) ، وهل بعد الهرج والمرج الذي أشاعه مغتصبو الحكم من الثوريين من فتنة ؟! لقد بلغ الظلم بهؤلاء الحد الأعلى وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : (( ... وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم )) رواه مسلم ، وهؤلاء قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن شر الرعاء الحطمة )) متفق عليه .

والرعاء : جمع راعٍ ، والحطمة : الظالم القاسي ؛ الذي لا يرحم رعيته ، إذ أوصل هؤلاء الثوريون الناس إلى أن يرددوا مع الشاعر المجيد قوله :

أنا في عصور الموت والأحقــ     ـاد والأغلال والآلام والآهـات

أنا أرخص الأشياء إنسان ومـ      ـا الإنسان ؟ ماتت عنده كلماتي

فالثورة والثوار يركبون الظهور ، وكل يوم عندهم لافتة جديدة ، فهم ليسوا إلا أفاقين ، تقودهم الأمواج مع هواها .. فلا يعاندونها ؛ لأنهم يعلمون أن هواها هو مفتاح الأمان ، الذي يفتح لهم أبواب البقاء راكبين للظهور، ويصنعون لكل وقت وجهاً من ضلال ، بصره متوقف عند الكرسي ، لا يحيد عنه ، فهو في سبيله كان جلاداً ، ومافيوياً ، وقاتلاً ، ولصاً ، ومستبداً .

وكما ضربنا في الحلقة السابقة المثل بمصر ، نأتي اليوم بالمثل من سورية ؛ حيث كان فعلهم في شعبها أنكى ، وللجراح أقهر وأكثر رهقاً ، وإني هنا أضع نقطة وأبدأ من أول السطر لأقول : 

جاءتنا يوم الثامن من آذار قامات قميئة ، حملتها دبابات دُفع ثمنها من دم الشعب .. من قُوْتِهِ ؛ كي يحمي بها حدوده .. لكنها في الثامن من آذار أغارت عليه ؛ قاتلةً آماله ، مكسرةً سيوفه ، باعثةً فيه فتنةً لم يزل أوارها يزداد اشتعالاً حتى اللحظة ، فاتحة في جوانب حياته كل الجروح ، وعبأتها ملحاً مرّاً ، جعل من القتل منهاجاً ، ومن الإقصاء برنامجاً يومياً ، ومن التشريد والنفي وهدم كل الحقوق نبراساً عملياً .

ثلاث ثورات في ثورة : الثامن من آذار 1963، وشباط 1966 ، وتشرين الثاني 1970

في الأولى .. كان قانون الطوارئ والأحكام العرفية ، وفتحت السجون أبوابها ، والمنافي وسعت منافذها ،

والحرس القومي الذي أنشأوه عاث في الأرض السورية فساداً ؛ أمموا الصناعة الناجحة ، وعمموا الفقر ، ألغوا الحياة السياسية في البلد ، وبدأت ملامح الطائفية تجوب السهوب ، وتغلق أبواب العيش على الناس ، وتضيق الخيارات ، التي كانت من قبل تعمل بحرية ، وأربعون عاماً من الضرب في جدار الإسلام والإخوان إرضاءً لعيون خِلّانهم من أعداء الأمة .

ولما كانت قلوب الرفاق الثوريين تحمل طموحات متصارعة انقلب بعضهم على بعض في ثورة ثانية متحولة ، ليبرر هذا البعض ثورتهم على رفاقهم بحجة أن الرفاق السابقين أطفأوا أوار الثورة ، وهم يريدون إشعالها حربا ًعلى الإسلام والمسلمين .. زيادة في التضييق على الحرية ، وإمعاناً في التصفية والإقصاء ، وإعداداً للهزائم القادمة التي أُعِدّوا لتنفيذها ؛ ففي الخامس من حزيران فتحوا جبهة الجولان الحصينة لجيش الصهاينة ، وأخلوا لهم القنيطرة ، والقرى والأرياف ، قبل وصولهم بست وثلاثين ساعة ، وأعلنوا انسحاباً كيفياً بلا قتال .. إلا من صمود فردي لبعض الضباط الإسلاميين الوطنيين غير المنتمين للثوريين ، وقالوا : انتصرنا ، إذ لم يستطع الصهاينة أن يسقطوا حكم الثورة في دمشق ، أما الأرض الجولانية الخصبة التي احتلت فهي لا تساوي نجمة من النجوم التي تلمع على كثف أحدهم . وهكذا اشتعلت الثورة ، و لمع أوارها ، وارتاحت قلوب الرفاق الثوريين بتأدية المهمة ، وذلك بتسليم الجولان ثمناً لبقاء الكرسي .. فهم قد عبروا عن ذلك بألسنتهم ولم نقله عنهم ..

وكانت ثالثة الأثافي ، والطامة العامة الكبرى متمثلة بتحولات ( تصحيحية ) السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 ، التي أقصت كل الرفاق السابقين ، إذ اعتلى الجنرال المترفع من نقيب إلى فريق أول خلال سبع سنوات خاض فيها حرباً في الجولان ، خسرها خسراناً مبيناً .. وكانت قفزة الرتب التي ذكرنا جائزة الهزيمة ، بدلاً من التنحي والمحاكمة ، وهنا نشطت معارك الكلام ، وبيع الأوهام للشعب ، وامتلأت أرجاء الوطن السوري بشعارات الثوار ، وصور الزعيم الملهم ، الذي أوصله إلهامه إلى تسليم الجولان ، ثم أتبعها بأربعين قرية جديدة، سلمها للصهاينة ، نتيجة حرب التحرير عام 1973 ، وثنى بإلغاء حرب التحرير الشعبية ، و جعل السلام مع يهود خياراً استراتيجياً ، يقتضي ذبحاً لكل حرّ لا يعجبه الشعار الجديد ، وهدماً لكل كيان حزبي أو سياسي ، لا يسكت على ضيم أو خيانة ، وكان هذا التصحيح هو الأعتى والأشر ، فأكمل صفحة الثورات بسطور عاتية من القتل والهدم والنهب ، وبناء المؤسسات الصورية ، وانتقالاً من أم الهزائم " حرب تشرين التحريرية " التي أضافت للجولان المحتل أربعين قرية جديدة محتلة ، مرّت حركة التصحيح بمصانع البلد .. فجعلتها مقعدة ، وعرجت على الشوارع فجعلتها يباباً ، و على التعليم فجعلته فجيعة ، وعلى الاقتصاد فنكلت بمقوماته حتى أصبح عاجزاً لا يقوى على السير ، وعممت الفقر والبطالة بشهادة من تقاريرهم المشتركة مع الأمم المتحدة ، وحاولت _ وما تزال _ قمع الإسلاميين وتصفيتهم وإقصائهم ونفيهم دون هوادة؛ بحيث أصبحت كل الملفات يمكن فتحها ، إلا ملف الإخوان فهو مغلق على دخل ؛ لأن في ذلك إرضاء لكيان الصهاينة ، الذي كان حريصاً على بقاء زمرة ( التصحيح ) العائلية ، التي تقوم بتنفيذ برامجه ؛ بتشويه الإسلام ، والتفرد بالحكم وأدواته ، وتهديم كل عناصر القوة في سورية .. إلى أن انتقلت إلى التوريث؛ حيث جاء الوريث عام 2000 يستجدي البقاء بشعارات براقة من التغيير ، ثم لمّا استقر به المقام بعد سبع سنوات .. كان التجديد بكرنفالات ، ولا كرنفالات الستينات من القرن الماضي .. ( فَشْراً ) ونفاقاً ومبالغات ، وحرب شعارات ومسيرات مليونية مفبركة ،ونجاح في الاستفتاء لا يختلف أبداً عن مهرجانات " شاوشيشكو " الهالك ، وكرنفالات حكام منظومة الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي .. وعلى الوطن والشعب والأمة السلام ، ولكن الله لهم بالمرصاد.. ثم الشعب لهم بالمرصاد : (( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )).