القياس في القرآن منهج وأسلوب حياة

د. عبد الرحمن الحطيبات

العمليات العقلية في القرآن الكريم:

القياس في القرآن منهج  وأسلوب حياة

د. عبد الرحمن الحطيبات

مشرف اللغة العربية

مدارس الجامعة الملك فهد للبترول –  الظهران

[email protected]

نبقى مع كتاب الله عز وجل لنؤكد أهمية تدبره والتفكر في معانيه؛ لاستثارة العمليات العقلية المختلفة ومنها القياس منهجاً علمياً للوصول إلى الحقائق والانتقال من الحقيقة الأكبر إلى الحقيقة الأصغر,  وأسلوب حياة نقيس الخير بالخير؛ فنعمل به, ونقيس الشر  بالشر؛ فنتهى عنه.  ونقيس الطيب بالطيب ..,  ونقيس الخبيث بالخبيث ؛  وهذا النهج كان له الأثر الأكبر في صناعة وصياغة منـاهج الفكر الإسلامي المتميز بالأصالة والإبداع.

إن عملية القياس Syllogism تشكل مبحثاً هاماً من العمليات العقلية التي تتجلى فيها عبقرية الفكر الإنساني في إدراك الأشياء والحقائق بصورة كلية, وقد بحث كثير من الفلاسفة والمفكرين في هذه الظاهرة الإنسانية وخصصوا لها جزءاً كبيراً من أبحاثهم منذ الفيلسوف  اليوناني أرسطو، ومن جاء بعده من المفكرين وقد تناولوه بطرق مختلفة وأطلقوا عليه مفاهيم عديدة منها  نظرية القياس, والمنهج القياسي والطريقة الكلية ....وغير ذلك

ويدور مفهوم عملية القياس حول  البدء الكل والانتقال إلى الجزء, ومن تناول القاعدة ، ثم إتباعها بالأمثلة والشواهد المؤكدة لها الموضحة لمعناها ، أو ننتقل من الحقيقة الكبرى  إلى الحقائق الجزئية والانتقال من العام إلى الخاص.

تقوم هذه العملية  على أساس جوهري يتعلق بالقدرة على الاستدلال الذي يقوم على الانتقال من الحقيقة العامة إلى الحقيقة الجزئية ومن المقدمات إلى النتائج  بشكل يزداد وضوحاً, وأكثر فهماً  كما أنه يتعلق بتقويم البراهين، وترجمة المقدمات، ومقارنة الاستنتاجات المحتملة لإيجاد التوافق بينها. أو بمعنى آخر، هو عملية ربط أو تحويل للمعلومات أو المشكلات المتوفرة أمامك في الموقف الحالي،إلى معلومات أو مواقف مشابهة موجودة ضمن خبراتك السابقة، وقياس المعلومات الحالية على المعلومات السابقة للوصول إلى استنتاجات أو حلول ممكنة للمشكلة أو الموقف الذي تواجهه

ويعرف القياس لغـــة بأنه التقدير والمساواة وفي اصطلاح الفقهاء : حمل فرع على أصل في حكم لعلة جامعة بينهما أو  إلحاق واقعة لا نصّ على حكمها ، بواقعة ورد النّصُّ بحكمها ، في الحكم لاشتراكهما في علّة ذلك الحكم " . وقد لخص الإمام الشافعي-رحمه الله تعالى- حقيقة القياس و كيفيّته في قوله : " كلّ حكم لله ورسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنّه حُكِم به ؛ لمعنىً من المعاني ، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حكمٍ - : حُكِمَ فيها حُكمَ النّازلة المحكوم فيها ، إذا كانت في معناها " ( الرسالة : 512 ) .

وموضوعه طلب أحكام الفروع المسكوت عنها، من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها لِيُلحق كلّ فرع بأصله " قاله الروياني .

ومعنى ذلك أنه إذا وردت واقعة لم يرد في حكمها نص ولا إجماع ألحقت بواقعة أخرى ثبت حكمها بنص و إجماع لاشتراك الواقعتين في علة الحكم ,ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين, فإنه إما استدلال بمعين علي معين أو بمعين على عام أو بعام على معين أو بعام على عام فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال.

فالاستدلال بالمعين على المعين: هو الاستدلال بالملزوم على لازمه فكل ملزوم دليل على لازمه فإن كان التلازم بين الجانبين كان كل منهما دليل على الآخر ومدلولا له وهذا النوع ثلاثة أقسام أحدهما الاستدلال بالمؤثر على الأثر والثاني الاستدلال بالأثر على المؤثر والثالث الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق والثاني كالاستدلال بالحريق على النار والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان ومدار ذلك كله على التلازم فالتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر وقياس الفرق هو الاستدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه, فلو جاز التفريق بين المتماثلين؛ لانسدت طرق الاستدلال وغلقت أبوابه.

قالوا: وأما الاستدلال بالمعين على العام, فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين إذ لو جاز الفرق؛ لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد, و الدليل على ذلك من كتاب الله  قول الله تعالى { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان }سورة الشورى : الآية 17 . والميزان ما توزن به الأمور ويقاس به بينها,  و قوله تعالى { كما بدأنا أول خلق نعيده }سورة الأنبياء : الآية 104 . فشبه الله تعالى إعادة الخلق بابتدائه , و قوله تعالى{ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور }سورة فاطر: الآية9 . فشبه إحياء الأموات بإحياء الأرض وهذا هو القياس.

وقد أورد القرآن الكريم كثيراً من الآيات القرآنية في موضوع القياس وبشكل واسع النطاق, والتي تمثل ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل في المنهج القياسي أو ما أسميته عملية القياس بوصفها واحدة من العمليات العقلية: ومن أمثلة ذلك قوله عز وجل : } أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ   { سورة الإسراء  آية  99. وقوله عز وجل :  } أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ { سورة يس آية 81 . ففي هاتين الآتيين الكريمتين إثبات حكم الشيء بناء على ثبوته لنظيره بشكل آكد وأقوى لأن من خلق الشيء يكون قادراً على خلق مثله أو أقل منه ([1]) .

وقوله عز وجل } لَخَلْقُ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ { سورة غافر آية 57 . وقوله عز وجل : } وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ! قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ   ! الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ !أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ  !إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ { سورة يس آية 78- 83 . فالذي يخلق من العدم من باب أولى قادر على الإعادة والذي يخلق الشيء من ضده  كالنار من الشجر الأخضر ، قادر على خلقه من عناصره ([2]) . وقوله عز وجل : } أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  { سورة الأحقاف آية 32  . } وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ  { سورة الروم آية 27

من أمثلة ذلك في الرد على النصارى قوله عز وجل : } إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{ سورة آل عمران آية 59  فإذا كان الخلق من غير أب مسوغاً لاتخاذ عيسى إلهاً فأولى بآدم المخلوق من غير أب ولا أم أن يكون هو الآخر إلهاً ، لكن لما لم يكن آدم إلهاً باعترافكم فمن باب أولى أن لا يكون عيسى إلهاً ([3]).

واستخـدم القرآن الكريم قيـاس الخلف ، وهو إثبـات المطلوب بإبطـال نقيضه وذلك في قوله عز وجـل : } لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ { سورة الأنبياء آية 22. ويسمى هذا الدليل برهـان التمـانع أيضاً ، ومن أمثلته أيضاً في القرآن الكريم : } وَلَـوْ كَانَ مِنْ عِنْـدِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَـدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا {  سورة النساء آية 82  . ففي الآية الأولى تعدد الآلهة باطل لأنه يورث الفساد فثبت أن الله عز وجل واحد .وفي الآية الثانية الاختلاف والتناقض باطل لا وجود له في القرآن الكريم فثبت نقيضه وهو أنه محكم معجز فهو لذلك كلام الله عز وجل ([4]).

واستخـدم القرآن الكريم قيـاس الغائب على الشاهد الذي يسمى أيضاً قياس التمثيل ([5]) ، ولكن الفرق كبير جداً بين استخدام القرآن الكريم له ، واستخدام المتكلمين ، فالقرآن الكريم يستخدمه لإثبات قدرة الله عز وجل بأمور مشاهدة للإنسان أو معلومة له بشكل قطعي بدهي لا تنكره العقول ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :  } وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ....       إلى قوله تعالى  إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ { سورة يس الآيات 78 83 . وهي الآيات التي ذكرناها قبل قليل مثالاً لقياس الأولى .

فالقرآن الكريم يقيس الغائب هنا وهو الإعادة بعد الموت على أمور معلومة قطعاً للإنسان وهو أنه وجد من لا شيء بعد أن لم يكن أو على شيء مشاهد محسوس يراه الإنسـان بعينـه وهو استخـراج الحـار من الشجر الأخضر الرطب أي استخراج الشيء من ضده ([6]) .

ومثل ذلك قوله عز وجل : } وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِـعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَـا الْمَـاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّـذِي أَحْيَـاهَا لَمُحْيِي الْمَـوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُـلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  {سورة فصلت آية 39. فقياس الغائب هنا وهو إحياء الموتى على أمر مشاهد محسوس لا يشك فيه عاقل وهو حياة الأرض بعد جفافها ويبسها .

ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم واتصف بصفتهم, وقد نبه هو سبحانه عباده على نفس هذا الاستدلال وتعدية هذا الخصوص إلى العموم كما قال تعالى عقيب أخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة, ومثل هذا قوله تعالى عقيب أخباره عن عقوبة قوم عاد حين رأوا العارض في السماء فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقال تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} ثم قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فتأمل قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} كيف تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم وإنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسلنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين وأن هذا محض عدل الله بين عباده.
ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله.

وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء أكان السير الحسي على الأقدام والدواب أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار أو كان اللفظ يعمها وهو الصواب فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يجل بالمخاطبين ما حل بأولئك, ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه؛ لما حصل الاعتبار. وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم فقال تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول لا تليق نسبته إليه سبحانه وقال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أفلا تراه كيف ذكر العقول ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم

      ولأهمية هذا الموضوع نتوقف مع  هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج ، أفتجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ، ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عن أمها} رواه النسائي ؛ ووجه الاستدلال بنص الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قاس دين الله تعالى على دين الآدمي ، ففي أن كلاً منهما يقضي عن الميت بجامع الدين في كل منهما ، وهذا من القياس. ومنه أيضاً  حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ولد لي غلام أسود ، فقال: ( هل لك من إبل)؟ قال: نعم قال: ( ما ألوانها)؟ ، فقال: حمرٌ ، قال: ( هل فيها من أورق)؟ قال: نعم قال: (فأنى ذلك)؟ ، قال: لعله نزعة عرق، قال: ( فلعل ابنك هذا نزعه} رواه البخاري ومسلم . و وجه  الاستدلال بهذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد الرجل إلى القياس، فقد سأله: هل في إبله الحمر من أورق؟  (وهو ما في لونه بياض إلى سواد، وقيل: الذي فيه سواد يميل إلى الغبرة.) فأجابه: نعم، فسأله ما سبب ذلك؟ فأجابه : لعله نزعة عرق ، فنبهه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يقيس حال ولده الأسود بحال الجمل الأورق، في أن كلاً منهما نزعة عرق, وذلك هو القياس.

ومما  ثبت عن صحابة رسول  رضي الله عنهم ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الاشعري رضي الله عنه حيث قال فيه: {الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق} رواه الدار قطني . ومنه: قياس علي رضي الله عنه قتل الجماعة المشتركين في القتل على قطع أيدي الجماعة المشتركين في السرقة.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكم النظير حكم نظيره وحكم الشيء حكم مثله, وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين والجمع بين المختلفين ، والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعاً وقدراً يأبى ذلك ، ولذلك كان الجزاء مماثلاً للعمل من جنسه في الخير والشر فمن ستر مسلماً ستره الله ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة..).


ومن شروط الاستدلال بالقياس حتى يكون الاستدلال بالقياس صحيح لابد من توفر الشروط منها أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص, و أن لا يكون حكم الأصل منسوخاً، فإن كان منسوخاً فلا يصح القياس عليه, و أن نعرف العلة التي بني عليها الحكم في الأصل. فإذا كان غير معقول المعنى بأن كان تعبدياً ، فلا يصح القياس عليه, و أن يكون الفرع مساوياً للأصل في العلة ؛ لأن المقصود تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع، وذلك يقتضي المساواة في العلة. أما إذا اختلفت العلة فلا يصح القياس  وأن يكون الفرع قد ثبت الحكم فيه بنص , لأنه لا حاجة للقياس ، فالقياس لا يعتبر إلا عند عدم النص، ومن ثم قيل: ( لا قياس مع النص) .

مما سبق نخلص للقول إلى أن الله  عز وجل قد أرشد الله تعالى عباده إليه في كثير من المواضع من كتابه  فقاس لهم النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان,  وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها , وقاس لهم حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات , وقاس لهم  الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السموات والأرض وجعله  لهم من قياس الأولى كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى وقاس لهم  الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم وضرب  لهم الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة وكلها أقيسة عقلية ينبه بها عباده على أن حكم الشيء حكم مثله فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به  ليعقلها العاقلون وليعلمها العالمون , وليعمل بها أولياؤه وصفوته من خلقه قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} العنكبوت:43 ؛ وليسعدوا بذلك  في الدنيا والآخرة.

قائمة المراجع

-الإمام آبي إسحاق الشيرازيزي.  اللمع في أصول الفقه. تحقيق، د. على العميريني، دار البخاري للنشر والتوزيع . بريده 1407هـ.

- سعيد إسماعيل صيني، قواعد أساسية في البحث العلمي، دار النهضة العربية، لبنان.

- كارل بوير، ترجمة د. ماهر عبد القادر محمد، منطق الكشف العلمي، دار النهضة العربية.

- د. عبد الفتاح أحمد الفاوي، د. مصطفى حلمي، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، مصر، سنة 1999،

- المجمع العلمي الإسلامي، المنطق ومناهج البحث، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، لبنان، سنة 1991،

- د. محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة، مصر، سنة 1966.

- ماهر عبد القادر محمد، المنطق ومناهج البحث، دار النهضة العربية، لبنان، سنة 1985.

- د. محمد محمد قاسم، المدخل إلى مناهج البحث العلمي، دار النهضة العربية، لبنان، سنة 1999.

- سعيد إسماعيل صيني، قواعد أساسية في البحث العلمي، دار النهضة العربية، لبنان.

-   شاكر بيك الحنبلي.  أصول الفقه الإسلامي.. المكتبة المكية. مكة المكرمة. 1423-2002م

-       كارل بوير، ترجمة د. ماهر عبد القادر محمد، منطق الكشف العلمي، دار النهضة العربية.

-       عبدالوهاب خلاف . علم أصول الفقه.. دار القلم للنشر، الكويت. 1972م.

- د. محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة، مصر، سنة 1966.

- ماهر عبد القادر محمد، المنطق ومناهج البحث، دار النهضة العربية، لبنان، سنة 1985.

-       د.محمد سلام مدكور.  أصول الفقه الإسلامي.. دار النهضة العربية. القاهرة 1976م

- د. محمد محمد قاسم، المدخل إلى مناهج البحث العلمي، دار النهضة العربية، لبنان، سنة 1999.

مواقع إلكترونية

-       www.almodarresi.com

-       www.arado.org

-       http://www.al- eman

               

([1]) انظر :  " منهج القرآن في تأسيس اليقين "-  للدكتور محمد السيد الجليند ص 79 . طبعة القاهرة .

([2]) انظر منهج القرآن في تأسيس اليقين للدكتور الجليند ص 81 .

([3]) انظر : مناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر الألمعي ص 77. رسالة دكتوراه - كلية أصول الدين – جامعة الأزهر

([4])  انظر : مناهج الجدل للألمعي ص 78 .

([5]) انظر : معيار العلم للغزالي ص 154 ومناهج الجدل للألمعي ص 78 .

([6]) انظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ص 53 ، 54 / مجلد 2 جزء 4 . ومناهج الجدل للألمعي ص 79 .