اهتدى فان دورن... فمتى يهتدون؟

اهتدى فان دورن... فمتى يهتدون؟

عبد العزيز كحيل

[email protected]

يا له من درس بليغ تلقّنه الأقدار لبعض " المسلمين" المتمردين على الدين والقيم والأخلاق... النائب الهولندي " أرنود فان دورن " يُشهر إسلامه في مفاجأة من العيار الثقيل من شأنها أن تُلقم العلمانيّين الحَجَر وتملأ قلوبهم حسرة وغيظًا، كيف لا والرجل قضى حياته السياسية ضمن اليمين المتطرف، لا شغل له سوى محاربة الإسلام واتهام تعاليمه بكلّ النقائص، ثم يشهر إسلامه على الملأ، ولا يُستبعد أن يُصبح من دعاة الإسلام وخُدّامه المتحمسين الأوفياء، مثل ما حدث مع أكثر واحد، من قساوسة ويهود وشيوعيين ومطربات وغيرهم ، وفي أكثر من مكان في الكرة الأرضية...فالحمد لله على تكثير سواد المسلمين بمثل هؤلاء المهتدين، ولنا أن نتصوّر وقع هذا الخبر على النخبة العلمانية العربية المتطرفة التي لا تألو جهدا في الطعن المباشر والملتوي في دين الله تعالى عبر حملاتها التشويهية والتضليلية المكثفة المتواصلة على من تسمّيهم الإسلاميين الإرهابيين المتزمّتين، وما تُطلق عليه" الإسلام السياسي" الذي يمثّل في نظرها الشرّ المطلق ويهدّد حسب رأيها استقرار العالم كلّه، لا لشيء سوى انعتاقه من الفلسفة الغربية وتمسكه بهدي السماء وما يحويه من

طهر وقيم وأحكام يرفضها أصحاب الشهوات وعبيد الفكر الغربي الوافد وسدنة الاستبداد والفساد.

العدو الألدّ – وليس الخصم فقط – عندهم في مصر هو جماعة الإخوان المسلمين، حتى لو شهد لها العالم كله بالاعتدال، ولو منحها الشعب ثقته مرة تلو مرة، لماذا؟ لأن مرجعيتها هي الإسلام، وهذا لا تهادن فيه العلمانية العربية المتطرفة.

العدوّ هو محمد مرسي ولو جاء به الصندوق الشفّاف وأظهر كفاءة عالية في تسيير شؤون البلاد ولم تُعطَ له فرصة زمنية معقولة ليعمل ويقدم جردا عن إنجازاته، لماذا؟ لأنه إسلامي، وهذه سابقة ما كان لها أن تحدث ، برأي النخب الليبرالية واليسارية المنعزلة عن جماهير الأمة، ولا يجوز بحال أن تستمرّ فضلا عن أن تتكرّر هنا أو هناك في العالم العربي، لذلك لا تتوقف الحرب الإعلامية الظالمة ولا تتورّع عن الكذب الصراح والافتراءات المتكرّرة التي لا نصيب لها من المصداقية، والاصطفاف مع دعاة العنف بل والتحريض على المزيد منه... لا تهمّ الدماء البريئة التي تسيل يوميا ولا الخراب الذي يطال البلاد ولا المجهول الذي قد تسقط فيه، المهمّ عرقلة محمد مرسي لتفشل التجربة و لا تبقى فرصة أمام دعاة الإسلام ليكون لهم دور قيادي في المجتمع حتى لو أرادهم هذا المجتمع واختارهم وزكّاهم، لأن النخبة العلمانية أعلم من الشعب بما يصلح له وما لا يصلح.

ولا يختلف الأمر في تونس، فالعدوّ هناك هو حركة النهضة حتى لو أدهشت العالم كله بأطروحاتها المتّسمة بالاعتدال "المفرط " والتنازل الواسع عن كثير من حقوقها من أجل التوافق السياسي والاجتماعي،  كلّ هذا لا وزن له في نظر العلمانيين المتطرفين لأنه " مجرد تكتيك ونفاق ولعبة مؤقتة" ، ما دليل ذلك؟ إنه تمسّكها بالمرجعية الإسلامية، فهي بالتالي حزب فاشي إرهابي ظلامي لا يجوز أن يكون له وجود إلا في السجون والمعتقلات وساحات الإعدام حتى لو نال الأغلبية في الانتخابات وأثبت قدرته في المعترك السياسي، وقد أحسن وزير الداخلية الفرنسي صنعا إذ نبّه حكومة بلاده إلى ضرورة قطع الطريق على " الأصوليين الإسلاميين " في تونس ومساندة " التنويريين" لأنهم أصدقاء فرنسا وأتباع " العالم الحرّ " ...فتصريحه هذا يفضح حلفاءه وعملاءه بطريقة واضحة مباشرة، لأنه تجاهل للواقع وقفز على مقتضيات الديمقراطية التي يزعمون تقديسها.

هكذا...الإسلام مرفوض، مرفوض، مرفو ض... فهوعندهم عقائدُ خرافية وتقاليد بالية وأحكامٌ مخالفةٌ لمنظومة حقوق الإنسان العالمية، والحاملون لمشروعه منافقون أفّاكون، لا دين لهم ولا خلق، لا همّ لهم سواء تحقيق مآرب شخصية وفئوية باسم الدين، وهم أعداء الدين...

هذا هو منطق تلك الأقلية التي صفعها الشعب في جميع الانتخابات النزيهة التي جرت في البلاد العربية، وعرفوا من خلال الصندوق حجمهم الحقيقي فتمرّدوا على الصندوق وعلى قواعد الديمقراطية وآلياتها التي كانوا يبشّرون بها كأنها دين منزّل، وأصبحوا يلعنونها ليس لأنها غير صالحة لمجتمعاتنا العربية ولكن لأنها فضحت العلمانيين مرة بعد مرة وأظهرت إعراض الشعوب عنهم وعن مشاريعهم التغريبية، فتنكّبوا الطريق، وصاروا دعاة للشمولية والاستبداد بذريعة " حماية " الديمقراطية من الشعوب غير الناضجة، كما صرّح أكثرهم جرأة، ولم يكتفوا بالانخراط في الثورة المضادّة العنيفة في تونس ومصر وفق أجندة خارجية وإقليمية واضحة المعالم بل تنادوا باستباق الأحداث في سورية الثائرة وبذلوا أقصى الجهود لإفشال الثورة والمعارضة وتتابعت زياراتهم إلى دمشق للشدّ من أزر النظام البعثي المجرم المتّهم دوليا بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، واصطفّوا مع الجلاّد وباركوا إبادته لشعبه...لماذا وهم دعاة الحرية وحقوق الإنسان والكرامة والديمقراطية؟ ببساطة لأنه لاح في الأفق أن سورية ما بعد نظام عائلة الأسد لن تكون استثناء وستلتحق بالخيارات الشعبية القائمة، وستنحاز الجماهير للإسلاميين لأنهم هم اليوم في طليعة الثورة لحماية المدنيين ومجابهة الجيش النظامي والشبيحة، والشعب يسمع ويرى ولن ينخدع بتحذيرات غلاة العلمانيين ولا مكرهم إطلاقا.

أظنّ أن النخبة العلمانية قد انخدعت بحلم الرئيس محمد مرسي ورباطة جأش الإخوان، كما انخدعت بصبر حركة النهضة التونسية، فمضت في استفزازاتها أولا ثم تحوّلت إلى العنف اليومي في مصر، وإلى التصعيد المتواصل في تونس، بإشاعة الأكاذيب والفوضى وتضخيم صغائر الأمور والتغاضي عن الإنجازات والإيجابيات مهما كانت كبيرة وبارزة، والاغترار بحلم الحليم خطأ فادح سواء في العلاقات العامة أو في العمل السياسي لأن حبله قصير وعواقبه وخيمة، تماما مثل كلّ أنواع الاغترار، والشعوب تراقب وتميّز، قد تكون مغلوبة على أمرها اليوم بسبب سطوة الفلول هنا وهناك وبسبب القصف الإعلامي المتواصل وتغوّل النظام القديم بواسطة عدّة أجهزة ومؤسسات حيوية كالشرطة والقضاء التي لم يتمّ تطهيرها إلى الآن نظرا لتزاحم الأولويات على أنظمة الثورة، لكن هذه الشعوب ليست غبية ولا هي مصابة بمرض النسيان كما تتوهّم الأوساط العلمانية المتطرّفة، وبيننا وبين  هؤلاء الصندوقُ الشفاف الذي سيتكلّم مرة أخرى رغم مؤامراتهم وعرقلتهم للانتخابات، لعلمهم أنها ستفضحهم لا محالة .

فمتى يهتدي هؤلاء " المسلمون" الرافضون للمشروع الإسلامي ؟ أنأمل أن تتسرّب إليهم الهداية التي ينعم بها الآن المسيحي السابق " فان دورن " فيكفّوا عن الإفساد المادي والمعنوي الذي يتفنّنون فيه؟ أم أن خصومتهم للإسلام تفوق ما كان عليه ذلك الهولندي؟ هل سيستمعون بعد أشواط التمرد والتخريب إلى صوت العقل أم أن إخوانهم في العلمانية والتغريب المنتشرين في البلاد العربية المتحكمين في السياسة والإعلام والمال يمدّونهم في الغيّ بلا هوادة ويُغدقون عليهم الأموال والنصائح لإجهاض الربيع العربي وإخماد جذوة التحرّر لاسترداد الحرية والكرامة والحقوق؟ هل سيعود القوم إلى رشدهم ويسلّمون أن الحلّ الإسلامي مطلب شعبي لأنه يوفّر الحياة الكريمة النظيفة التي تنشدها الجماهير، بينما لا يملكون هم سوى حلول سلطوية جرّبتها الأمة رغم أنفها في ظل الانقلابات العسكرية واستبداد " التقدميين" لعدّة عقود والحُكم الوراثي قي الأنظمة الملكية والجمهورية.

هل سيهتدون أم أن طريق العناد المحفوف بالبغض والمصالح والخوف من المحاسبة لا نهاية له؟