كلاّ .. ليست السياسة هكذا !

 1)

بعضهم يَعدّ الكذب والغش والخداع والمكر والخبث .. فهلوة وذكاء ودهاء ..!

وبعضهم يعدّها سياسة ..!

وبعضهم يَعدّها لبّ السياسة ..!

 وبعضهم يَعدّها من الأركان الأساسية في العمل السياسي ..!

 وينطلق كل منهم في كل اتّجاه ، يحطب في كل حبل ، ويحلب في كل إناء ، ويسبح في كل ماء ، ويأكل من كل وعاء ، ويظهر للناس بألف وجه ، ويحدّثهم بألف لسان ..! ويحسب نفسه يخدع الجميع .. غافلاًعن أنه وضَع نفسه في موضع احتقار الجميع ، وسخرية الجميع ، وتندّر الجميع ، وحذَر الجميع !

 2)

 وبعضهم يرى أن الأصل في السياسة ، حسن الخلق عامّة ، إلاّ ما اقتضت مصلحة الحكم تجاوزه ، من أخلاق حميدة .. واحتاجته مصلحة الحاكم أو الدولة ، من وسائل غيرحميدة ، لتحقيق غايات يرونها ، هم ، نبيلة .. أو تحقّق لهم مصلحة ، يرونها ضروية لهم ! وهذا مبدأ ماكيافيللي ، وتلاميذه في العصورالتي تلت عصره ! فهم يسوّغون كل وسيلة يرون فيها مصلحة لهم ، أو لحكمهم ، أو لدولتهم .. بصرف النظر عن طبيعة هذه المصلحة ، وما إذا كانت حقيقية أو متوهّمة ، فردية أو عامّة ، حسنة أو سيّئة ، قويّة أو ضعيفة ، راجحة أو مرجوحة !

 3)

وبعضهم يرى أن الأصل الراسخ في السياسة ، هو الخلق الكريم ، السامي النبيل ..! وأن هذا الأصل ، لايسوغ تجاوزه ، ألبتّة ، إلاّ في حالات خاصّة جداً ، ضرورية جداً ،

 تقدّر بقدَرها ! وتزول الحالة ، بزوال الضرورة الملجئة إليها ! والأمثلة على ذلك كثيرة. منها ، على سبيل المثال : إباحة أكل الميتة ، للإنسان المشرف على الهلاك جوعاً ، بالقدر الذي يحفظ حياته من الفناء ! ومثلها : الضرورات التي تلجئ الحاكم إلى حفظ الدولة ، من الأخطار المتوقّعة ، المرجّحة الحصول .. وتبيح مخادعة العدوّ ، للتغلّب عليه ، أو اتّقاء خطره وشره ! وفي ذلك يقول الحديث النبوي : ( الحرب خدعة !) .

 وإذا كانت حالات الضرورة الفردية ، يفتي فيها العلماء للأفراد ، في الأحوال التي هم فيها .. فإن حالات الضرورة العامّة ، يفتي فيها الفقهاء ، الثقات في دينهم وخلقهم وعلمهم .. بعد تداراس حالات الضرورة ، مع أصحاب القرار في الدولة ، الذين يفترَض فيهم الوعي والصلاح ، والإخلاص والورع ، والحرص على مصلحة الوطن وأبنائه ، وعلى إنسانية الإنسان ، حيثما كان ! واضعين في حسابهم ، أن الضرورة لاتخرِج صاحبَها عن حدودها ، في التعامل مع الأحداث والأشخاص ، ملتزمين بالقاعدة الأصولية الشرعية : ( الضرورات تبيح المحظورات). 

 وهذا هو ، عامّةً ، منهج الأنبياء ، وأتباعهم الصادقين الخلّص !

 4)

 الموازنة بين مبدأ مكيافيللي : (الغاية تبرّر الوسيلة ) وبين المبدأ الإسلامي : (الضرورات تبيح المحظورات ) تظهِر ، بوضوح ، الفرق الكبير، بين ضوابط الشرع الإسلامي الحنيف .. وبين الأهواء التي تَحكم أصحاب القرارات والمصالح ، غير المقيّدين بقيود الشرع الربّاني ، الذي يحدّد الضرورة ، ويقيد التعامل معها ، ويشترط أنواعاً معيّنة من أخلاق البشر، للإفتاء بها ! فهي تقدّر بقدَرها: زماناً ومكاناً وأشخاصاً !

 5)

 مايجري اليوم ، في عالم السياسة ، منفلتاً من كل قيد ، ومن كل خلق .. هو كالذي يجري في الكثير من مناحي الحياة الأخرى ! وهو الذي أشرنا إليه ، وإلى أصحابه ، في البند الأول من هذه السطور! فهل يعَدّ هذا من السياسة ، في أيّ باب من أبوابها ، وضمن أيّ مقياس من مقاييس التعامل الإنساني: العقلية ،أو الخلقية ،أو الإنسانية .. عامّة !؟

الجواب ، بكل بساطة : لا.. ليست هذه هي السياسة ، وليست من السياسة ! وإلاّ لكان الشعار الأبرز للسياسة ، أو المعنى الأول والأصلي لها ، هو: السقوط ، أو الدناءة ، أو الانحطاط ، أو أيّ معنى من معاني الهبوط الإنساني ! وما نحسب أحداً يقول بهذا ، حتى الهابطون أنفسهم !

وسوم: العدد 738